تمهيد
بعدما تراجعت قابليّتي على الكتابة والطبع على اللابتوب بتقدّم العمر الذي أخذ مأخذه وأثَّرّ سلباً على ناظريّ، فقد رأيتُ الأنسب أن أعود لمذكراتٍ سطّرتُها بواقع المئات من الصفحات في سابق الأعوام، لأعرض البعض منها أمام المتابع الكريم لأوضاع العراق في الستينيات من القرن المنصرم، عسى أن تكون ذات فائدة للإطلاع على تأريخه وطننا القريب فلا تؤول نحو النسيان.
لقد عاصرتُ السيد “عبدالرحمن محمد عارف” عن بُعد ثم ببعض القرب وقتما غدوتُ ضابطاً في الحرس الجمهوري (تموز/1964- تموز/1966) حينما كان سيادته برتبة لواء يشغل منصب رئيس أركان الجيش (وكالةً)، كونه غير حاصل على شهادة كلّية الأركان ولا يحمل شارة الركن، قبل أن يأتي به القدر ليضحى رئيساً للجمهورية العراقية بعد مصرع شقيقه “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” في حادث طائرة الهليكوبتر -المثير للجدل والنقاش لحد الآن- مساء يوم (13/نيسان/1966).
إقحام السياسة في الجيش
حسب متابعاتي المتواضعة لتأريخ العراق الحديث خلال القرن/20، أن القوات المسلحة العراقية قد إقتحمتها السياسة منذ راق لضباطها تحكّمهم في أمور البلاد بعد “شبه الحكم العسكري” الذي أُقيم في العراق إثر “إنقلاب الفريق وتلته “حركة رشيد عالي الكيلاني” عام (1941) بالإتفاق مع العقداء الأربعة المعروفين، وذلك قبل أن ينبثق “تنظيم الضباط الأحرار” تباعاً ويمسي “الزعيم الركن عبدالكريم قاسم” على رأسه منذ عام (1956) في “معسكر جلولاء” -بحكم قِدَمِه العسكري وليس وفقاً لتأريخ إنخراطه بالتنظيم- وقد تلاه بالقِدَم العسكري -ضمن التنظيم كذلك- “العقيد الركن عبدالسلام محمد عارف” في ذات المعسكر.
تلك الإنقلابات وما تلاها -وبالأخص (14/تموز/1958) وتعيين حاكم عسكري وفرض الأحكام العرفية طيلة (4,5) عاماً، لم يجعل القادة العسكريين يتمتعون بالقِدح المعلّى والكلمة العليا في حكم البلاد فحسب، بل أن زعماء الأحزاب السياسية إستشعروا أن السبيل الأبسط والأوفر وقتاً وشبه الأضمن للقفز السريع على كراسي الحكم والإستحواذ عليها بين عشية وضحاها يكمن في كسبهم لقادة عسكريين ينفذون مآربهم، أولئك الذين بدورهم سينظّمون مرؤوسيهم ويحرّكون تشكيلاتهم ووحداتهم للسيطرة على مقاليد السلطة ربما في غضون ساعات أو خلال يوم واحد فحسب.
هل كان لـ”عبدالرحمن عارف” دور في (١٤/تموز/1958)؟؟
لقد عرجتُ في مقالة سابقة عمّا زُعِمَ عن الدور المزعزم لـ”العقيد عبدالرحمن عارف” في إنقلاب (14/تموز/1958)، من حيث الإدعاءات التي أشارت نحو كونه بمنصب “آمر كتيبة مدرعات” في “معسكر الوشاش” ببغداد، والتي حسمت الموقف بإحدى مدرعاته لصالح الإنقلابيين عند محاصرتهم قصر الرحاب الملكي.
إلاّ أني سمعتُ شخصياً من ((إبن عم والدي “العقيد مصطفى بك عبدالقادر”، وصديق عمره “الزعيم/العميد جمال كمال”)) وآخرين ممن كانوا أصدقاء وزملاء أو بدورات ورتب مقاربة مع السيد “عبدالرحمن عارف” في أعوام الأربعينيات والخمسينيات، أنه لم يشترك مطلقاً في إنقلاب (14/تموز)، بل كان آمراً لكتيبة المدرعات التابعة لفرقة المشاة/3 بمعسكر “جلولاء”، ولم تكن الكتيبة -بالطبع- ضمن وحدات لواء المشاة/20 التي تحركت فجر ذلك اليوم عبر “بغداد” في طريقها نحو “الأردن” ونفـّذت الإنقلاب العسكري بقيادة “العقيد الركن عبدالسلام عارف”.
بل وقد أكّد البعض من أولئك أن “العقيد عبدالرحمن عارف” لم ينتـَمِ مطلقاً حتى لـ”تنظيم الضباط الأحرار” الذي كان ذراعه الأقوى في “معسكر جلولاء” حيث “الزعيم/العميد الركن عبدالكريم قاسم” آمر لواء المشاة/19، والذي أضحى زعيماً لهذا التنظيم بحكم القدم العسكري على ما ذكرناه.
وقد تطرق السادة “ناجي طالب” و”صبحي عبدالحميد” و”رجب عبدالحميد” و”إبراهيم خليل حسين” -وأربعتهم ينتمون لحلقات تنظيم الضباط الأحرار في الخمسينيات- إلى تلك الحقيقة لدى لقاءاتي المتكررة معهم في مساكنهم منذ أواسط (1997) وتوطـّد علاقاتي بهم لغاية وفاتهم تباعاً، رحمة الله على أرواحهم جميعاً، إذْ أكدوا جميعاً أن “العقيد عبدالرحمن عارف” لم يكن قد إنتمى مطلقاً لـ”تنظيم الضباط الأحرار”… وأن هذه المزاعم -ربما- أُلصِقت به على يد البعض من المتزلـّفين-المتملّقين لإظهاره بمظهر ((الثوري-القومي-العروبي)) وتلميع صورته وإبرازه ذا رؤية ثاقبة ونظرة مستقبلية وحاقداً على النظام الملكي المرتبط بالغرب.
ولكن هذه الإدعاءات -حسب قول أولئك- عارية عن الصحة، فالرجل كان: ضابطاً هادئاً-متواضعاً-متزناً-مهنياً-حرفياً لا شأن له بهذه الأمور!!!
مزاعم مضافة عن التنظيمات السياسية
لستُ دَعِيـّاً بشكل مطلق -بفضل الله سبحانه- لأقول أني كنتُ متابعاً لأمور السياسة والأمن خلال خدمتي ضابطاً برتبة “ملازم ثانٍ” بالحرس وفي حماية القصر الجمهوري وضابط تشريفاته والحفاظ على النظام السياسي القائم في العراق… لكني لا أنكر كوني (فضولياً) في الإطلاع على محتويات أضابير البريد السري التي كانت تردني من السيد الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” بعد منتصف الليل وقتما أكون خافراً في “تشريفات القصر”، وبالأخص البريد المتعلّق بالأوضاع السياسية والأمنية وهوامش السيد الرئيس على تقاريرها الصريحة والدقيقة.
لذلك فإن الذي سأسرده في الصفحات اللاحقات هو ثمرة متابعات عقود لاحقات، وبالأخص ما سجّلتُه من أحاديث في لقاءاتي المتكررة مع السيدين “صبحي عبدالحميد وهادي خمّاس” في أواخر التسعينيات، بأن الأحداث وتطورات الأمور بُعَيدَ نجاح حركة (18/ت2/نوفمبر/1963) جعلت الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” لا يكتفي بمؤازرة “كتلة الضباط القوميين” له بمثابة تنظيم سياسي-عسكري وحيد يمكن أن يتحكّم لوحده في أمور الدولة، بل ينبغي إستحداث تنظيمات أخرى كي تتوازن الأمور وسط القوات المسلحة.
ولذلك أوعز بشخصه إلى قادة عسكريين آخرين بتأسيس “كتل عسكرية-سياسية” وسط القوات المسلحة تعتمد الولاءات الشخصية أو العشائرية أو الإقليمية/المناطقية في العراق… فكان من ضمنها خلال عام (1964) لوحده -وبعلم الرئيس “عبدالسلام” ومباركته- أن تمّ تأليف الكتل الآتية:-
كتلة شقيقه “اللواء عبد الرحمن عارف”:- وقد ضمّت كلاً من “المقدم الركن عبدالرزاق سعيد النايف” معاون مدير الإستخبارات العسكرية و”المقدم الركن إبراهيم عبدالرحمن الداود” آمر فوج الحرس الجمهوري/2، قبل أن ينتقل ولاؤهما الى “العميد الركن عبدالغني محمد سعيد الراوي” قائد الفرقة/4 قبل تعيين الأخير وزيراً للزراعة في (16/3/1964) ثم سفيراً لدى وزارة الخارجية يوم (14/11/1964)… وقد إعتمدت هذه الكتلة ضباطاً ينتمون الى منطقة “الدُلَيم✯، ويرتبط أحدهم بالآخر بأصول عشائرية أو مناطقية.
كتلة “العقيد الركن بشير عبد الرزاق الطالب”:- الذي شغل منصب آمر لواء الحرس الجمهوري طيلة عهد الرئيس “عبدالسلام عارف”، إذْ إعتمد على ضباط ينتمون الى لواء/محافظة الموصل… وقد تشكلت أساساً إبان عهد “الزعيم عبدالكريم قاسم” وقتما إجمع العديد من الضباط الموصلّيّين وأقسموا اليمين على الإنتقام والثأر من الشيوعيين واليساريين الذين أستباحوا مدينتهم إثر فشل “حركة العقيد الركن عبدالوهاب الشوّاف” يوم (8/3/1959)… إذْ أمره الرئيس “عبدالسلام عارف” بإعادة تنظيم هذه الكتلة عام (1964)، والتي ظلّ ولاؤها لشخص “اللواء الركن عبدالعزيز العُقَيلي” وزير الدفاع اللاحق في حكومة السيد “عبدالرحمن البزّاز” معتبرينه “الأب الروحي” لهذه الكتلة.
كتلة “العميد سعيد صليبي”:- عضو المجلس الوطني لقيادة الثورة وقائد موقع بغداد وآمر الإنضباط العسكري العام الذي إستند على عدد من أصدقائه الحميمين من الضباط المنشقين عن حزب البعث قُبَيلَ تنفيذ حركة (18/ت2/نوفمبر/1963).
ولكن الكتل الثلاث المذكورات لم تكن لها قواعد شعبية ومدنية، وربما لم تؤسس لها خلايا في عموم تشكيلات الجيش والقوات المسلحة ووحداتها، إنما إعتمدت على أشخاص ذوي نفوذ ومناصب عسكرية مؤثرة داخل “بغداد” وضواحيها فحسب… وقد شاءت الأقدار أن تم تحريكها لفرض السيطرة على “بغداد” في منتصف (أيلول/سبتمبر/1965) فأفشلت تلك المحاولة الإنقلابية التي عزمت “الكتلة القومية” بقيادة رئيس الوزراء “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” الإقدام عليها.
آراء سديدة بشأن التنظيمات
ولكني وقتما سردتُ هذه الأقوال على أسماع السيدين “ناجي طالب وخليل إبراهيم حسين” فقد أنكرا علمهما بهذه الكتل رغم قربهما من شخص الرئيس “عبدالسلام عارف” وشخوص السادة “عبدالرحمن عارف، وسعيد صليبي وبشير الطالب” وإطلاعهما عن كثب على مجريات الأمور في العراق بحكم المناصب التي تبوّأوها في أواسط الستينيات، رابطَين مثل هذه التقولات بالخلافات العميقة التي فرضت أوزارها بين الرئيس “عبدالسلام عارف” حيال “كتلة الضباط القوميين/الناصريين” التي شكّلها السيد “صبحي عبدالحميد” قبل أن يتزعّمها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق”، لا سيّما أن كلاهما كانا يتمنّيان أن تبقى كتلتهم “تنظيماً عسكرياً مُسَيَّساَ وحيداً” يتحكّم في القوات المسلحة وأمور الدولة العراقية.