قبل خمسة شهور كان الكثير من العراقيين يعتقد بأن مظاهرات الانبار لاتعدو كونها ظاهرة احتجاجية يمكن فضها بتلبية مطالب المتظاهرين المشروعة والمعقولة , ولكن تلك كانت نظره الى السطح وليس الى الاعماق .غير ان المراقب السياسي كان يرى غير مايراه الاخرون , فالمهم عنده ماكان يجري في الخفاء.
ولكن المظاهرات استمرت وزاد عديد المتظاهرين وتجاوزت التوقعات بأمرين أولهما : استمرارها لمدة شهر , وهذه حالة غير معروفة في المجتمع العراقي الذي كان يوصف ب( مجتمع الفورات) .اما الامر الثاني : فهو ان مطالب الجماهير التي لم تكن تتعدى اقامة العدل وتحقيق المشاركة والاصلاح قد تصاعدت الى حد المطالبة بالتغير واقالة او استقالة رئيس الوزراء !
ومع ذلك ظل الكثير من حسني الظن يعتقدون ان تصعيد المطالب انما هو لغرض الحصول على حقوق تامة من الحكومة المركزية وبعدها يتم التنازل عن (ارحل) من قبل الطرف المتظاهر .
غير ان المراقبين , لم يروا في تصعيد المطالب واستمرار المظاهرات وفي اتساعها لتشمل محافظات اخرى ( نينوى وصلاح الدين وبعض مناطق كركوك) . لم يروا في ذلك حالة عفوية او حتى عناداً من قبل زعماء المتظاهرين , بل ان ( وراء الاكمة ماوراءها ) كما يقول العرب . ولم يستبعدوا منذ اليوم الاول لانطلاق المظاهرات , ان تكون هناك مخططات اجنبية لتقسيم العراق ,وبالطبع هذا المخطط لم يعرف
تفاصيله معظم المتظاهرين .
بعد شهر ثم شهرين وثلاث واربع الى ان انقضى الشهر الخامس ,بانت الحقائق الواضحة وانسحب حسنو النية من ( ساحات العز والكرامة ) وخلت الا ممن يعرفون ماذا يريدون ! واتضح انه حتى التغيير لم يعد يكفي لاقناع الباقين في الساحات على مغادرتها. وبان ايضا انه حتى دعوات اقامة الاقليم التي اطلقت هنا وهناك لم تعد ترضي قادة المتظاهرين الجدد, بعد ان غادر القادة الاوائل حفظاَ لارواحهم جراء التهديدات المباشرة لهم بالقتل كونهم سياسون وكانوا سياسون وكانوا قد شاركوا ( الروافض ) في الحكم ! فهرب من هرب وتوارى في بيته من توارى , بعد ان اعلن بان السياسين من اهل الانبار والموصل وكركوك لايصلحون لتمثيل ( اهل السنه) في اي مفاوضات مع الحكومة الاتحادية !
المطالب الان اختلفت , ورجال المعارضة الجدد غير السابقين ممن قادوها في الايام الاولى .وبدأت رايات القاعدة السوداء ترفرف على رؤوس المتظاهرين , وصار الخطباء الجدد يتحدثون بلغة عربية لكنها غربية عن اهل الانبار والموصل وكركوك وهي لغة اقامة ( دولة العراق الاسلامية )!
وحدثت مصادمات بين القوات الحكومية في لانبار والحويجة ونينوى , واختطف جنوداَ لغرض استفزاز الجيش لجره الى صدام واسع النطاق مع اهل المحافظات الغربية الذين فرضت عليهم (قناعة) وهي انه لابد من حرب لاسقاط حكومة بغداد ( الرافضية)! والذي لا يوافق على هذا, ماعليه الا أن يرحل أو ينحر أن أقتضت ( المصلحة الاسلامية) ! ثم تصاعدت الامور الى تدفق المئات من معارضي النظام السوري لزيارة (ساحات العز والكرامة). تلا ذلك ذهاب المئات من العراقين للقتال الى جانب (قوات النصرة) السورية المناوئه للحكم ( العلويين) في بلاد الشام.
وبان الخيط الابيض من الاسود ، بعد أن صار مباحاً للمتظاهرين وخطبائهم القول بأنهم (يجاهدون ) لاسقاط النظامين الشيعيين في العراق وسورية.
لكن ، الصورة القاتمة هذه غير متكاملة ، فهناك صورة أخرى قيد (التظهير ). وهي أن زعماء القبائل العراقية الأصلاء في المحافظات الغربية وكركوك على الضد لما يجري هناك ، مع أنهم على الضد أيضاً لسياسة الحكومة المركزية غير المبالية بما يجري في المحافظات الغربية .
هناك عملية تتم بحذر وحرص وسرية تامة ضد زعماء العشائر المناوئين للطروحات الجديده الداعية لاقامة دولة ( اسلامية ) في المناطق الغربية تمهيداً للتوجه الى بغداد ( وتحريرها) لاقامة (الدولة الاسلامية ) في العراق الكبير . وقد وجد زعماء المظاهرات الجدد ان العقبة الاولى التي يفترض عليهم ازالتها هي زعماء العشائر الاصلاء وليس اولئك الغوغائين الذين ظهروا في وسائل الاعلام مؤخراً . وعلى اساس الاوليات , فالمهم عندهم سحب السلطة العشائرية من الزعماء العشائريين تدريجياً ومن دون ضجة , وسحب الثقة يتمثل في العمل على جعل المواطن هناك ينتقل في ولائه لزعيم العشيرة الى زعيم المنظمة السياسية الدينية المتطرفة(القاعده) كمرحلة اولى . وأن نجحوا في ذلك ، فأمر زعماء العشائر يصبح هيناً ،وما عليهم الا تأيد الاتجاه العام ، والا فالموت ينتظرهم !
ومن هنا ، يمكن تصور ما على الحكومة الاتحادية أن تعمله لمواجهة هذه المعضلة. وموقف حكومة بغداد هنا شديد الحرج ! فتأييدها لزعماء العشائر علناً يضع هولاء أمام اتهاماً بالخيانة من قبل القاعدة ورجالاتها. وأعتقد أن تركهم من دون دعم لاينفع أحداً باستثناءالمنظمات المتطرفة المسيطرة الان على عموم المنطقة الغربية . كما ان تنفيذ مطالب المتظاهرين بسقوفها العالية ، سوف لن يكفي لتخليص زعماء العشائر من المأزق الذي هم في لجته الان .
اذن, المشكلة عويصه ، والحلول تكاد تكون محدودة ، وحتى الحرب على سلطة المناطق الغربية الجديدة ، تعد تهوراً غير محسوب العواقب . والامر المعقد هذا يحتاج الى حكمة عند أهل بغداد ، وحكامها وصبر أيوب مطلوب من زعماء العشائر العراقيين الاصلاء .. والله يحفظ العراق وأهله .(يتبع..)