17 نوفمبر، 2024 4:46 م
Search
Close this search box.

مطلب الغيرية بين الاستعصاء والاعتراف

مطلب الغيرية بين الاستعصاء والاعتراف

“الغير هو ذلك الذي ليس هو أنا ولست أنا هو” جون بول سارتر
إن كثرة تداول بعض الكلمات اليوم مثل الآخر والغيرية والتنوع والاختلاف والتعددية لا يعني أن معانيها واضحة ومستقرة وأن المشتغلين بها على بينة من حقيقتها ويدركون التربة التي نبتت فيها وترعرعت بل يجب القول بأن هذه الكلمات ظلت ملتبسة وتحولت إلى مصطلحات فضفاضة يقذف بها في حقول شتى من أجل استعمالها لأغراض معينة وإضفاء مشروعية على اختيارات مبيتة مثل جدل الثقافات وحوار الأديان والتقريب بين المذاهب وحل النزاعات السياسية بالطرق السلمية وتم تهميش فحواها الفلسفي وبعدها الإتيقي ومقصدها الكوني. ما نلاحظه هو وقوع العديد من الكتاب في خلط كبير بين التعدد والتعددية ومساعدتهم كلمة الآخر على حجب لكلمة الغير مثلما تحجب شجرة واحدة الغابة بأسرها ،كما أن الاختلاف قد غطى ثراء الفرق والبين ولفظ الكثرة قد استعمل مكان التنوع، “إذ يتحدث المرء عن وجود الآخر وعن حب الآخر وعن الاهتمام بالآخر الخ… ولكن دون أن يطرح السؤال عما هو ومن يمثل هذا الآخر…” علاوة على ذلك تسود نظرة متمركزة على ذاتها ومفضلة للأنا في مختلف الثقافات والمجتمعات ويكون المقابل هو التضحية بالغيرية ورفض الآخر وشيطنته والتحذير من التعامل معه وحتى إن وقع الاهتمام به فمن أجل الاستفادة منه واستغلاله والسيطرة عليه كما في ترابط الاستشراق بالاستعمار.فكيف نصل إلى نحت معنى أصيل للغيرية؟ من يكون الغير بمعزل عن كل الأحكام المسبقة الأخلاقية؟ ما طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر؟ هل يكون الغير أنا نفسي كآخر؟ ولماذا يرغب المرء في أن يكون معترفا به من قبل الآخرين؟ ما الذي يبرر احترام الغير لنا؟ هل نخشى نظرة الغير أم حكمه؟ هل يمكن احترام الغير دون الحكم عليه سلبا أو إيجابا؟ هل يمكن إقامة علاقة مع الغير دون هيمنة وتسلط من طرف على طرف؟ وماهو السبيل المفضي إلى تعددية قادرة على التعبير بشفافية عن كثرة المسالك المفضية إلى إثبات الإنية؟ وهل من الممكن فعليا تصور وجود ذات بشرية تجمع بين تنوع الوحدة ووحدة التنوع؟ما نراهن عليه هو تفادي الأنانة والشمولية التي ترفض التعرف على الغير من حيث هو غير والإقرار بأن الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا والأنا عينه وأن الذات لكي تحصل على حقيقتها الفعلية ينبغي أن تمر بالآخر.إن هذا الأمر يدعونا إلى الوقوف على دلالات هذه الكلمات وتحديد مفاهيمها والسياقات التي تنطبق عليها ويمكن حول مسألة الغيرية استخراج أربعة معان:- معنى لغوي: تفيد كلمة غير في لغة الضاد سوى وليس أي الاستثناء والتميز والاختلاف وهي متماثلة مع كلمة آخر وتحيل على ما لا يكون أنا. في اللاتينية نجد Alter وتفيد الآخر وتقابل الهوية، أما في الفرنسية فنلاحظ وجود فرق بين آخرAutre الذي يدل على كل ما يختلف عن الذات بالمعنى الواسع وغيرAutrui الذي ينحصر في مجال الإنسان بالمعنى الضيق المقتصر على الإنسان الآخر.- معنى أنطولوجي: مبدأ الغير مقابل لمبدأ الهوهو ويعني أن الشيء لا يستمر هو هو بل يمكن أن يكون هوهو ويمكن أن يكون مخالفا له لاسيما وأن في البدء يكون الغير والتطابق أمر عارض.- معنى تاريخي: الانطلاق من الوجود التاريخي للغير يعني أن الذات منخرطة في الحياة وموجودة في العالم وأن إثباتها لإنيتها عملية جدلية ومسار تاريخي من أجل انتزاع الاعتراف المتبادل مع الآخر. – معنى ثقافي: الغير هنا ليس فقط الشخص الانساني الآخر بل وأيضا المجتمع الآخر و الثقافة المباينة وأن العلاقة ينبغي أن تتم في إطار احترام الخصوصية والمشاركة المتساوية في صناعة الكونية والاحترام المتبادل في إطار حوار وتحالف الحضارات دون تصادم أو تمركز.”في الواقع اذا كان الآخر غير ممكن تعريفه في حقيقته العينية فإنه لا يكون الا أنا آخر وهو ليس غير حقيقي. عندئذ يمكن أن يكون ويحوز على أكثر أو قليل من الأنا. هكذا يمكن أن يمثل الكمال والتمام المطلقين، الآخر: الله، السيد، اللوغوس يمكن أن يعني الصغير جدا والقليل جدا: الطفل والمريض والفقير والقريب ويمكن أن يسمى ما أعتقد أنه مساو لي.” ما نلاحظه أن مفهوم البيذاتية كما وقعه مؤسس الفنومينولوجيا هوسرل كانت الغاية منه إصلاح الكوجيتو الديكارتية وترميم ذاته بتكثيف حمولته الأنطولوجية وإخراجه من عزلته وفتحه على العالم وتأثيثه لفضاء مشترك بين الذوات وتصور الذات كحقيقة مفتوحة على الآخرين وبذل جهد من أجل تجاوز ثنائية الأنا مبدأ السيطرة والآخر موضوع له ولكنه ظل بعيدا عن اكتشاف مفهوم الغيرية لأنه بقي يتصور الذوات الأخرى على أنها نسخ مطابقة للأنا وعلى شاكلته. إن البيذاتية هي علاقة معية وتجاور بين نظائر وكائنات متشابهة وليس بين شخصيات مستقلة ومتميزة عن بعضها البعض وهي تستبعد الذاتية المحضة ولكنها لا ترتقي إلى مستوى الاعتراف بالغيرية الجذرية.ألم يقل أدغار موران:”إن كل واحد منا يحمل داخله أنا آخر يكون في نفس الوقت غريبا ومطابقا لذاته” ؟إن الأنا هو الآخر والآخر ليس دائما وأبدا جحيما كما يقول سارتر بل الجحيم في العزلة ووجود الآخر ضروري لوجودي ولمعرفة نفسي وان إقحام الآخر في الأنا أمر ممكن خاصة إذا تعلق الأمر بتجاوز التخوف والعداوة ونحو الصداقة والمحبة والتعاطف وبناء علاقة سلمية ومنفتحة.إذا كان الغير لا يستطيع أن يطرح نفسه كموضوع للمعرفة بالنسبة إلى الذات فإنها يمكن أن ترى بشكل ملموس وجودها معها وتفكر في إقامة علاقة معينة به لاسيما وأن الإنسان لا يوجد البتة وحده حتى وان كان في عمق عزلته وان العلاقة مع الآخر هي تكوينية بالنسبة للأنا. إن الغير هو العالم والحرية والجسد وتعبير عن عالم ممكن وكما يقول دولوز:”الغير ليس موضوعا داخل حقل إدراكي وليس الذات التي أدركها انه في البدء بنية الحقل الإدراكي والتي دونها لا يستطيع أن يشتغل.” إن الأنا والآخر ليسا أبدا كائنين منفصلين بل توجد صلة بينهما سواء كانت متوترة أم حميمية والغير ليس إذن الآخر الذي يقابله الأنا في تجربته بل هو المرآة التي يرى من خلالها نفسه ويكون تجربته بالأشياء ويوجد في العالم. إن الغير ليس مجرد وعي وإدراك بل ذات مطروحة في المواجهة وتنكشف من خلال النظرة وتتميز بالحرية كنمط جذري من الكينونة وبالرغبة في التملك والاستحواذ والهيمنة.بيد أن العلاقة مع الغير تفترض من الناحية الأخلاقية الاعتراف بوجود جانب في الآخر يستحق الاحترام والتقدير مما يجعله موضوع اعتراف بإنسانيته. عندئذ ينبغي تفادي الأداتية في بناء العلاقات الإنسانية وبين الكائنات بصفة عامة ويجب ألا يكون الآخر مجردة وسيلة من أجل تحقيق غايات معينة وإنما من الضروري معاملة الغير كشخص له كرامة وما ينطبق عليه ينطبق علي أيضا.إن الاحترام Respect بهذا المعنى هو ما ينطبق على الأشخاص الذين يعاملون وفق منزلة أرفع من الأشياء والاحترام ليس مجرد حب وإعجاب بل واجب وفضيلة تؤسس لعلاقة تكامل وتبادل للمشاعر النبيلة بين الطرفين وقد قيل عاش من عرف قدره وباحترام الآخرين تحترم نفسك وتجد من يحترمك.فكيف يكون الإنسان على شاكلة غيره في نفس الوقت الذي يبقى فيه عند ذاته على حد تعبير بول ريكور؟ وهل يمكن أن تنتقل العلاقة مع الآخر من علاقة بأنا آخر إلى علاقة مع آخر الأنا؟ وكيف نتجاوز العداوة والانتفاعية إلى الصداقة والتواصل؟إن تثمين دور الغيرية هو الاعتقاد بأن الذات لا توجد بحق إلا بقدر ما تعتبر نفسها موجودة بالنسبة إلى الآخرين. إن الغير موجود وليس موضع معرفة أو مجال للممارسة الإيثار وتطبيق القواعد الأخلاقية ومضومنه يتغير بتغير المقاربات وإذا كان في الفلسفة القديمة يعنى الطفل والمرأة والبدن والأرض والغريب وإذا أصبح في الفلسفة الحديثة يدل على اللاأنا والجسد والخيال والمتوحش والحيواني والماورائي فإنه في الفلسفة المعاصرة بات يعرف باللاوعي والمجهول واللامحدود والعدواني والنسوي والليلي والمدنس والطبقة والغريزة والتاريخ والزمان.” هذا التعالق بين الأنا والآخرين يخرج عنهما معا:1- صيغة تجريم الآخر وتبرئة الأنا2- صيغة احتقار الأنا وإيثار الآخر3- بناء صيغة ثالثة: حماية كل منهما دون استبدال جهنمية الآخرين بفردوسية الأنا.العلاقة بين الأنا والآخر ليست علاقة شيطانية/ ملائكية بل هي علاقة بشر يخطئون ويخونون ويتواجهون ولكنهم يلتقون أيضا ويتفقون في ما بينهم في الحب وفي العمل وتستجيب الأحداث لإرادتهم. إنها علاقة حية بين أحياء لا يصح أن نطبق عليها معايير الموت فنحن نموت وحيدين ولكننا نعيش مع الآخرين، إننا الصورة التي يحملونها عنا وهناك حيث هم نكون نحن أيضا.” لكن كيف يكون الغير هو في نفس الوقت المماثل والمباين لي؟ كيف يتميز عني بخصائصه الفردية وانتماءاته العرقية والدينية ويشبهني في اهتماماته الفكرية وسماته الإنسانية ويقاسمني نفس القيم الكونية؟ ماذا نقصد بالغيرية الجذرية؟ وهل يعني ذلك التمييز بين الغيرية البعيدة والغيرية القريبة؟ كيف تتحول الغيرية إلى شرط إمكان تحقيق الإنية الفعلية بماهي بلوغ الأنا درجة الوجود الأشرف؟ ومتى نتخلى عن وهم الاعتقاد في إمكان تحقيق الإنية بإقصاء كل أشكال الغيرية؟
المراجع:
Deleuze Gilles, logique du sens, Editions. De minuit,Paris, 1969

Edgar Morin, l’humanité de l’humanité, Edition, du Seuil, Paris , 2001Luce in Garay, J’aime à toi, édition Grasset Paris 1992.

د عبد العزيز العيادي، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلو-بونتي، صامد للنشر والتوزيع، صفاقس، 2004،

أحدث المقالات