قبل إعلان الحرب على العراق بوقت طويل، صرّح مسعود بارزاني الزعيم الكُردي، أن ضرب العراق لا شك فيه، و لكن الضرب متوقف على الوقت و الكيفية. في عام 2003 ضُرب العراق و سقط، ثم دمّر تدميرا هائلا. قبل أيام، و في إجتماع مع قادة حزبه و مسؤوليه، أبلغ بارزاني أن ضرب إيران مؤكد تماما و لكنه لا يعرف التوقيت و الكيفية. تصريحات هذا الرجل صادقة و تحمل كثيرا ما خطرا حقيقيا. فهو كسياسي، معروفٌ بصدقه و صراحته، ويُقال أنه لا يقول جزماً ماهو غير مؤكد. إذن ضرب إيران، و في ظل أجواء الحشود العسكرية الأمريكية و التصريحات الكثيرة المرافقة لهذه الجلبة، توحي أن الحرب محتملة الحدوث بدرجة أقرب إلى واقع مستَشرَف بيقين. وليس مرد هذا اليقين السياقُ الراهن الذي تقرع فيه طبول الحرب، ولكن فضلا عن توكيدات واضحة من قبل المطلعين على الحقائق غير المعلنة، مثل مسعود بارزاني؛ فإن قراءة عميقة ومتأنية لتأريخ المنطقة و سياساتها منذ القدم، تعطي للمراقب الذخيرة الكافية لتكوين الصورة التي تنتظر هذه المنطقة التي تعيش جراحات كثيرة ومزمنة، وأكثرها غورا الجرح الداخلي الذي ينبع من داخلها حيث أحشاء متورمة بالجهل و الصراع و الفساد والدمار.
الحروب العسكرية تقرر مستقبل التأريخ
هناك حروب كثيرة عبر العصور رسمت التأريخ، وقررت كيف تكون ملامح المستقبل. والسؤال الجوهري الذي يثير النقاش العميق والجاد، هو ماذا لو كانت نتائج هذه الحروب على عكس ما كانت عليه! حروب اليونان والفرس، الروم ضد المسلمين (يرموك مثلا)، المسلمون والغرب (معركة بلاط الشهداء مثلا)، معارك غربية كثيرة بين قواها المتعددة من جانب، وبينها وبين قوى غير غربية من جانب آخر، هي بعض قليل من نماذج الحروب التي غيرت مستقبل البشر. ولو كانت نتائج هذه الحروب مختلفة لكان حاضرنا بكل تأكيد مختلفا!
من هذه الحروب التي رسمت المستقبل، هي حروب الرومان مع القرطاج. فحين كان هانيبعل، القائد القرطاجي، على وشك أن يقتحم روما، بعد أن دمّر جيشها في الحروب الثلاث وهي “حرب نهر تريبيا” و “حرب بحيرة تراسيمينو” و الأكثر فتكا و ضراوة “حرب كانيي” حيث قضى هانيبعل فيهن على كامل القوة الرومانية؛ نجد القائد القرطاجي يترك روما تتعافى، في أغرب حالة تأريخية حيرت كل المؤرخين. هانيبعل لم يستثمر هذه الإنتصارات الساحقة، ليقضي على روما نهائيا، فترك المجال لروما أن تبني نفسها في السنوات اللاحقة من قاع الصفر، فتقوم هي بالواجب و تهزم هانيبعل في “معركة زاما” ثم تزحف بعدها إلى قرطاج لتدمرها إلى الأبد، حيث لم يترك الرومان فيها حجرا على حجر. ومنذ ذلك التأريخ، يطبق الغرب مبدأ العبرة من التأريخ. فالقوى الغربية منذ حروب الذعر من قبل هانيبعل ضد روما، ومن ثم معركة الثأر في زاما و تدمير قرطاج التي كان فيها أكثر من نصف مليون نسمة في عام 202 ق.م، تشن حروبها بروحية إبادة العدو حتى النهاية. لذلك فإن القوى الغربية، مارست أبشع أنواع الإرهاب والتوحش والإبادة ضد الشعوب التي شنت عليها الحروب على مر العصور.
إمريكا و منطقة الشرق
الحملة الأمريكية في وقتنا الراهن على منطقة الشرق، ليست جديدة و لا هي معزولة عن التأريخ الماضي. إنها حملة مدروسة و دقيقة و متصلة بتأريخ طويل يمتد من العهد المسمى بالإستعماري، و قبله المرحلة الصليبية، و قبل ذلك، أي في عصور ما قبل الميلاد، حيث كان الغرب يشن حملاته عن طريق الدولة الرومانية. و لكن يجب أن ننتبه، إلى أن الحملة الجديدة لا علاقة لها بالمسيحية، بل إنها تستخدم المسيحية كوسيلة إضافية لتحقيق مآربها وأهدافها. الحملة الجديدة تستمد عناصر تكوينها من نتائج الأفكار والفلسفات الحديثة، ومن أهمها العلاقات الدولية التي تقول بحتمية الدولة أو الحكومة العالمية ذات المعايير و القيم الموحدة لإقامة “السلم و العدل و الحرية!”. و تعتبر القوى الغربية بقيادة أمريكا أنها المؤهلة الوحيدة فقط لتحقيق هذا المستقبل المرجو. وفي هذا السبيل لم ولن تدخر جهدا لتحقيق هذا الهدف. ومن الأهداف الأولية تأتي ضرب الدول و الكيانات الكبرى في الشرق، سواء كانت دول و كيانات قومية أو دينية أو ديكتاتورية أو ديموقراطية. الغرب يريد فوضى منظمة في منطقة الشرق، ونظاما مليئا بالفوضى، يمنع أي سبيل نحو البناء الذاتي وتطوير أسس التأريخ والحضارة. ومن أوليات الفوضى المنظمة يأتي الحفاظ على مصادر الطاقة وحمايتها، وضمان وصولها إلى الغرب مجانا أو شبه مجان، كما هو واضح للعيان. وما بعد ذلك، لا يهم الغرب سوى أن تبقى الفوضى عارمة ومستمرة، تنزف شعوب و بلاد الشرق.
يستفرد الغرب بقوى المنطقة، عبر الإستفادة من التناقضات و الصراعات الموجودة بينها. فاستفرد الغرب بالعراق، واستطاع أن يعزل أي تعاطف معه، ثم الأنكى حشد طاقات و قوى المنطقة لصالح حملته الآثمة التي لولا معاونة قوى الشرق لما انتصرت. ونفس الواقع سبق وأن حدث في أفغانستان، منذ عام 1979، وإلى حيث تم تدمير البلد بشكل مستمر، إلى حد تلبيسه لباس قرون ما قبل التأريخ، في عملية مقصودة يراد للمنطقة أن تبدو بهذا الطراز المنبوذ، كجزء لتثبيت وتصديق أن الدولة أو الحكومة العالمية الغربية هي الوحيدة الصالحة للحاضر و المستقبل! بعد أفغانستان والعراق جاء الدور على ليبيا، فتم تدمير البلد و الإطاحة بقيادته. تزامنا مع هذا، تم خلق الدمار والفوضى في بلدان عدة مثل سوريا واليمن ومصر …الخ.
يقبع في مساحات هذا الدمار والفوضى موت مجاني، وفقر منتشر، وتشرذم كبير وضياع وتيه كبير يعصف بأفراد وجماعات شعوب الشرق. ويبدو اللاجئ الهارب نحو بلاد الغرب، العنصر الأكثر حظا في هذا المشهد البئيس! حبل هذا الدمار والفوضى مازال على الجرار، ويستهدف دولتين كبيرتين في المنطقة، وهما إيران وتركيا.
إيران الأزمة والجرح والحسرة
إيران حضارة كبيرة ومديدة. إنها حضارة المنطقة وذخيرتها. فمنذ تأسيس الإمبراطورية الميدية وإلى يومنا الحاضر مرورا بالدول والإمبراطوريات الإخمينية والكاشانية والساسانية والإسلامية، شارك الكُرد والفرس والعرب والمكونات الأخرى في بناء هذه الحضارة الغنية. شعوب المنطقة تختلف اليوم مع النظام الإيراني. نعم هذا صحيح. قائمة المؤاخذات والإنتقادات والملاحظات على هذا النظام لا تنتهي. هناك قائمة طويلة من الجرائم والأخطاء والكوارث التي تسبب في حدوثها النظام الإيراني القائم. ولكن يجب أن نعي تماما أن هذه الحملة المشؤومة اليوم، ليس من أهدافها القضاء على هذا النظام كهدف أساس، بل تدمير إيران وحضارتها وتأريخها ومقدراتها، كما كان الأمر مع أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا. لذلك، يجب على أبناء هذه المنطقة، وخصوصا في إيران، أن ينتبهوا إلى جوهر الكارثة التي تتربص بهم، ويأخذوا الدروس والعبر من تجارب سابقة ماثلة أمام أعينهم. ويجب على أبناء منطقتنا أن لا يرجوا ذرة خير من حملة أمريكا على إيران، خصوصا تحت ضغط الشعور بالظلم والمرارة والألم الذي عانوه من النظام الإيراني الحالي. فحملة أمريكا، لن تزيد من الظلم والمرارة والألم، إلا المزيد الذي يتمنى لو ظلت الأمور ساكنة في الأمس، لأن القادم سيظل دوما الأسوأ. وهذا هو حال العراقيين والليبيين والسوريين اليوم!
النظام الإيراني والمواجهة
يعيش النظام الإيراني ظرفا شبيها جدا بظرف النظام العراق والنظام الليبي، مع مفارقة المقدرات والقوة بين هذه الأنظمة. إيران اليوم دولة قوية رغم أنها منهكة في حروب المنطقة، وهي حروب كارثية، يتحمل النظام الإيراني مسؤولية كبيرة في صناعتها وتفاقمها. على أي حال، الوقت يستدركنا، ولا مجال للمحاسبة واللوم الآن. فالكارثة التي تنتظرنا عظيمة جدا، وإن وقعت، سيدفع أطفال المنطقة وأجيالها أثمانا باهظة من حياتهم وقيمهم وكرامتهم! من المهم جدا أن لا يكرر النظام الإيراني أخطاء النظام العراقي والليبي، كأن ينتظر قدوم القوات الأجنبية تباغته، فيرد عليها على أرضه وفي بلده. فهلاك العراق جاء، لأن الجيش العراقي الذي كان قادرا أن يسيطر على كافة تراب الخليج، اكتفى في حشر نفسه في بقعة صغيرة وهي الكويت، مما قدم فرصة ذهبية للقوات الأجنبية المنتشرة في الخليج أن تنقض عليه وتحوله إلى ركام. يجب على قادة إيران أن يستفيدوا من الدرس العراقي ودروس التأريخ، ولا يتركوا مساحات الخليج برا وبحرا ميادين مفتوحة للقوات الأجنبية. والأهم من هذا، يجب أن يستدرك قادة إيران ما ارتكبوه من جرم فادح بحق أبناء إيران والمنطقة، فيبادروا على عجل في تصحيح ما يمكن تصحيحه، وإصلاح ما يمكن إصلاحه بكافة السبل والوسائل.
إن سقوط وتدمير إيران، يعني أن القادم هو تركيا. وستكون تركيا أسهل بكثير من إيران، إذا ما تم الإنتصار على إيران لأسباب كثيرة وعوامل شتى لا مجال لذكرها هنا. إن إنهيار هذين البلدين الكبيرين، يعني تعميم الفوضى العارمة، وفتح ابواب جهنم على هذه المنطقة بشكل غير مسبوق. وحينئذ ستتلاشى وتزول كل مقومات الدولة والمجتمع والحضارة في هذه المنطقة، وستكون لعبة بيد القوى العالمية تقلبها فوق فوهات الجحيم. إن الدفاع عن إيران واجب حضاري و وجودي ومستقبلي يتحتم على كل إنسان سوي. والدفاع هنا ليس دفاعا عن النظام الإيراني أبدا. بل هو دفاع عن وجود وكرامة وحضارة هذه المنطقة التي تتعرض اليوم إلى أبشع إرهاب وإبادة، على يد قوى متغطرسة عنجهية وإرهابية، تريد أن تقيم الحكومة العالمية الدكتاتورية على جماجم البشر وجوهر وجودهم وكرامتهم!