تحدث المفكر (Alvin Toffler) في كتابه (Future Shock) الصادر عام (1970) عن نظرية الخيارات الفائضة (Over choice)، والتي يمكن توضيحها من خلال التجربة التالية:
تم وضع (6) أنواع من العسل في كشك لمعرفة سلوك الناس، فكانت النتيجة، أن (40%) من المارة توقفوا وسألوا عن الأنواع، وقام (79%) منهم بالشراء.
بعدها تم وضع (24) نوعاً من العسل في نفس الكشك لكن النتيجة كانت أن (60%) من المارة توقفوا وسألوا عن الأنواع، لكن الذين اشتروا فعلياً (5%) منهم فقط!
ان تعدد الخيارات امام الناس تجعل عقولهم تُصاب بحالة من الحيرة والارتباك مما يؤدي الى تعبها وإنهاكها من التفكير، فيكون قرارها النهائي هو الغاء فكرة الشراء من الأساس، وهذا ما يُسمى بنظرية (الخيارات الفائضة)، والتي لها مصاديق كثيرة في حياتنا اليومية.
وأبرز مثال على هذه النظرية هو ما حصل في بلدنا خلال انتخابات البرلمان عام (2018)، فقد سجلت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات (204) حزب سياسي أشترك اغلبها، ولو عن طريق التحالفات، في الانتخابات، وهذا العدد كبير جداً حتى بالمقاييس الديمقراطية، فكانت نظرية (الخيارات الفائضة) أهم سبب لعزوف الناخبين من المشاركة بالانتخابات، بالإضافة الى أسباب أخرى طبعاً.
إذ ان هذا العدد الكبير من الأحزاب يجعل الناخب متحيراً، خاصة الناخب غير المنتمي لجهة سياسية معينة أو الذي لم يحسم أمره بعد، هذه الحيرة والتعب الفكري تجعل عدم المشاركة أو ابطال ورقة الناخب هي الخيار المفضل لدى أغلبية الناس.
ان وجود عدد كبير من الأحزاب الصغيرة يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، كما ان حصولها على عدد قليل من المقاعد البرلمانية يعرقل تشكيل الحكومات، إذ انها تفرض شروط مبالغ بها وأكبر من حجمها البرلماني لتسهيل عملية التشكيل.
ومثال على ذلك ما جرى بعد الانتخابات اللبنانية لعام (2009)، إذ حصل تحالف (14) آذار على (60) مقعداً وتحالف (8) آذار على (57) مقعداً بينما حصل اللقاء الديمقراطي بزعامة وليد جنبلاط على (11) مقعداً، أي انه الجهة التي ترجح كفة أحد التحالفين في تشكل الحكومة، وفعلاً حصل جنبلاط على الكثير من المكاسب التي لا تتناسب مع حجمه الفعلي.
اما في إيطاليا فقد أدى وجود الأحزاب الصغيرة إلى حالة مزمنة من عدم الاستقرار السياسي، فقد تم تشكيل (58) حكومة منذ عام (1946)، بل ان حكومة (Giovanni Spadolini) التي شكلها عام (1982) لم تعمر سوى (3) أشهر فقط، وسقطت حكومة (Romano Prodi) في البرلمان عام (1998) عندما انسحب منها حزب لديه (3) مقاعد فحسب!
وفي المانيا كان الحزب الديمقراطي الحر يشارك في كافة الحكومات الائتلافية على مدى (50) سنة ويحصل على وزارات سيادية ومهمة على الرغم من حصوله على أقل من (%12) من أصوات الناخبين.
ولتلافي هذا النتيجة تقلص الدول الديمقراطية عدد الأحزاب فيها، فلا تسمح بدخول أي حزب للبرلمان إلا بعد ان يحصل على حد أدنى من أصوات الناخبين، أي انه لا يوجد حزب حاصل على مقعد واحد أو مقعدين في برلماناتها، وتختلف نسبة هذا الحد من بلد الى أخر، اذ ان اقل نسبة هي في هولندا ولا تتجاوز (0.67%) واعلاها في تركيا وتبلغ (10%)، وبينهما إيطاليا (2%)، اسبانيا (3%)، بلغاريا والبانيا والسويد (4%)، وفي بولندا، المانيا، روسيا، التشيك، تونس، استونيا، أوكرانيا وأرمينيا نسبة (5%)، جورجيا (7%)، ليختنشتاين (8%).
ربما يعترض البعض ان هذا يتنافى مع القيم الديمقراطية وحرية الناس في تشكيل الأحزاب، كما يؤدي إلى هيمنة الأحزاب الكبيرة على الحياة السياسية في البلد، وعدم إعطاء الفرصة للأحزاب الصغيرة لكي تنمو وتصبح كبيرة بمرور الزمن، وغيرها من الاعتراضات.
ورغم انها آراء محقة لكن يمكن معالجتها عن طريق اندماج الأحزاب الصغيرة مع بعضها، أو تشكيل تحالفات فيما بينها لخوض الانتخابات، وبالتالي ستكون فرصتها بالفوز أكبر.
ان هذا أفضل حل إذا كانت الدولة امام خيارين: اما تقليص عدد الأحزاب أو عدم الاستقرار السياسي.
ماذا يختار العراق؟