سياحةٌ في ديوان ( مَزاعل للعُتمةِ .. وخفايا للأنباء )
يقول كانت : ( يحتلّ الشعر من بين جميع الفنون الجميلة المقام الاول .. انه يشرح الصدر ويوسّع أفق الروح لانه يطلق الحرية للمخيّلة .. انه يهب النفس قوى جاعلا إيّاها تستشعر قدرتها الحرّة التلقائية .. ) .
فإذا ما عمّ الخراب يوما فسيبقى الشعر واقفا بوجهه مناديا ومطالبا على إعادة صياغة الحياة من جديد وتدوير الأزمنة الموبوءة وتخليصها من العتمة والضَلال وبذر بذور المحبة والسلام في النفوس والعقول بعدما إنتابها الجدب والقحط واليابس . ويبقى الشعراء يناضلون دوما في كل مكان وزمان على البحث عن الحقيقة والوقوف أمام سطوة الشرّ والموت والحروب في زمن سيطرت المادة على كل مفاصل الحياة واصبح الانسان يعيش تحت وطأتها , ويبقى الشعر الرهان الوحيد في بثّ الأمل في النفوس المتعبة كونه يعبّر أصدق تعبير عن مضامين نفسية وينقل الينا أحاسيس ومشاعر الأنسانية في زمن يغلي فوق صفيح القلق والوحدة والأغتراب . لذا أصبح الشاعر اليوم الأشدّ بوحدة الذات والضياع في هذا الأضطراب والوحشة والزحام , فالشاعر اليوم ليس غريبا في هذا العالم وحسب , انما اصبح هذا العالم غريبا عليه , فصار يبحث عمّن يعيد اليه الاستقرار والاطمئان واعادة التوازن وسط كل هذا العماء . ولو تساءلنا كما تساءل / هيدغر / من قبل : ( كيف نسكن العالم شعراً .. ولماذا الشعراء في هذا الزمن الرديء ..؟ ) .
انّ ما يميّز الشاعر عن الانسان العادي هو امتلاكه للغة تختلف عن اللغة اليومية المتداولة بين الناس , اي ان الشاعر يخترع لغة جديدة غريبة ربما تدعو الاخرين ان يغضبوا منها وقد يحاربونها لا لشيء سوى انها تحتاج الى قراءة عميقة وإنصات اليها كونها قريبة جدا من الفلسفة وتحتاج الى صبر ومجالدة لتفكيك شفراتها وقراءة رموزها حتى نصل الى متعة الاكتشاف والتلذذ بسحرها وجماليتها .
انّ قراءة مجموعة الشاعر : قيس مجيد المولى .. مَزاغل للعُتمةِ .. وخفايا للأنباء .. توحي لنا بأنّ الشاعر قد عبّر عن عذاب الانسان وحيرته حتى تجلّى لنا بلغته هذه كفيلسوف أجاد الأبحار في مفاهيم فلسفية وقضايا وجودية في رحلة اكتشفنا عبرها مقدرته في قراءة فلسفة الحياة والموت والوجود وتصوير محنة هذا الانسان المسكون بالخوف وصراعه مع المجهول , وسعيه ان يجعل من الشعر لعبة يمرح فيها الخيال دون سلطة وان يعيد للشعر بعض هيبته التي فقدها .
حينما يجد الأنسان نفسه مجبرا ومحصّنا خلف اسوار شائكة من الأزمنة والأمكنة التي لا يستطيع النفاذ منها والخلاص , فلابدّ له من منافذ وفوّهات من خلالها يستطيع معرفة الحقيقة والعالم وما يجري حوله , ولهذا سعى الشاعر ومن خلال عنوان مجموعته هذه ان يجد له بعضا من المَزاعل الفتحات الموجودة في السور الدفاعي أو البروج أو الحصن تطلق منها السهام أو القذائف , كما تستخدم منفذا لغرض الاضاءة والتهية – كما هو تعريفها لغويا ) سعيا منه لأستنشاق هواء جديد وإضاءة من خلالها يكتشف كنه هذا الحضور وكشف اسرار هذا العالم , فأطلق قصائده هذه كالسهام والقذائف من خلف البروج التي يتحصّن فيها . انّ قصائد المجموعة حسب قراءتي المتواضع لها ولعمق معناها عبارة / مجرد تفسير للمشاهد / و .. مجرد تحديث لتاريخ الأفكار / و .. لما جرى وسوف يجري / في ذات الوقت / تدوير اتجاهات / وتدوير الأزمنة / و … تمّ َ إيضاح ذلك / , وخفايا للأنباء . لقد حاول الشاعر على إبتكار نصّ يكتشف خبايا هذا العالم عن طريق نصوص فلسفية وجدليلة قائمة ومستمرة ما بين الذات ومعرفتها كعارفة للعالم كذات واعية مدركة لما يجري ومفهوم الموضوع , وهذا ما يشتغل عليه المنهج الأوتوبيوغرافي في قراءة النصّ الفلسفي . انها محنة الكائن الذي يسقط فريسة لأوهام يعيد انتاجها كلّ يوم حينما يكون الوقت عبارة عن ممر يفضي الى المجهول .. / الوقت ممرّ يقود الى وقت شبيه ووقت مجهول / هكذا يكون الوقت حاضرا على طول هذه النصوص يكون فيها هو القاسم المشترك لمرثية الذات المكبّلة بمعرفتها في زمن السبات ../ وتفهماً لذلك تبدأ اللحظة من حقلها وأخرى من تبلور استثنائي وسريع للتقصي عن المشابهة أو التقصي عن كشف للتضاد / . انّ اللغة هنا يتوقف وجودها من خلال مفرداتها والجمل اللفظية ودلالاتها وما تعنيه لغويا من خلال ترابطها وتعاضدها داخل النسيج الشعري , ويتوقف حضورها على مقدرتها على الكشف والتجلّي . / انّ صحن الحساء هذا هو المقصود / والقطة التي تعبث بالتراب لتتبول هي المقصودة / ومن شانك أن تجد لكل منهما وظائف سرية / ربما ينتظم الاختلاف / لتتقارب الاحتمالات / مجرد تفسير للمشاهد / .. وهنا نتساءل : كيف تظهر مثل هذه المواضيع لدى الشاعر .. ؟ .. ان هكذا مواضيع قد تجلّت في الذات الواعية الشاعرة مدركة لها ومستيقنة بحضورها واستعداداتها المعرفية وارتباطها بالوعي . وفي مكان اخر نقرأ ../ للوهلة الاولى تبدو الصور الواضحة الرؤيا فاسدة / القصدية ونسبية في رمزية وضوحها وخطابها الاستعاري / .. انها محنة الذات الواعية بما يحدث فتظهر المواضيع في الوعي حاضرة نتيجة مقصدية تنتهجها الذات الواعية لأستحضار موضوعات كامنة في الوعي واعادة صياغتها بلغة شعرية فلسفية تدعو المتلقي ان يقف امامها ويحاول جاهد فكّ رموزها . ونقرأ في مكان آخر من الديوان .. / من البديهي ../ ان يكون هناك نموذجا بلاغيا يتركز في مرجعية الظواهر / كيفية نشوء التفكير في الغريزة ../ .. فمادامت هناك مواضيع تشغل الذات وتقلقها حتما ستلجأ الى اللغة للتعبير عنها والبحث في ماهية هذه المواضيع وتفسيرها بما يتناسب مع قابلياتها الذهنية الواعية وادراك حقيقتها . ونعود مرة اخرى لنقرأ ../ حين دارت البوصلة الكونية وهو ما يعني الانتقال الى الصفحات الأكثر سمكاً كي نقرأ : ../ المعيار والمعيارية . مشاهد أرخميدس في حوض الماء . كرسي سارتر . ضوء اديسون . نوطات بتهوفن . مطرقة ماوتسي تونغ . البصيرة والاستبصار . الحمى الثلاثية والروماتيزم . المجال الكهرومغناطيسي . الانفجار العظيم الذي سينهي لعبة التأويل والشكّ ../ ..لقد استطاعت الذات الواعية بمحنتها استدعاء كل هؤلاء في هذا المقطع كونها مزدحمة بأفكارهم ولما تمثله عندها من دلالات فكرية وعلمية وثقافية واجتماعية كونها علامات تجلّت في ليل الانسانية الغائم بالشكّ والريبة والتأويل واضفاء بُعد دلالي على اجواء النسيج الشعري , ان الذات تعي بأنها تعيش في عصر جديد فرض عليها مفاهيم واطروحات مختلفة وايقاعا متسارعا في وتيرة الاحداث والاكتشافات , لذا فهي ( الذات ) تطوف محلّقة تنتقل بنا مبدعة من خلال صورها المتجلّية نتيجة حدوث حرب داخلية تجري داخلها , استثمرت خيالها الخصب ان يؤلف بين موضوعات غريبة عن العقل والمنطق كما في هذا المقطع ../ يتمدد الرجل داخل دائرة / دائرة أغلقت عليه منذ عامين / قبلها أغلقا عليه تشكيلان هندسيان / كونه أراد توضيح فكرة / للببغاء الذي في القفص .. / .. انه صراع تراجيدي تعيشه هذه الذات في زمن تكشّفت فيه الحقائق , اننا نقرأ هنا جملا تفتح النصّ على مساحات شاسعة من التأويل , ابتدعتها الذات بعدما أحسّت بهول الغربة والخطر الجاثم عليها , انها مجرد / محاولة لتوضيح الأسباب / , تسعى الذات الواعية بهول فجيعتها دائما في هذه النصوص لتوضح ما يحدث من حولها بعدما تزاحمت فيها صور الخراب والدمار , لغة أشبه بالهذيان في لحظة الصحو واليقين ../ الى الآن والاستغراق في الوعي لم يبلغ النهاية / لكن الاجراء هذه المرّة ليس إجراءا شكلياً / اذ توقف القطار ومُسحَ الضباب عن زجاج النافذة / .. وتحاول الذات وتسعى جاهدة للبحث عن الحقيقة والاطمئنان اليه , وقد تسعى الى ذلك من خلال تشويش أفكارها ../ قال إذن ومن أجل تشويش أفكاري / ربما احصل على فكرة منفصلة / حسنا / حين أسدّ طبلتي آذاني / ساقفز من … / ربما لا أموت / اقع في بطن يقطينة خرافية / وسابقى طويلا كي تتشوش افكاري ولو لبرهة / اعتقد ان هناك بساطة في الأمر ../ .. اننا نجد هنا سيطرة وتحكّم في مستوى التفكير والادراك كون هذه المواضيع موجودة في الوعي تحاول الذات ان تعبّر عنها وهذا ما جعل هذه المواضيع تظهر في الوعي وتتمظهر هكذا من خلال الأفكار والصور الذي ابتدعها الشاعر . و / في ذات الوقت / تتداعى الذات في محاولة للنبش في الذاكرة البعيدة لأعادة الكثير من الاشياء التي غابت وتلاشت منها , حالة مستخلصة من تجربة ومعرفة مستقلة كامنة في العقل لا دخل للحسّ فيها ../ بدلا من الذاكرة . وسيلة ما لإعادة الشياء التي غابت . سلال الأزهار وهي تُشرى من أبناء الموتى ولم يزالوا بـ أربطة اعناقهم السوداء . تذاكر مثقوبة كنّسها عمال النظافة من العربة التاسعة لقطار الشرق السريع . واجهة النافذة بمواجهة صوت الريح في محطة قطارات سيرجي . صورة لنيكوس كازنتزاكي وصورة لحانة في أعلى قمة جبل بيتوشا . تاريخ على شمعدان برونزي لرحيل ( أنخسيس ) عن طروادة . لحظة قصوى من لحظات الغريزة الجنسية في فندق أمونيا والسيدة صاحبة القبعة المكسيكية . تكثيف اسلوبي لفصل تمهيدي لم يُكمل بعد . / . وفي / كاس مالح / تستحضر الذات الذوات الاخرى لحضورها الدائم واليقينيّ فيها وتهيمن هذه الذوات على طول المشهد الذي يبتدأ من ../ أحرّك الملعقة في قدح الشاي / الشاي لا يتحرّك / ثمة ثوب نسائي على كرسي عند شرفة / يتحرك توب المرأة / تتضح معالمه / في مقدمته كلب يعوي وراء كلة / في الجهة اليسرى مالمقابلة … هنا تبدأ الذوات في الدخول الى هذا المشهد ابتداءا بـ / محمود البريكان .. خليل شوقي .. عبدالله كوران .. فيصل لعيبي .. أزادوهي صموئيل .. / بينما يعلو في الجهة اليمنى صوت / يوسف العاني .. والسياب / وبعدها ببرهة / تطلّ علينا نازك الملائكة بثوبها الخمسيني / والبياتي ببدلته الرماد وبغليونه السيبيري وتبغه الطاجكستاني / بينما تبتسم الذات الواعي / لـرامبو / ويضع الجواهري على جبينه قطرة ماء من دجلة يبرد / وتتداعى الاحداث والذوات وتتزاحم في مشاهد تثير الاسئلة والحيرة لدى المتلقي / عفره وبدر / النخلة والجيران / ساكوفانزيتي / جمعة اللامي / سامي مهدي / منير بشير / رافع الناصري / بينما .. / للشاي لا ملعقة ولا قدح للشاي / .. ! . وتستمر المشاهد حتى النهاية ولكن ../ الى الان / أحرك الشاي في قدح الشاي / الشاي لا يتحرك / لتشغل كل هذا الفضاء الزماني والمكاني بلا حدود وتكون السيطرة للعقل فيها , اننا لو بحثنا عن الافكار فسنجدها في الكلمات التي استخدمتها الذات الواعية الشاعرة , فكل كلمة هنا او اسم ذُكره له دلالته , لقد وصلت هذه الذات الى مرحلة من النضوج مكّنها ان تمتلك من الرؤى الفكرية ان تجسّدها من خلال الكلمات , هذه الذات لا تنساق وراء مشاعرها وعواطفها وانما تجعل للفكر والوعي مكانا في عقلها . و ../ بفعل صخرة ألقيت على الظلام / تتكرر مشاهد الشاعر وأفكاره في مشهد يستمر وتتمظهر شخصياته الأفتراضية متدفقة متداعية , ويبقى الشاعر هو الشاهد والسارد حاضرا مراهنا على محنتها المتمثلة في محنته هو بالذات ../ لشخص سيرحل قريبا بقطار الساعة التاسعة / ثمة مشهد يصلح للمناوبة بمشهد آخر / ..اين سيرحل هذا الرجل ..؟؟ .. ولماذا سيرحل ولماذا أقحمه الشاعر ها هنا .. ومالذي يعنيه هذا الرجل الذي سيرحل ..؟؟ .. هكذا يتركنا الشاعر نتقاسم حيرته وعذاباته , ويطلب منّا ان نستمر في رحلته هذه . ./ البداية من الأشياء الأفتراضية ومنها : / إمرأة قد تتزوج قريبا … / قطة تتسلق جدارا تلاحق عنكبوت / محاولة لصّ لسرقة عنق وأزرارا فضية / , هل هي رموز يثيرها الشاعر هنا ليزيد من حيرتنا حين لم يصرّح بمكنونات هذه الذوات التي تركها سائبة كـ / أشياء إشتقاقية أخرى ومنها : رموز لم يحن تجريبها بعد / تجريبها بعد تأويل بنيتها / وخفايا إستعاراتها السابقة / ..؟؟ .. وبين هؤلاء يبقى التأويل ومعرفة خفايا النصّ متعلقا بمقدرة القارىء المنتج على الأكتشاف , ويبقى كلّ يؤول حسبما ينتجه النصّ لديه استنادا لمرجعياته وخزينه المعرفي والقراءاتي , ويبقى الشاعر اللاعب الوحيد الذي يمسك بخيوط اللعبة , ويبقى حقل المعنى ينفتح تأويليا ودلاليا ../ وبين هؤلاء مستويات للشرح تختلف عن مستويات الفهم / مجرد خداع السبب . لخداع النتيجة / , هكذا استطاع الشاعر ان يوحّد ما بين فلسفة الذات والشعر في جدلية مثيرة . و .. / مابقي من النصّ / الاُ محاولة لفتح نافذة وسط هذا الاضطراب والعتمة الصاخبة وحدس اللحظة في العقل .. / ثوب في الحقيبة / ثوب لإمرأة / حين نفضت الثوب / وجدته ورقة / الذي يبدو أماميحانة يقابلها جسر عتيق / ثلاثة ارانب ألكترونية تتقافز لتتسلق شجرة / ورجل منعزل عند الطاولة / يحدّث رماد سيجارته / .. كل هذا والذات واعية لما يحدث وهي تنوء بحمل هذا الواقع المتشظّي في محاولة لـ / تدوير اتجاهات / وتوحي وتؤثر وتبعث فينا هذا التماوج والتداخل ما بين الأمنة والأمكنة وتخلق لنا عوالم ليس من السهولة قراءتها فالجو العام يشوبه الغموض والحيرة وكأنها تحاول ان تتركنا نتأرجح في قاع الحلم ../ في الوقت ذاته وفي ذات الوقت / مسافة رطبة حالت دون التوصيف / للوصول لتفسير مبهم / فضلات من نصف قيلولة في قاع الحلم / .. فليس المهم ان تكون القصيدة صعبة او غامضة , فهذا ما تقوله القصيدة الحداثوية اليوم , لكن المهم ان تنقل الينا في نهاية المطاف عن حالات نجدها قريبة في أنفسنا , وان لغتها النثرية قادرة على التعبير عن ذلك ../ في ذات الوقت / ثمة فرصة للأنزياح من نسق الوهم / ليُكملا المرأة والرجل فرصة جماعهما / فوق الطاولة الخالية / التي تحت الظلّ / . ونقرأ في مكان آخر ../ لا حاجة لوجود فرضية / وسببية للجلوس طويلا / تحت مصباح لا يضيء / .. وهنا تأخذنا الذات الواعية الى نظرية السببية والعلّية في تفسيرها لما حدث ويحدث وتشير الى الى مواضيع فلسفية تبحر فيها وترشد المتلقي الى بعض المفاتيح كي يتمكن من الولوج الى عالمها الخصب . وفي ../ مسافات للنمو وأخرى لليباب / نقرأ ../ ربما من بين يديها يضيع المساء / يتيه في وعورة طرقها / في اشتغال ستائرها حول نباح الكلب خلف المسافات / المسافات التي لم تتوقف عن النمو / المسافات التي تعفّنت من الرطوبة ومن مزاغل العتمة وخفايا الأنباء / .. نجد هذا الترابط المكاني والزماني في صور تعتمد على مقدرة المتلقي ان يعيد صياغتها لأستكشاف ما تنطوي عليه من أفكار ورؤى حاولت الذات الواعية ان تلمّح اليها , كل شيء هنا يلمّح ويشير ويفتح الابواب لأشعاعات عديدة عبّرت من خلالها عن مواقفها أزاء هذا الوجود . ومن خلال ../ موجز رمزي سريع / نقرأ ../ لم يخطر ببالي ما تأملت / فقد شُدت الأفكار ونقلت بعض حطام الباطن إلي / ونجم عن ذلك تصور مفكك جعلني وسطا ما بين الفكاهة والتراجيد بموجز رمزي سريع اختصرت الخصائص / .. اننا نقرأ هنا لغة أقرب الى الفلسفة لكنها لغة ينبعث منها سحر وتأخذنا الى عالم التأمل العميق , انها عبارة عن رؤى أولية قديمة كما يقول ( فيونج ) تعيش في اللاشعور ومن خلال الشاعر تتدفق يشكّلها كيفما يريد , وهكذا تختصر الذات الواعية عن طريق مفرداتها الموحية بالدلالات والرؤى عن محنتها في هذا الكون . لقد .. / تمّ إيضاح ذلك / في مكان آخر من هذا السفر المثير والملغّز , نجد هذا القلق والحيرة والشكّ والتخبط في عالم اللاشعور واللامنطق ../ لا أبدو منطقيا / الأشياء حدثت / قد تُكتب كـ نصّ / كواجهة سيمانطيقية / واي شيء تنميه باللاشيء / وأي شيء لايعار الا لخصائصه الأبدية / .. ان الذات الشاعرة تعي ما تريد قوله بمفرداتها هذه وتشكيلاتها اللغوية , تطرح أفكارها هنا وتبحث عمّن يقرأها , ان كل مفردة هنا تعرف مكانها الصحيح داخل النشيج الشعري وليس عبثا وجودها بهكذا وجود , ربما تكون المقاطع اللغوية مبهمة لكن الوقوف عندها وإعادة قرآءتها ستفتح حينها الابواب لمن يريد الولوج والتعرّف على دلالاتها . و .. / قرب معرض بغداد / ..نقرأ .. / انتظرت الباص ( 84 ) القادم من حي العامل / أنتظرت / وهي تنتظر عند محطة قرب بستان شريمط / كان الدخان يتصاعد من الارض البيضاء … من رؤوس الجبال … من أنفاس الحيونات … من أخشاب البيوت ومن سعال المتحدثين في المشارب / .. أجزم بأن من يقرأ هذا المقطع قراءة ابداعية منتجة فسوف تتحرّك مخيلته , كون الذات الشاعرة بقصدية واعية استطاعت ان تنقلنا في لحظة واحدة بين عالمين مختلفين , انتقالة سريعة وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا اختصر الكثير من الزمن والاماكن , لقد كانت هذه الذات متعلّقة بعالمين عاشتهما في يوم ما , عالم ( بستان شريمط ) وعالم فوق رؤوس الجبال وأخشاب البيوت , ان هذا التفكك الزمنكاني استطاعت هذه الذات ان تربطه بخيط رفيع من الأحساس المرهف والشعور العميق , اننا نحسّ بتوحد المكان والزمان هنا , ونحسّ بانّ المقطع هذا يحتاج الى مَنْ يكمله ويضع مكان النقاط كلمات تتمّم النصّ . وفي .. / يوميات سارد / ..نقرأ ../ الوسائل غير ممكنة للتخلص من الخوف / …… وكذلك / فكرة سيئة أن تكون الوقائع خالية الملامح / .. وكذلك / في وجود شكّ / أعتقد وجود حقيقة / … وكذلك / لأعادة النظر بالاساطير التي أصبحت يقينيات ثابتة / .. وكذلك / مجادلة ما بين الزمان والمكان / .. وكذلك / تتقمصني أركولوجيا الوهم / ..انه السعي الدائب لمعرفة الحقيقة عن طريق الشكّ بكل ما موجود حتى الوصول اليها , ان الذات فريسة لهذا الخلل والاضطراب الجاثم في تلافيف وجودها والمثير لديها كل هذه التساؤلات والحيرة , الذات المجبرة على ان تعيش بخرافة الماضي مرغمة في عصر تتسارع فيه وتيرة العلم والاكتشافات المذهلة , يالشقااااااااااااااااااااااااء النفوس النقيّة .. !! . لكن ../ من الممتع أن تمضي / .. هذه الذات المتعبة بوعيها الذي أثقل كاهلها , الذات التي أرهقها هذا العالم فصارت تبحث عن متعة أبدية علّها تستريح .. / ليس هناك من معضلة / في مواجهة الموت / المعضلة / في الوقت الذي يمنحه اليك / لترسم شكل بياناتك / للأعتذار من الخالق / .. وكأن هذه الذات أخيرا وجدت الخلاص مما تعاني , الخلاص الأبدي في رحلة الى عالم آخر أكثر نقاءا وحرية واستقرارا , وكأن شمس الحقيقة اشرقت من جديد بعد هذه الرحلة الشاقة , وكأن حان وقت الهدوء والاستقرار بعد كل هذا الضجيج الفكري والمادي والاجتماعي والاقتصادي وووو .. الخ . . / وترتيب شهودك أمامه من الذين سبقوك / لاشكّ انك تدرك ذلك / ولم يكن بالمفاجىء أن تتمدد على السرير / .. لاشكّ في هذه اللحظة المصيرية والتي ستحمل هذه الذات المدركة للحقيقة الأزلية , لقد اطمئنت لمصيرها , فهي تستسلم لهذا المصير راضية مرضية مطمئنة .. / وحين إستعجلوا وضع رأسك / طلبت منهم وقتا ما / لتلبية حاجات غيبوتك المبكرة / .. انها بداية الرحلة الأبدية .. / من الممتع أن تمضي / ولديك محراث .. وحصان / وزوجة علمت جارتها الحياكة / .. انه هذيان الذات الواعية لحظة الأحتضار حيث ستترك كل شيء خلفها , كل المرارات والخراب والحزن والآلآم ../ سنوات شقاءك الكثيرة في الحياة / ستجعلك تجتاز نهر جهنم مرة واحدة / ولم يستطع ( أورفيه ) قبلك / إجتيازها الا مرّتين / وسيكون كل شيء في رحيلك مالوفاً / لانك من أرض الغناء .. الذي يُشبه البكاء .
انّ ديوان الشاعر : قيس مجيد المولى يحوي تجربة شعرية فذّة وكبيرة لابدّ من تسليط الوء عليها من جهات عديدة , كونه ثرّ وعميق كالمحيط لايمكن الاحاطة بكل ما يحوي بسهولة , وحتى المشقة في قراءته لهي مشقة رائعة وتستحق أكثر من محاولة . أنّ / مَزاغل للعتمة وخفايا للأنباء / سوف يأتي الزمان الذي يحتف هبه الجميع ويُشار اليه . هذه سياحة بسيطة ومقتضبة وزهيدة , لأنني اذ أكتب هنا عنها انما أكتب بذائقة شاعر يعشق الجمال والابداع الحقيقي . أدعو الجميع أن يقرأ هذه المَزاغل التي ستفتح أمام عقولنا الكثير من الأبواب التي ربما قد غفلنا عنها . انني أدوّن هنا وجهة نظري إزاء ما قرأت قد أكون مخطئا بحقّها وقد اكون قد إقتربت من ضفافها الشاسعة .