22 نوفمبر، 2024 11:54 م
Search
Close this search box.

عن البروفيسور ستروفه الفرنسي الروسي

عن البروفيسور ستروفه الفرنسي الروسي

( ستروفه) كان لقبا غريبا بالنسبة لنا , نحن الطلبة الاجانب بموسكو في ستينات القرن العشرين , اذ انه لا يتناسب ولا يتناسق ولا ينسجم مع الالقاب الروسية التي كانت سائدة حولنا , والتي تنتهي عادة بحرفي الواو والفاء مثل ليرمنتوف او تشيخوف …الخ , او التي تنتهي بحرفي الياء والنون مثل بوشكين او بونين …الخ , او التي تنتهي بحروف السين والكاف والياء مثل دستويفسكي او بيلينسكي …الخ , ولهذا اعتبرنا ( ستروفه) لقب شخص اجنبي لا علاقة له بروسيا , ولكن , و بعد ان تعمّقت معارفنا بتاريخ الثقافة الروسية ( اكتشفّنا !) , ان بيوتر ستروفة (1870 – 1944) وفلاديمر لينين كانا رفيقين معا في الحركة الاشتراكية الروسية , ولكنهما اختلفا في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين بشكل جذري حول مسيرة الافكار الاشتراكية ومستقبلها في روسيا , ولهذا انفصلا بعضهما عن البعض , وسار كل واحد منهما في طريقه الخاص. وهكذا عرفنا , ان ستروفه هو فيلسوف روسي واقتصادي ومؤرخ وشخصية سياسية مرموقة في الحياة الفكرية والسياسية الروسية , وكان مؤثرا في مسيرة التاريخ السياسي واحداثه , وكل ذلك طبعا يرتبط بتاريخ الفكر الروسي بشكل عام , وتاريخ الحركة السياسية الروسية قبيل ثورة اكتوبر 1917 وما أعقبها من أحداث , وهي بعيدة عن موضوعنا , الذي نود ان نتكلم عنه في مقالتنا هذه , رغم انها مقدمة ضرورية جدا , اذ ان مقالتنا تدور حول حفيد ستروفه هذا , وهو مواطن فرنسي ( ولد في فرنسا من أب روسي وام روسية ايضا , وهو بالتالي فرنسي من اصول روسية ), واصبح البروفيسور نيكيتا ستروفه ( 1931 – 2016) – استاذ الادب الروسي في جامعة باريس , والشخصية التي لعبت دورا (مع اللاجئين الروس الاخرين طبعا) في تعزيز التعاون الثقافي بين روسيا و فرنسا (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي طبعا) , وقد تم منحه مدالية بوشكين لتعزيز التعاون الروسي – الفرنسي في مجال الثقافة والتعليم , ومدالية الدولة الروسية للحفاظ على الثقافة الروسية وتراثها خارج روسيا , ومدالية ( اسرعوا لعمل الخير) الروسية في مجال حقوق الانسان.
غالبا ما كنا نلتقي طبعا, نيكيتا ستروفه وانا في القسم الروسي بجامعة باريس نهاية الستينات من القرن الماضي عندما كنت طالب دراسات عليا هناك , وكان هو آنذاك تدريسيّا في القسم المذكور , ويكتب ايضا اطروحة دكتوراه دولة حول الشاعر ماندلشتام , والذي كان شبه ممنوع آنذاك في الاتحاد السوفيتي ( أصدر ستروفه بعدئذ كتابا ضخما عن ماندلشتام , ويعدّ الان واحدا من المصادر المهمة لدراسة حياة ماندلشتام وابداعه ) , وغالبا ما كنّا نتحدث سوية , و سألني ستروفه مرة عن انطباعاتي حول موسكو والاتحاد السوفيتي بشكل عام باعتباري درست وتخرجت هناك, وقد تكلمت عن الجوانب الايجابية , التي رأيتها شخصيا رغم بعض السلبيات التي كانت موجودة فعلا في الحياة السوفيتية , ولكنه قال لي , انهم ( وكان يتحدث باسم اللاجئين الروس في فرنسا ) يعتقدون , ان دولة الاتحاد السوفيتي ستنهار في نهاية القرن العشرين او , كحد اعلى , في بداية القرن الحادي والعشرين , ولم اتفق معه مطلقا وكليّا حول ذلك , وقلت له , ان الدولة السوفيتية قوية جدا بجيشها ومؤسساتها الامنية وتنظيماتها الحزبية , وانني لم أجد اي معارضة في تلك الدولة , عدا النكات السياسية التي كانت سائدة بين اوساط الطلبة بالاساس , وان قضية باسترناك وجائزة نوبل التي اضطر باسترناك ان يرفضها هي ليست قضية كبيرة يمكن ان تؤثر على مسيرة تلك الدولة , وقد استمع ستروفه اليّ بكل أدب , وقال لي مختتما هذا الحديث بمثل روسي هو – ( نعيش ونرى ) ( وهو يذكّر طبعا بالمثل بلهجتنا العراقية – نعيش ونشوف ) . لقد تذكرت وقائع حديثنا هذا عندما انهار الاتحاد السوفيتي طبعا في بداية التسعينات , وقلت بيني وبين نفسي , كم كان ستروفه على حق بكلامه آنذاك حول ذلك . لقد رويت هذه الحادثة مرة في مؤتمر علمي بجامعة قازان عام 2006 , وقد علّق بروفيسور روسي من جامعة موسكو ( كان يشارك في اعمال المؤتمر المذكور ) قائلا , ان اللاجئين الروس كانوا يحللون بعمق واهتمام حقيقي كل صغيرة وكبيرة تحدث في الحياة السوفيتية , وكان لديهم الوقت الكافي لمتابعة ذلك بدقة ودراسته , بينما لم يكن لدينا نحن السوفييت سوى التأييد المطلق لكل خطوة يتخذها الحزب الشيوعي السوفيتي دون اي تحليل وتمحيص ونقاش موضوعي متفتح لدرجة , اننا نسينا حتى معنى التحليل والتدقيق والنقاشات المعمقة والعلمية حول تلك الخطوات وقيمتها و جدواها في مسيرة حياتنا اليومية آنذاك…
نيكيتا ستروفه اسم كبير في دنيا الادب الروسي , وله عشرات المؤلفات المنشورة باللغتين الفرنسية والروسية , ولديه مئات المقالات والدراسات والبحوث حول هذا الادب باللغتين ايضا , ولا مجال هنا حتى للتعريف بها , ويؤسفني الاشارة في الختام , الى ان ستروفه يكاد ان يكون مجهولا تقريبا للقارئ العربي…

أحدث المقالات