أصبحت المُؤسّسات في العالم المُتحضّر تعيّ أنّ العشوائيّة لا تنتُج، وإن انتجت فهو ناتج جاء بالمُصادفة وأنّ التخطيط المُستقبليّ لسنوات مُحدّدة وهو ما يُعرف بالتخطيط الاستراتيجيّ ـ هو ما يضمُنُ النجاح تخطيطاً لا يرتبطُ بأفراد معينيّن يجلِسون على كُراسيّ القيادة ولكنه تخطيط مؤسسيّ يكملُ تنفيذه أفراد إذا ما رحل أفراد. هذه الثقافة مع شديد الأسف ليست سائدة في مُؤسّساتِنا ـ الحُكوميّة بصفة خاصة ـ ممّا يدلُ على أن القائمين على هذه المؤسّسات لم يتلقّوا دُروساً أو تّدريباً كافيّاً في التخطيط الاستراتيجيّ وأنّ أهمية هذا التدريب كانت غائِبة لسنوات عن أذهان المسؤولين عن اختيار هذه القيادات وهو ما نتج عنه أن أصبح مُعظم هذه القيادات غيرُ مُدرّبٍ وغيرُ واعٍ بأهمية هذه الثقافة. فغاب العمل المُؤسسيّ القائم على التخطيط الاستراتيجيّ وسادت الاجتهادات الفرديّة في المُؤسّسات التي تولّوا قيادتها. (بهاء درويش، التفكير الاستراتيجي في التعليم الجامعي ضرورة، الأهرام، 9 تموز 2016) وهُم شريحة من القيادات السياسيّة التعليميّة التي تنظُرُ إلى التعليم من منظور سياسيّ وليس من منظور تعليميّ بحت وليس لديهم القُدرة على وضعِ استراتيجيّةٍ للتعاملِ مع الكفاءات العلميّة وحملّة الشهادات العُليا الغير المُعينين وليس المُتعاقدين أو المُحاضرين في الجامعات الذين تسبّبوا وساهموا في سدِ فراغٍ تدريسيّ في عموم الجامِعات العِراقيّة ورفعوا الرّاية البيضاء وخضعوا لإرادات القيادات السياسيّة التعليميّة في وزارة التعليم العالي العِراقيّة الذين توصّلوا معها إلى قناعةٍ مُطلقة بعدم الحاجة لإطلاق الدرجات الوظيفيّة والاكتفاء بما لديهم من مُحاضرين وأصحاب العُقود وبُمرور الزمن ترفيعِهم واعطائِهم عنوان وظيفيَ جديد عُقود وزاريّة بامتيازات مُوظفيَ الدولة وبراتبٍ أسمي فقط ودفع مُرتباتِهم الشهريّة من الرسومِ المُستحصلة من طلبة الدراسات المسائيّة وجزءاً من الدراسات العُليا -والتي خُصصّت فقط للعام الدراسي المُقبل 11 ألف 535 مقعداً دراسياً والجامعات والكُليات العِراقيّة غير مُستقطبة لكفاءتِها وحملة شهادتِها العُليا من الخارج- والحُكومة تتكفَلُ لدى الوزارة بضمانهم الاجتماعيّ وهي فكرة خاطئة من أساسها لذا كان ينبغيّ على قبُطانُ وزارة التعليم العالي المُبجّل السيد قصي السهيل إقناع حُكومة عادل عبد المهدي بضرورة صرف النظر والعُدول عن المشروع واطلاق الدرجات الوظيفيّة لأنها ميزان الصائغ في التميز بين العُملة الجيدة والرديئة وهي حقٌ مشروع لكل حامل شهادة عُليا يطمحُ لخدمة بلده من موقعه وقرارٌ وطني بامتياز بدلاً من الخُضوع لإرادة وزارة الماليّة عفواً صندوق النقد الدوليّ التي اشترطت على الحُكومة السابقة والتي اقترضت منها ثلاثة عشر مليار دولار بعدم تعيين أي مُوظف لمُدة عشرة سنوات لحين سداد القرض. والحُكومة الحاليّة مُلتزمة بشُروط القرض بدليل غلقها باب التعيين في وزارتها وما يتداوله وسائل الإعلام المرئيّة والمسمُوعة بين الحين والآخر عن اطلاق الوزارة الفلانيّة وتوابِعها من الدوائر لدرجات وظيفيّة هي وظائف ناتجة عن حركة المِلاك لا غير- يعني المُتقاعدين والمُستقيلين والمُتوفين- ومشروع تحويل المُحاضرين والعُقود اليوميين إلى عُقود وزاريّة هي مشروع رقم واحد لوزارة التعليم العالي بالتعاون مع الحُكومة والصندوق النقد الدوليّ ونتيجةً لتثبيتهم فهم اليوم يُحاولون تنفيذ مشروعهم الثاني في فصل الدراسات الصباحيّة عن الدراسات المسائيّة وتحويل الكليات العِراقيّة إلى قطاع مُختلط يجمع بين قطاع حُكوميّ مجانيّ في الدراسات الصباحيّة وقطاع حُكوميّ أهليّ في الدراسات المسائيّة وتطعيمِها بنكهة مجلس النواب العِراقيّ الذي بادر أحد نُوابها على جمع تواقيع النُواب حول المشروع وبعدها عرضها على وزير التعليم العالي على أساس أنّها مشروع وطني غير مُستورد والوزير بدوره وافق على المشروع لكونِها ستوفّر 84 ألف درجة وظيفيّة لحملة الشهادات العُليا الغير المعينين. ولكن المُتحدثة الرسميّة لوزارة التعليم العاليّ أكدت في تصريح صُحُفي لأحدى المواقع الأخباريّة أن المشروع ستوفّر من حيثُ المبدأ فُرصة للتعاقُد على الدراسات المسائيّة وهي تتناقضُ تماماً مع تصاريح سابقة للسادة المسؤولين الأفاضل في توفير فُرص للتعيين وليس للتعاقُد. وهنا علينا أن نتجنّب الوقوع في الفخ مرة أخرى. لأن الانتخابات المحليّة في تشرين الثاني من العام الجاري وهي تتزامنُ مع تاريخ تدشين مشروع فصل الدراسات الصباحيّة عن الدراسات المسائيّة وتحويل كلياتنا العِراقيّة إلى قطاع مُختلط لاستقطاب وتوطين حملة الشهادات العُليا كعُقود يجعلنا نُفكر مليّاً بأنّ المشروع سياسيّ أكثر ممّا هو تعليميّ لكسب أصوات الناخبين وإيهام الشارع العِراقيّ بأن وزارة التعليم ماضية قُدماً في انجازاتها العظيمة التي تركت بصمتِها في حُكومة عادل عبد المهدي وهي مُتقدمة على بقيّة الوزارات العِراقيّة الأخرى في إحداثِ طفرة أو ثورة نوعيّة في التعليم العالي في ظلِ صِراع قيادتها السياسيّة التعليميّة بين الاشتراكيّة والرأسماليّة.