لعل من العسير تجاهل ما يُفرض على الواقع، بفعل محدودية التفكير السياسي والإداري، وهذا ما أرغم القرارات لتأخذ منحى الإنحراف الذي يمثل سعة العقل الضيق للمسؤول، وإمنياته ضمن نطاق محدوديات لا تتجاوز دائرته الشخصية والحزبية.
فرض قاموس الفعل السياسي،على الدولة العراقية؛ تطبيق مزاجيات المسؤول، الذي يبحث عن معالجة النتائج، دون العودة الى أسباب الكوارث، وردة الفعل دون الوقاية، والمكسب الآني الشخصي دون البُعد الإستراتيجي.. هذا ما قاد معظم المسؤولين من أعلى الهرم الى أدناه، للتفكير لذاتهم، والتنصل من المشكلة ورميها في ساحة غيرهم، دون الوصول الى جذورها.
هذا الحال ينطبق على ما أفترضه محافظ بغداد، اسوة بغيره من المسؤولين، وطلب تغليفا محكما لأسيجة الجسور لمنع حالات الإنتحار، وجاء الرد سريعاً من رئيس مجلس المحافظة، بالثناء على المقترح، وإعتبارها حلا أمثل لمعالجة حالة إنفرادية، والمحافظ إتخذ القرار دون مشاورة، كما هو رئيس المجلس،دون المرور بالسياقات القانونية، التي تتطلب تصويت الأعضاء على المقترح.
إعتقد المحافظ أن مقترحه سيحل ظاهرة الإنتحارمن الجسور، ولم يجد لنا حل للإنتحار بالحرق والشنق والرصاص والسم والكهرباء، وربما خطط لشركة تقوم بتغليف الجسور، وكتابة أرقام فلكية على أوراق بيضاء، لهذا الإجراء العبقري التاريخي، ومن ثم يتقاسم من يتقاسم، وينتهي الموضوع بجسور تفقد كل قيمتها وتشوه جمال العاصمة.. المرهق أصلا!
لم يفكر صاحب القرار بأن الجسور جزء من أرث بغداد، ومعها حكايات وحكايات، وهذه المدينة تزورها الوفود والسياح، والمواطنون الذين سأموا التضيق على عاصمتهم، ولم يشعروا بجمالها ورفاهيتها، وهم للتو تخلصوا من كتل كونكريتية، جثمت على صدر مدينتهم 15 عام، ولم يفكر أيضاً أن للإنتحار أسباب سياسية وإقتصادية ونفسية وإجتماعية، بل لم يكلف نفسه بالبحث عن حلول لظاهرة دخيلة على المجتمع العراقي.
قرار المحافظ ورئيس مجلسها، جزء من سلوكيات سياسية وإدارية جماعية، تجتهد وتبحث عن إستغلال الكوارث مالياً وسياسياُ، ومعالجة قشور المشكلات، والجذور يغذيها الفساد، والإجتهادات الشخصية لا تمت الى الحرفية، ولا تعنيها الآثار المجتمعية. المنطق يقول أنه عندما يكون التفكير بهذا الشكل في معالجة الإنتحار، فهكذا سينتحر جسر الجمهورية والسنك والشهداء والكاظمية، بل انتحار مسؤول من جسر الصرافية.