مر العراق خلال العقود الخمسة السابقة للاحتلال الامريكي الغاشم , وكذلك في ما بعدها بظروف وتعقيدات وأحداث سياسية خطيرة , ما كانت لتحدث في بلد مماثل آخر, بسبب من طبيعة وحجم التناقضات بين الأيديولوجيات والأهواء السياسية , حيث اقيمت وسقطت انظمة ونشطت وذهبت ولاءات داخلية وخارجية , وحيكت وكشفت مؤامرات ,وأشعلت حروب خارجية وداخلية , وسالت دماء , وجرت تعديات طالت الحريات ألشخصية وبرزت شخصيات مؤهلة وغير مؤهلة , تسنّمت السلطة وتمتعت بالنفوذ, وهدرت أموا ل عامة, كان يمكن استثمارها في انشاء أكبر دولة حديثة , لو تصرف الحكام المتعاقبون بروح المسئولية.
وفي سياق هذه المتناقضات والأحداث الجسام , كانت عين الكاتب والصحفي الرائد صبري الربيعي ,ترصد , وتوثق , بعقل تحليلي من دون هوى ..ليعكف على كتابة سفره المستل من ذاكرته الحيّة عن مواقف وأحداث وشخصيات لم يعرف عنها الكثير, حكمت البلاد والعباد , أو أثّرت في مجريات الحياة اليومية للشعب العراقي سلبا أو ايجابا , كما ننتقل مع مضامين الكتاب الى رؤيا متنوعة لخلفيات طواها النسيان لم يطلع عليها الجيل الحالي , ربما توفر العبرة والتبصر , ولا تخلو مضامين هذا الكتاب من مرور على موضوعات ثقافية وصحفية , تتوفر على تقويمات موضوعية لما جرى بصراحت الكاتب المعهودة ,حيث سنقرأ عن طه الفياض المحامي فيما يخص سمات جريدته (الفجر الجديد) وعبد القادر البراك صاحب جريدة (البلد) وجريدة (الأيام) كونه اديبا وصحفيا لامعا وسجاد الغازي في جهاده المهني لتشريع قانون تقاعد الصحفيين في القطاع الخاص, وصادق الأزدي (ابو التحقيق الصحفي ) وسعد قاسم حمودي في ملاحظات لاتخلو من صراحة وكريم المطيري الذي انتقل من وظيفة (المعلم) الى تحديد مصائر الصحفيين وصاحب حسبن رئيس تحرير جريدة (الجمهورية) الذي كان أول من علم بتدفق القوات العراقية للسيطرة على المخافر الحدودية في القاطع الأوسط بين العراق وايران , وظروف تنفيذ ونشر اول التحقيقات والصور الميدانية عن (الحرب العراقية الإيرانية ) ومقابلاته للفريق الركن عدنان خير ومعايشته للعميد صلاح القاضي قائد الفرقة الخامسة الذي كان سينفذ حركة 17تموز قبل موافقة الرائد سعدون غيدان على فتح ابواب قصر الرئيس الأسبق عبد الرحمن عارف لمجموعة الحركة , وصلاح الدين سعيد نائب نقيب الصحفيين لجهة تصريحه في (لندن)”ان الذي يعارض الحكم يستحق اعدام” وصباح ياسين وايام لاتنسى في ظل طموحه لنيل المراكز المرموقة وسامي الموصلي وضياء حسن و داوود الفرحان وسامي مهدي وكامل الشرقي الذي عدت رئاسته لتحرير مجلة (الف باء) أطول فترة أمضاها رئيس تحرير صحيفة عراقية في مهمته ورشيد الرماحي وزهير الدجيلي وعشرات الصحفيين الذين زاملهم الكاتب , فيما يستمتع القارئ الكريم بما يستذكره الكاتب , من أجواء رافقت مقابلاته مع امراء ورؤساء ووزراء عراقيين وعرب , بالإضافة الى جولاته ونشاطه الصحفي , وآراءه فيما يتعلق بمسببات فقر الصحفي , وحاجته التي لازالت قائمة الى اكسابه المهارات , وتوفير ظروف الحياة الكريمة له .
وإذا ما حاولنا تصفح مضامين الكتاب , سنمضي وقتا ممتعا ومفيدا مع تلك المضامين التي كتبت بأسلوب روائي عرف به الكاتب حيث سنجد عروضا لأحداث ومواقف سياسية وثقافية واجتماعية , عايشها او اسهم فيها او اقترب منها خلال العقود الخمسة الأخيرة قبل هجرته الأوربية عام 1999 , حيث يتناول خلفيات احداث تتعلق بشخصيات مؤثرة في تلك العقود, ك(الزعيم) عبد الكريم قاسم والرئيس الأسبق عبد السلام عارف, ومواقف الشيوعيين من عبد الكريم قاسم وبالعكس, وصراعهم مع البعثيين والقوميين , وحركة 8 شباط 1963 , وحركة مراتب العسكريين من الشيوعيين واعتقالهم لعدد من قياديي (البعث) , حازم جواد وطالب شبيب ونجاد الصافي , ويجيب عن تساؤل هام ..ماذا لو قدر لهذه الحركة النجاح ؟ ولقاءه بعد اكثر من عقدين مع (منظر الحركة الفكري) .والأجواء الخفّية لحركة 8 شباط 1963 , والصراعات الدامية بين اطراف الحركة الوطنية العراقية في اعقاب ثورة 14 تموز, وما جرى ليلة سقوط العهد الملكي , وتفاصيل وشهادات لم تنشر عن مقتل الملك فيصل الثاني آخر ملوك العراق , وولي العهد الأمير عبد الإله , مسهبا في تفاصيل تعليقه وسحله واذابة جثته على اسفلت شوارع بغداد, كما يتناول في تفاصيل مثيرة ومؤلمة في الوقت نفسه مقتل الفريق نوري السعيد , احد قادة (الثورة العربية) ضد الإحتلال العثماني , ورئيس وزراء العراق المزمن منذ اقامة الدولة العراقية عام 1921 , حتى سقوط النظام الملكي , وكيفية سحله في شوارع بغداد ؟ وحرق جثته المتهرئة , كما يعرض لواجبات الضباط الأحرار المشاركين فيها , والمسئول عن مقتل العائلة المالكة , هل هو عبد الكريم قاسم ؟ أم عبد السلام عارف ؟ كما يتناول الكتاب من خلال شهادة الكاتب الذي عايش خير الله طلفاح خال الرئيس الأسبق صدام حسين ووالد زوجته وجد اولاده لأمهم وعرابه , عارضا تصرفات طلفاح , مجيبا عن سؤال متداول ..فيما اذا كان (طلفاح) يرى احقيته برئاسة الجمهورية ؟.. وترد في هذا شهادة لصديق مقرب لأحمد حسن البكر ,عن ماهية نصيحة الأخير للرئيس الأسبق أحمد حسن البكر في اعتماد صدام حسين ضمانة لحكمه .
وفي عروض لا تنقصها الصراحة نجد حضور اسماء ناظم كزار,الذي (خطف) الكاتب من الشارع , وجذور وأوضاع هذا الرجل الذي تناقضت المعلومات بشأن حركته الخاتمة لحياته المثيرة على ما تنطوي عليه من (مثالب) تخص قسوته فرادته في انتزاع اعترافات السياسيين من جميع الأصناف والعقائد المعارضين لنظام (البعث , وصدام حسين .. وحركة (كزار) التي قيل انها (استهدفت قتل البكر وصدام وحماد شهاب وسعدون غيدان وعدان شريف) , وما هو نصيب التحليلات التي تقول بتخطيط هذه الحركة وتوجيهها من قبل (النائب الطامح) صدام حسين لتسلم الرئاسة وإقصاء (البكر) ؟, وبديات لطيف نصيف جاسم الدليمي في المكتب الفلاحي وجريدة (صوت الفلاح) , وما هو سر ثقة صدام حسين به ؟ وكيف اتيح للكاتب انقاذ مستقبل لطيف نصيف جاسم ؟ بعد إسالته الدماء من عين احد الصحفيين عام 1972 ,و كيفية سقوط رئيس الوزراء الفريق طاهر يحى في نهر دجلة .
كما سنقرأ عرضا موضوعيا لخلفيات خروج سعد البزاز من العراق متمتعا باجازته , ليتحول بعد أيام الى معارض لنظام صدام حسين , ودور هاجس الحرية في الكتابة في صياغة مشكلته مع المنظومة الإعلامية , وكيفية تنشيط محاولات تسقيط البزاز من قبل زملاءه رؤساء المؤسسات الإعلامية ؟ ويطرح كاتبنا تساؤلا اسباب اعدام محافظ (الكوت) الذي شغل ايضا من قبل مهمة المدير العام لشركة الجلود , وهل كان ينفذ شعار صدام حسين ؟ في انه “جاء الى السلطة والعراقي حافي ” حيث كان يسعى لتوفير الأحذية الرخيصة للعراقيين , وما هي قصة كريم حسن رضا الذي وصفه الرئيس الأسبق لأهل ( العمارة) أنه شبيهه في الأخلاق ؟ ليلقي به بعد عدة أشهر في سجن (ابوغريب) ؟ ومشاهدة اغتيال عبد الكريم الشيخلي من قبل سبعاوي ابراهيم الحسن , وينتقل بنا الكتاب الى ظروف تنظيم ما دعي ب(مؤامرة الرجعيين) عام 1970 المعلن ان عرابها اللواء عبد الغني الراوي بدعم ايراني , التي طالت بالإعدام أو السجن المؤبد عددا من وجوه المجتمع العراقي من بينهم د,حسن الخفاف , وصالح السامرائي , وشيخ قبائل (آل فتله) راهي الحاج سكر , وسعدية صالح جبر ود . فاطمة الخرسان ..وبأسلوب روائي جزيل نقرأ عن خلفيات مقابلته الملا مصطفى البارزاني في (حاج عمران) ومرافقة ادريس ومسعود البارزانيان له .. كما سنجد انفسنا في اجواء المهنة الصحفية ,ومتاعب الصحفيين وظروفهم الصعبة .
كما يتضمن صورا لأبراهيم الحسن والد برزان وسعاوي ووطبان في ذات (الدامات الطينية) التي نشأ فيها صدام حسين .
ويطرح الكتاب بشهادة من يمت بصلة المصاهرة مع الفريق راجي التكريتي , تخص استدعاءه من قبل الرئيس الأسبق صدام حسين الى بغداد , وتنفيذ حكم الإعدام به وبعدد من الضباط بتهمة اعداد مؤامرة تستهدف حياة صدام ,وما اثير من أن التكريتي قد عرض لكلاب مفترسة جائعة ,حيث افترسته اما مرأى من الرئيس صدام حسين إذ ترد شهادة شاهد عيان وهو احد الضباط المقربين من عبد السلام عارف قام بغسل التكريتي الشرعي , عن وما شاهده على جسد التكريتي من آثار تحسم جدلا طويلا شهدته آثار هذه القضية !
ويشير الكاتب بالأسماء الى علاقاته وتقويماته لصحفيين زاملهم . ويعرض لتجربته في مجلة (الف باء) وجريدة (الجمهورية ) التي استغرقت عشر سنوات من عمره المهني..ويفرز اوراقا خاصة ذات مضامين تفصيلية , عن رؤيته المهنية لإستراتيجية تحرير مجلة ( وعي العمال ) , وهو يستلم ارثها العريض في مايس عام 1984 , ويعود بنا الى بدايات هذه المجلة التي بدأت نشرة حزبية تطبع بجهاز (الرونيو) لتصدرعام 1969 كمجلة اسبوعية تولى رئاسة تحريرها طارق عزيز ثم ناصيف عواد ثم عزيز السيد جاسم وأخيرا عادل ابراهيم , لتصل اليه إذ صارع قوى رافضة لإخراجها من اغطيتها الحزبية , وجعلها مجلة ثقافية عامة , والأجواء الدرامية التي رافقت استلامه تحريرها من دون موافقات مكتب الثقافة والإعلام القومي ووزير الإعلام , وتفاصيل عن الصراع بين ارادته المهنية والقيادات الحزبية العمالية .
وربما تحسم شهادة الكاتب الجدل في قضية طالما ناقشها الكتاب والصحفيون. تتعلق بما ردده حسن العلوي منذ انخراطه بالمعارضة لصدام حسين اثر اعدام صهره عدنان الحمداني وزير التخطيط وعضو القيادة القطرية ل(ح ب) , من أنه “كان سكرتيرا صحفيا لصدام حسين , يتدخل في تصويب قرارات الرئيس الأسبق وتوجيه النصح له” اعتمادا على صورة له مع الرئيس , حيث حقق ذلك للسيد العلوي علاقات واسعة ومجزية بناها مع اعداء صدام حسين , ابتداء من حافظ الأسد وانتهاء بالقادة ألأكراد, على انه يجد في بدايات ومسيرة (العلوي) المهنية قبل تلوثه في السياسة , صحفيا جريئا ذي هاجس قومي يحب مهنته .
كما يتناول الكتاب مقابلاته الصحفية لمعمر القذافي وياسرعرفات والشيخ عيس بن سلمان آل خليفة أمير البحرين الأب , وتقويمه ل(روبرت موغابي) رئيس (زيمبابوي) , وأمراء ورؤساء وزارات ووزراء وشخصيات اجنبية رفيعة , كما سنطل على سفرياته خارج العراق , ومحطات أخرى صغيرة كثيرة ولكنها تلقي الضوء على احداث ومواقف, منها ما اسقطته الذاكرة ومنها ما علق بها ., ويمر الكتاب على غزو العراق ل(الكويت) , وخلفيات هذا القرار الذي اتخذه صدام وأعرب عن تحمله مسئولية تلك الحرب من خلال شهادة للفريق نزار الخزرجي رئيس اركان الجيش الذي لم يعلم بدخول القوات العراقية (الكويت) الّا من (التلفزيون) , وتداعيات غزو (الكويت) على الأحداث المدمرة اللآحقة التي أدت الى العقوبات الدولية وفرض الحظر الاقتصادي على العراق .وقد أدى كل ذلك الى توفير المسببات والذرائع لتنفيذ خطط ضرب العراق عام 1991 عن بعد ,ومن ثم غزو العراق واسقاط دولته الحديثة .
وقد تم اعلان اطلاق توزيع كتاب (اوراقي في الصحافة والحياة ) صباح يوم الجمعة الماضي 10 مايس الحالي في المنتدى الثقافي البغدادي بشارع المتنبي بحضور جمع غفير من الصحفيين والكتاب الرواد زملاء الكاتب والشباب كما حضر محافظ بغداد د. صلاح عبد الرزاق وضيوفه السفير الجزائري وسفير رومانيا وسفير اوكرانيا الى جانب نقيب الصحفيين مؤيد اللامي وعميد كلية الاعلام د. هاشم حسن .
يقع الكتاب في 460 صفحة من القطع المتوسط , وقد صدر بطباعة فنية حديثة أشرف عليها الصحفي الرائد عماد آل جلال .. وسيتاح لطالبيه اقتناءه من مكتبات شارع (المتنبي ) .. ولتلبية طلبات اقتنائه من مختلف دول العالم الاتصال على الإيميل:
[email protected]