كانت ولا زالت أزمة محافظة كركوك ومنذ سقوط النظام السابق ضمن جملة المشاكل المعقدة، التي أنشغلت بها أحزاب وقوى سياسية وأجتماعية وثقافية في الأقليم والمركز. ولم يقتصر الأهتمام بهذه الأزمة على حدود العراق، بل تجاوز الحدود الى دول الجوار وأبعد من ذلك. وخلال الفترة أياها والى يومنا ونتيجة لتدهور الأوضاع في المحافظة نحو الأسوء عانى سكانها من الكورد والتركمان والعرب والكلدوأشور، وتضرروا أقتصاديا وأجتماعيا وثقافيا وأمنيا.
وكان الحوار والتواصل والمشاورات مستمرة بين الأطراف المختلفة والمتصارعة فيما بينها وتوصلوا الى بعض القرارات التي أعلنتها الحكومة العراقية، في حينها وأخرها المادة ( 140 ) في الدستور العراقي، ولكن (باستثناء بعض الخطوات الأولية) فان تنفيذ تلك المادة تباطأ وتباطأت وتيرة العمل عليها أو بالأحرى لم تنفذ على أرض الواقع .
ومنذ البداية جاهرت قوى وجماعات سياسية بعدائها لمضمون المادة وعدم استعدادها لتنفيذها، وقال اخرون بأن هذه المادة الدستورية ولدت ميتة وهي غير قابلة للتنفيذ. ومنذ عام ( 2014 ) أنشغلت الأطراف السياسية المؤثرة في كوردستان وحكومة الأقليم، بمعالجة التعقيدات والأزمات المتتالية كتردى الوضع الأقتصادي نتيجة انقطاع ارسال الموارد المالية من المركز ومن ثم حرب داعش وتداعياتها وتكاليفها الباهظة ونزوح أعداد غفيرة من النازحين في داخل وخارج العراق والأقليم. كل هذه المشاكل صرفت الأقليم عن تركيز اهتمامه على أزمة كركوك رغم أستمرار وتصاعد المشاكل وتداخلها مع الأزمات الأخرى.
وأخيرا وبعد المرور بتجارب وارهاصات ومطبات خطيرة وقاسية، خرجت سالمة واحتفظت حكومة الأقليم بشرعيتها الدستورية وكيانها، ولكنها خرجت منهكة وبحاجة الى فترة لتستعيد عافيتها.
ولا ننسى هنا تداعيات عملية الأستفتاء التي جرت في الأقليم والمناطق المتنازعة واثارها على العلاقة بين الأقليم والمركز وما تبع ذلك من تطورات ساهمت في خلق المزيد من التعقيدات وأزدياد التوتر وتصلب موافق الأطراف حول كيفية حل اشكالات المناطق المتنازع عليها وبضمنها محافظة كركوك . وفي الحقيقة لم تكن هناك فرصة للأحزاب الكوردستانية ولا لحكومة الأقليم لأستعادة الأنفاس، لأن الفترة الدستورية لبقاء الحكومة كانت منتهية وتقرر اجراء انتخابات عامة وبعد اعلان النتائج دخلت الجهات الفائزة في مفاوضات طويلة ومضنية ومعقدة من أجل تشكيل الحكومة. تلك العوامل جميعها أدت الى تراجع الأهتمام بقضية كركوك سواء بتفعيل وتنفيذ المادة ( 140 ) أو البحث عن حل أخر.
أما الحكومة المركزية ومعظم الأطراف السياسية في بغداد فأنها رغم انشغالها ايضا بالصراعات السياسية، كانت ومنذ البداية غير معنية جديا بحل المشكلة وساهمت بأساليب مختلفة في تعقيد الأمور. ولتوضيح الملابسات الحاصلة في هذا الموضوع لابد من العودة الى الوراء فقد تم في حينه وضع آليات وجداول زمنية وكانت البداية مشجعة ولكنها تلكأت لأسباب مختلفة فالأطراف المناوئة كانت تتحفظ على أجراء الأستفتاء وتتخوف من النتائج وتصر على إرجائها أو تربط أجرائها بشروط تضمن لها ما تريد من نتائج لصالحها، وهذا بالتأكيد لا يكون مرضيا للطرف الأخر.
ورغم أن تنفيذ تلك المادة الدستورية وبعد الأحداث والتغيرات التي حصلت وتحصل في محافظة كركوك وسائر المناطق المتنازع عليها، يعد أكثر صعوبة وتعقيدا، الا أنها لا زالت أفضل الخيارات لكل الأطراف لكي تعمل عليها وتصل الى تفاهمات تخدم الجميع.
وقد تبين أنه طيلة السنوات السابقة ومن خلال ممارسات الأطراف المتصارعة جميعا أنها وبدرجات متفاوتة لم تكن جدية وصادقة ولم تخطو بالأتجاه الصحيح، انما أستخدمت القضية كشعار للحصول على مكاسب سياسية وحزبية وشخصية ضاربة عرض الحائط مصالح سكنة المحافظة المتضررين من بقاء الوضع السيء وتفاقمه نحو الأسوء. ويلاحظ المراقب لأحداث المحافظة عودة الأهتمام بقضية كركوك هذه الأيام، فالحديث وطرح الاراء والمشاورات تجري بين أفراد ونخب ثقافية ومجموعات في داخل المحافظة وخارجها بتوجيه من جهات سياسية في كوردستان أو العراق أو بدون توجيه معين من أناس مستقلين من جميع المكونات بحثا عن حلول توافقية تنهي معاناة كركوك وساكني المحافظة أولا وتساهم في خلق علاقات مستقرة ومثمرة بين أقليم كوردستان و حكومة المركز.
ويمكن ايجاز الطروحات والأراء والمشاريع المتداولة بين هؤلاء المهتمين بما يلي ويجوز أن تكون هناك أراء أخرى لم نسمع بها:
1. العودة الى تقسيم المحافظة الى قسمين شمالي وجنوبي، كما جرى الحديث عنه في بداية السبعينات في القرن الماضي، وبعد أعلان بيان آذار عام ( 1970 م )، القسم الشمالي يلحق بأقليم كوردستان والقسم الجنوبي بالحكومة المركزية، والمعروف أن المشروع المذكور تم طرحه أنذاك من قبل قيادة النظام السابق في العراق ولم يلق قبولا لدى قيادة الحركة الكوردية.
2. تحويل المحافظة الى أقليم مستقل يرتبط بحكومة المركز وبحدودها الحالية.
3. أبقاء الوضع في المحافظة بحالته الراهنة وبحدودها الحالية، ومحاولة تطبيع الأوضاع وتسليم ادارة وأمن المحافظة الى سكان المحافظة واجراء أنتخابات مجلس المحافظة وما يتبع كسائر المحافظات العراقية .
4. اقامة أقليم كركوك بحدوده السابقة قبل عام ( 1975 م )، بعد اعادة أقضية (طوزخورماتو وكفري وكلار وجمجمال ) الى حدود المحافظة واجراء انتخابات للبرلمان وتشكيل حكومة الأقليم، وقبل ذلك حل الأشكالات المرتبطة بالمادة ( 140 ) من الناحية الدستورية .
ويرى الكثيرون في المهتمين بأمور هذه المحافظة القلقة، وأنا منهم، بأن الوقت الراهن ملائم للحل مرة أخرى من أجل تنفيذ المادة الدستورية ( 140 ) وأبداء المرونة اللازم من قبل الأطراف تسهيلا للتوصل الى حلول ممكنة للأسباب التالية :
1. العلاقات بين الأقليم والمركز ( حكومة وأطراف سياسية مؤثرة ) جيدة حاليا وتجاوزت مراحل التوتر والتصعيد والمقاطعة، وحل الوئام والتواصل والأستعداد للتباحث والحوار؟
2. وجود رئيس جمهورية في بغداد يتمتع بصفات جيدة تؤهله للمساهمة الفعالة قي التوصل الى حلول واقعية تخدم الجميع، ورئيس الوزراء صديق للجميع وله تجربة وخبرة طويلة في العمل السياسي. ويمكن لهاتين الشخصيتين لعب دور متميز في هذه المسألة، وفي حالة فشل جميع الجهود لتفعيل وتنفيذ المادة الدستورية المشار أليها ( وأمل أن لايحدث ذلك ) فلابد من البحث عن حلول أخرى وبدائل ممكن الأتفاق عليها .
وأرى أن مشروع أقليم كركوك بحدوده قبل عام ( 1975 م )، أقرب الى مصلحة الجميع ويمكن اجراء الحوارات والمشاورات حوله من الجهات المعنية وأخراجه بصيغة تضمن الحد الأدنى لطموحات الأطراف المشاركة في المسألة مع ملاحظة النقاط التالية:
1. منذ أكثر في نصف قرن دأب السياسيون والمثقفون ومن ثم معظم الأحزاب الكردستانية على ترسيخ مقولة أن كركوك كوردستانية ولا بد من أن تعود الى محيطها مع أحتفاظ مكوناتها المختلفة بخصوصياتها.
لذلك فمن الصعوبة بمكان الأن التراجع عن تلك الأراء والنظريات التي ترسخت في أذهان معظم المواطنين الكوردستانيين وقدموا في سبيلها تضحيات كبرى، والأتيان ببديل أو بدائل لا تؤمن ما يطلبه المواطن الكوردستاني المشبع بفكرة كوردستانية كركوك، مثل تقسيم المحافظة أو أقامة أقليم بحدودها الحالية أو ابقائها كما هي …
اذن الأمر يحتاج الى بديل يرضى الحد الأدنى من طموحات معظم الكورد، ولا بد ومن أجل التوصل الى حل توفيقي أن يتفهم الأخوة التركمان والعرب هذا الموضوع بتفاصيله وأبعاده، لأن أي قيادة كوردية أو حزب كوردستاني لا يقامر بمعاداة جماهير واسعة والوقوف ضد طموحات ساهمت في تبنيها والترويج لها، لذلك فأن أقليم كركوك المقترح هو تحقيق لأدنى المطالب الكوردية وهو الخيار الثاني في حالة فشل التوصل الى حل عن طريق تنفيذ المادة ( 140 ).
2. في حالة التوصل الى أنشاء أقليم كركوك، يمكن دراسة الحاق قضاء خانقين بها اذا رغب سكانها بالأقليم وتحويلها الى محافظة لوجود تشابه في الأوضاع فيها مع محافظة كركوك، وفسح المجال لأنشاء محافظات ( طوزخورماتو والحويجة وكلار وجمجمال ).
3. الأقليم بحدوده المذكورة، سيكون غنيا بثرواته ومتميز بموقعه الجغرافي، وأمكانياته البشرية مما يوفر لسكانه أولا ولكل العراق بعد ذلك فرص للتقدم والأزدهار والرقي .
4. موقع الأقليم بين أقليم كوردستان وحكومة المركز، يوفر أجواء أكثر ايجابية للعلاقات بين الطرفين ويفند المقولة الشائعة ( أن كركوك برميل بارود مهيء للأنفجار)، ويضمن لساكني الأقليم السلام والوئام وعلاقات طبيعية ومثمرة مع الجميع .
أما ما يتعلق ببعض المناطق في محافظة نينوى التي تشملها المادة ( 140 ) في الدستور، فأنها بحاجة الى دراسة أوسع، لم يتسنى لنا اجرائها ويمكن للأطراف المعينة الأستمرار في مباحثاتها للتوصل الى حلول مناسبة .
عزيزي القاريء ..
ان ما عرضته من أفكار وأقتراحات القصد من طرحها المساهمة في حل قضية طال أمد بقائها على حالها وهي مؤذية أولا لسكان المحافظة ومن ثم لجميع العراقيين، ولا بد من التوصل الى حل وأنهاء معاناة الألوف من سكان هذه المحافظة التي تتمتع بكل الشروط لأن تتقدم وتساهم في تقدم ورفاه كل العراقيين.