الحنجرة، هذه الدرة العجيبة التي تطلق من حبائلها عددا لايحصى من الأصوات، تتحفنا في بعض الأحايين بما يطرب مسامعنا، وتشدو بما يملأ الألباب شجوا، فتأتلف النفوس محبة، وتكتمل الأفكار جمالا، وتندمج الرؤى صفاءً، وتتوحد المسميات تحت مضامين شفافة، لعل الإنسان ينفرد دون المخلوقات بالإحساس بها والتفاعل معها.
وفي أحايين أخرى، ينبعث من هذي الحبائل زعيق، تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الذائقات، فتغدو الحنجرة حينها مصدر بؤس وشقاء وعناء.
ماسبق من وصف، لم يخص الإنسان وحده، فكثير من المخلوقات لها رجع صوت شادٍ، يشكل مع ما يخرج من حنجرة ابن آدم سينوغرافيا، تجمل أرجاء المعمورة، وتفعل فعل السحر “إلا أنه نغم جرى على فم داود فغناها”.
حتى اللحظة، حديثي عن جمال الصوت ووقعه على مسامعنا، ولا أظنني أشط عن الحديث، أو أشذ عن سياقه، إن عرجت فيه على أصوات يتوجب علينا سماعها، شئنا أم أبينا!، وسواء أأطربتنا أم عكرت أمزجتنا! فإن أمواجها داخلة لا محال آذاننا، الخارجية والوسطى والداخلية.
وهنا أشير الى تسميات أصوات الدواب باللغة العربية، وما استذكاري لها إلا لأنها ماعادت تخص الحيوانات فقط، فهناك كثير من الذين يرتدون رداء بني آدم، ويتزيون بلباسه، ويتزينون ببهرجه، إلا أنهم على حقيقتهم غير ذلك، وأظن أن مصطلح “حيوان ناطق” آن أوان استحضاره، والعمل به في مجتمعنا على نطاق أوسع -بل أوسع بكثير- إذ ما لنا بد من العيش فيه مجبرين. وأظن في عيش كهذا مرارة، أكدها المتنبي قبل أكثر من ألف عام حيث قال؛
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
فلقد جاء في معاجم لغتنا العربية مايأتي:
يطلق اسم (رغاء) على صوت البعير، و (خوار) على صوت البقرة، و (ضغيب) على صوت الأرنب، و(شحيج) على صوت البغل، و (نعيق) على صوت البومة، و (نعيب) للغراب، و (ضباح) للثعلب، و(خترشة) للجرادة، و (نهيق) للحمار، و (مأمأة) للخروف، و (ثغاء) للماعز، و(قباع) للخنزير، و (عرير) للصرصور، و (زمجرة) للضبع… والقائمة تطول على عدد الحيوانات المخلوقة على وجه المعمورة.
وإنه لمن المضحكات المبكيات التي مرت على العراقيين خلال العقود الخمسة المنصرمة، ارتفاع دوي وجعجعة وكثرة الكلام -الفارغ طبعا- واللغو واللغط والغلو الأجوف، في أرجاء الساحة السياسية، والتي يتصدرها عادة قادة البلد على مر تلك العقود من دون انقطاع، بل أن وتيرتها في تزايد لايقف عند حد، والغريب في الأمر أن اللغو لم يكن محصورا فيما يلقى من الكلام او المسموع منه، بل تعدى ذلك الى حيث الكلام المقروء، والتصريحات والخطابات.
ولا أريد الإطالة أكثر، فالأقاويل والأحاديث التي يخرجها ساسة حاضر العراق تفصح عن نفسها دوما، فهي طويلة عريضة تغرد في وادٍ، فيما مطالب المواطن الملحة والضرورية وحاجاته الماسة، تصرخ في وادٍ غير ذي أذن تصغي لها، لاسيما في ظرفنا ووقتنا الحالي، إذ أن البلد اليوم يناشد حاكميه بقرارات حاسمة حازمة، لايجدي فيها اللسان والحنجرة وحدهما، بل تتحتم ترجمتها ودبلجتها الى ما ينفع العراقيين في واقعهم المعاش، وهم يتقلبون على صفائح من جمر الانتظار، في مفاصل عديدة من مجتمعهم، على شفا حفرة هاوية عميقة، وكان الأولى بالمجلس التشريعي مناقشتها والبت بها (اليوم گبل باچر) وأن يغادر احتضاره الذي طال.
وإنه لمن المؤلم حقا، أن تعلو مسميات الأصوات التي ذكرتها فيما تقدم، أجواء العراق السياسية ومجريات اجتماعات مجالسه الثلاث، والمؤلم أكثر اختفاء أصوات أخرى، نحن اليوم ننادي باحتياجنا الحتمي لها، لاسيما ونحن في حلبة صراع بات أزليا، مع المفسدين -السابقين واللاحقين- تلك الأصوات هي كما ذكرتها المعاجم ذاتها كالتالي؛ (تغريد) للبلبل، (هديل) للحمامة، (زقزقة) للعصفور، (عندلة) للعندليب.
فهل يسعفنا ساستنا، ويتندرون ويسمعوننا شيئا من الأغاريد؟ وإن لم يكن هذا ما تحمله جعبهم، فيا حبذا لو أكرمونا بسكوتهم، فإن أنكر الأصوات…!