لم يكن للمرحوم جمال عبد الناصر ليتربّع في قلوب الجماهير العربيّة لولا القضيّة الفلسطينيّة الّتي ضلّ جمال يدعو عبرها لتحرير فلسطين طيلة فترة حكمه الثمان عشرة عاماً , ممّا أصبح نهجاً ثابتاً أو “قانوناً ملزماً” لكلّ حاكم عربي جديد يصل للحكم وباتت هذه الكلمة السحريّة “تحرير فلسطين” هي الافتتاحيّة المنعشة لمسامع الجماهير وعربون إثبات حسن نيّة تجاهها من أيّ حاكم أو بمثابة “كلمة السرّ” للولوج لقلوبهم حتّى كادت تصبح أو أصبحت من الحجج الجاهزة للانحراف بالحكم نحو التسلّط باسم القضيّة الفلسطينيّة ..
قضيّة فلسطين في الوضع الجغرافي الممزّق للعرب هي الحدود المعنويّة الجامعة لوحدة العرب عكس ما أراده الغرب بتأسيس “إسرائيل” لتمزيقهم فأصبحت مدعاة لوحدتهم ! .. فبدون “القضيّة” من السهولة بمكان تمزيق العرب جغرافيّاً أكثر ممّا هم ممزّقين حاليّاً .. ودليلنا الرغبة “المُعدية” الّتي اجتاحت بعض العشائر العربيّة “الغربيّة” مثلاً للانفصال عن العراق بحجّة “المظلوميّة” لولا وقوف بعض “المتحضّرون” منهم وفي مقدّمتهم الداعية الإسلامي المتحضّر الخلوق “د. عبد الملك السعدي” والمعتصمون ضدّ هذا التوجّه الخياني لتمزيق العراق ..
وبالمقابل .. فإنّ زوال “إسرائيل” لا يعني الغرب بعد ذلك إن توحّدوا أم تمزّقوا .. فبكلا الحالتين أصبحت “إسرائيل” عالة جاثمة على صدور الدول الغربيّة الّتي أسّست هذه الدويلة بنفسها .. وإن لم يفصحوا عن ذلك .. إلاّ أنّ تململ دول غربيّة بعينها من هذا الكيان مؤشّر على “إعياء سياسي” هي “إسرائيل” السبب في وصولهم إليه ..
بسبب مشاكلنا التاريخيّة ـ وكما أثبتت الأحداث الحاليّة ذلك بالتطبيق والمعاينة والتشخيص ـ فيما بيننا نحن العرب فإنّ الحدود الجغراسياسيّة الّتي صنعها الثنائي سايكس ـ بيكو لم تكن لتنجح في جمع العرب على هذه الخريطة بدل التشرذم والتفتّت بعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة المريضة “وهي طبيعة عربيّة تشكو نصفها البدوي الثاني” لم تكن لتنجح اتفاقيّة سايكس بيكو لولا زرع هذا الكيان كـ”نقطة استقطاب لتفعيل الانفعال العربي باتّجاه استقطابي واحد لخدمة الساسة الغربريطانيّة في عموم المنطقة والشرق الأوسط يكون العرب فيها موحّدون على هذه الشاكلة” كانت هذه النقطة هي الجامع للمّ شمل العرب وبدونها فإنّ “الجنوح” نحو الانعزال “الخيمة” هو التصرّف التلقائي للعربي أينما وضعته ..
يعني :
لو أراد الغرب حقيقةً وفعلاً تقسيم العرب زيادةً على ما هم “ممزّقون” لانسحب بهذه الدويلة إلى من حيث أتى بها .. هذه حقيقة لم تكن لتتوضّح لولا الأحداث الأخيرة فيما سمّيت بأحداث “الربيع العربي” ..
العرب بطباعهم لا قناعة لديهم لإقامة دولاً مثقلة “بالرسميّات” و “رفع العلم وموسيقى عسكريّة وبروتوكولات الخ” ويعتبرونها أعباءً تثقل كاهل الإنسان لا داعي لها ومن الملزمات الّتي لا تتفّق وطبيعة العربيّ الميّالة للتفلّت من أيّ التزام قانوني عدى التزامه بأعراف محيطه القبلي أو الجماعة .. كان ذلك على مدى التاريخ وشواهده لا تحصى وأشعار العرب مليئة بالتفرّد والانعتاق من “الحضريّة” ولذلك نراهم بالمقابل وعلى مرّ التاريخ يتحاملون على كلّ من ينحو منحى التحضّر من قومهم بل ويعتبر “عاراً” يجب إزالته ! .. ولا غرابة أنّ المدن الّتي تقع على حافّة الصحارى كثيراً ما كانت تتعرّض للغزو من قبل البدو ومن القرى والأرياف المتاخمة تتشكّل من عصابات “مطاريد” باللهجة الصعيديّة المصريّة ..
بغداد والقاهرة ودمشق حواضر العرب والنقيض لطباعهم من في الجانب الثاني وواجهتهم المشرقة على مدى تاريخ التحضّر البشري .. وهنَّ بالتالي ـ دمشق وبغداد والقاهرة ـ أهداف مفتوحة للمحتقنين من بني قومهم “الأعراب” تتحقّق متى ما واتتهم الفرصة .. وقد واتتهم الفرصة اليوم ! ..
الغرب عالِم بالطبيعة “المزدوجة” للعربي ونصفه الثاني “الأعرابيّ” والّتي عانا منها ما عانا نبيّنا الكريم فيستثمرها الغرب أحسن استثمار سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة أو على مستوى الدول .. فكما أسّس الغرب في العصر الحديث محيط لكلّ عاصمة “قديمة” القاهرة وبغداد ودمشق باتّفاقيّة سايكس بيكو أسموها دولة ؛ أسّس نقيضها ولكن بدور “دولي” مؤثّر ؛ منامة دبي أبو ظبي الرياض مسقط .. الكويت حالة خاصّة .. ليبقي التشاحن “التنافسي” بين العرب بين المتحضّر المحتقن بدوره على الطوفان النفطي لأفراد قلائل وبين المحتقن عليهم بدورهم “ببدلة” دوليّة وباعتداء رسمي ! .. مثلما أنشأ النقيض الطائفي ـ وهّابيّة ـ صفويّة ـ ..
العدوان “الإسرائيلي” هذا الّذي جارية أحداثه وتتطوّر سريعاً لغاية اللحظة على سوريا انطبق على جوانبه “التحالفيّة” المثل البدوي القائل ـ غنم ما شفنه ؛ بعرور ما شفنه ! ـ ولو أنّ الحلفاء المخفيّون من العرب “النصف الثاني” أخفوا تحالفهم طيلة إنشاء الكيان الصهيوني وإن ادّعوا بين فترة وفترة انحيازهم لأبناء جلدتهم “المتحضّرون” إلاّ أنّ “فرصة” القرن الأميركي الواحد والعشرون كشفت هذا التحالف المخفيّ والّذي لم يصرّح به هؤلاء الحلفاء لإسرائيل يوماً ما ولكنّ تصرّفاتهم وميولهم تفضحهم دائماً علاوةً على طبائعهم البخيلة ومعشرهم الجافّ بطبيعته يفضحهم باستمرار والّذي لا تخفي ملامحه على متحضّر ؛ قبل المباشرة الرسميّة بهذا المشروع والّذي كان أوّل ضحاياه من “المتحضّرون” هي بغداد بمساعدة المحتقنون المتحاملون هؤلاء حلفاء الكيان الصهيوني بالضرورة والّتي كشف طبيعتها الهجمات “الربيعيّة” الّتي طالت مدن الحضارة الثلاث بغضّ النظر إن اتّفقنا أو اختلفنا مع طبيعة الحكم في هذه الأقطار والّتي بحكم تجدّد الحياة بحاجة إلى التغيير بأيّ صورة كان هذا التغيير بشرط التغيير نحو الأحسن لا التغيير “مكانك راوح” بمثل ما أثبت ذلك الأنظمة البديلة الّتي طالها موسم “الربيع” ..
تشير مسيرة الإسلام انّ نبيّنا عربي متحضّر لاقى ما لاقى من اثنين كانا من ألدّ أعدائه ؛ هما “اليهود” أوّلاً رغم التحفّظ اللازم على تعميم هذه الكلمة “يهود” وثانيهما “الأعراب” وكادا يطبقان على الدعوة برمّتها لولا انكسارهما في :
معركة “خيبر” بقيادة إمام الشجاعة وإمام التقوى والصبر والبلاغة المتحضّر عليّ ابن طالب
وحروب “الردّة” الّتي قادها الإعراب والّتي كادت تجهز على مركز الإسلام الحضريّ الفتيّ “يثرب” فصدّها قيادتان :
قيادة مدنيّة ويمثّلها خليفة رسول الله بعد موته وخليفته في مرضه وإمام الصلاة البديل عنه شهراً كاملاً المتحضّر أبا بكر “الصدّيق”
وقيادة عسكريّة بقيادة “سيف الله المسلول” المتحضّر خالد بن الوليد ..
هذا الاعتداء الاسرائيلي الإعرابي السافر “رائحة الاتفاق بينهم واضحة وتزكم الأنوف” إن لم يكن “خطوة باتّجاه حل الأزمة السوريّة” متفق عليها بين الأضداد , فهو حملة مضادّة انتقاماً لما حقّقه الجيش السوري مؤخّراً على الأرض ممّا دفع لاستقبال الساحة السياسيّة على اختلافها العديد من المؤشّرات الّتي تثبت الإعداد المسبق لهذا الاعتداء بحملة من التصريحات والمقترحات قادها حاكم قطر وزيارات فيصل وزير خارجية المملكة السعوديّة لواشنطن وبعض اللقاءات الجانبيّة مع الحكومة التركيّة تفاعلت على تصريحات القادة الإسرائيليّون واستدعائهم لمجموعات قتاليّة من الاحتياط وسط تهديدات مسبقة لسوريا ولحزب الله مع اشتداد الحزم على توجيه ضربة جوّيّة إسرائيليّة لمواقع عسكريّة ومعيّنة في داخل إيران ..
وكالعادة .. وكما هدّد الغرب بضرب إيران في حين كان يوجّه ضرباته لكابول ولبغداد .. لم يتمّ قصف إيران .. تمّ قصف سوريّا البقيّة الباقية من عرب التحضّر الّتي تشغل بال العربان وتقلقهم ..
تحرّكت العديد من الأقطار العربيّة عن مواقعها الميّالة في الآونة “الربيعيّة” الأخيرة لمجموعة قطر واصطفّت اليوم وعادت من جديد بعد العدوان الإسرائيلي على سوريا إلى الجانب السوري ممّا لا بدّ وسيكون هذا الاصطفاف عودة للوعي الحضري كادت تطمسه نوافير النفط .. وما التغيّر الارتدادي في التوجّه المصري وانتقاله من “الحشد” القطري المصطفّ ببعروريّته .. بطبيعته .. مع الكيان الصهيوني ؛ إلى الحشد المحوري الملتف حول الوضع السوريّ المتأزّم .. فإذا ما أحسن محمّد مرسي رئيس مصر المنتخب إدارة توجّهه الجديد والّذي سيكون إضافة جديدة لمؤشّرات “تنصّر” مرسي باتّباعه خطوات عبد الناصر , فسيكون قد بدأ يسلك طريقاً يلهب حماسة الجماهير ويكسب الحكم الجديد شرعيّةً حقيقيّة يستحيل كسبها بصناديق الانتخابات ..