(في تلك الحقبة من العمل السياسي وفي ظل ظروف بالغة التعقيد وتحت تأثير هجمة شرسة من الدولة، فقد إشتد الخلاف بين قطبين رأيسيين داخل الحزب الشيوعي العراقي، فلكل منهما رأيه الخاص في كيفية التعاطي مع الحكم الجديد حتى باتت القواعد الحزبية في حيرة من أمرها، فمنهم مَنْ التحق بهذا ومنهم بذاك، غير انهما يلتقيان على هدف واحد وهو الإخلاص والتفاني من أجل المبادئ السامية).
بدأت تظهر من على شاشة التلفاز بعض المؤشرات التي تنُبأ بإقتراب موعد بث الخبر الموعود. أعيدَ رصّ الصفوف ليقترب رواد المقهى أكثر فأكثر ويتحلقوا حول جهاز البث، تاركين أحاديثهم وتوقعاتهم جانبا. في هذه اﻷثناءصدرت بعض اﻷصوات من هنا وهناك ولكن لم تستمر طويلا فقد جرت السيطرة عليها بسرعة فائقة. مَنْ كان بمعيتي وأنا إتخذنا من المواقع اﻷمامية مجلسا لنا وصادف أن كان بجوارنا أحد الرجال المسنين، والذي كما يبدو ومن خلال بعض النظرات التي كانت ترنو اليه، يتمتع بحظوة وتقدير عاليين من لدن الحاضرين، ربما تقديرا لعمره أو لوظيفته التي كان يشغلها أيام زمان، أو إحتراما لسجله النضالي المشهود له، وهذا على ما نعتقد الإحتمال اﻷرجح.
حاولنا إستدراج الرجل المسن الذي يشاركنا المقاعد اﻷمامية، من خلال فتح حوار هامس قد يفضي الى الإفصاح والتكهن عن توقعاته بما ستنبأنا به اﻷخبار أو الضيف الذي سيظهر على الشاشة بعد قليل، الاّ انّنا لم نوفق وعلى ما نعتقد بسبب إنشغاله بشاربيه الكثين، اﻷشيبين أو هكذا بدا لنا، واللتان وبسبب من كثافتيهما وعرضيهما حتى كادتا أن تسدا منخريه، تذكران بشاربي ذلك الزعيم السوفييتي، الجورجي اﻷصل جوزيف ستالين.
صاحب المقهى إرتكن جانباً ليختار مكاناً إعتاد عليه ومع كل مناسبة رسمية هامة وحين يشتد الزحام كالتي ستبث فيها المقابلة بعد قليل، وأكاد أجزم بأن إختياره لهذا المكان سيساعده على رؤية ما يظهر على التلفاز بشكل أوضح، وتجعله كذلك في موقع المسيطر على ما يجري من أحداث داخل المقهى وبكل جنباتها، فضلا عن حركة الدخول والخروج. أشار أبو جمعه بيمينه لكبير عماله بعد ولده الى تحمل مسؤولية إدارة المقهى بالكامل ريثما يتم الإنتهاء من متابعة ما سيجري.
قبيل لحظات من بدأ البث، علَّقَ أحد الجالسين في الصف الثاني وبصوت حاول فيه إسماعنا نحن فقط الثلالثة وﻷسباب نجهلها ما مفاده: بسبب ما تعانيه البلاد من مصاعب، فما أتوقعه أو قُُلْْ ما أتمناه هو خروج أحد المسؤولين الكبار من على الشاشة، ليعلن أمام الشعب عن إصدارحزمة من القرارات المصيرية والتأريخية، والتي ينبغي أن تكون مُنصفة وعادلة وجريئة، واﻷهم من ذلك كله أن تصب في صالح المواطنين، آملا أن تتضمن أيضا تراجعاً وإنتقاداًصريحا لتلك السياسات الخاطئة والخطايا التي إنتهجتها الدولة، فضلا عن الجرائم التي ارتكبتها، وإعترافاً كذلك بما إقترفت أيادي الحكم الجديد، الذي استلم إدارة دفة البلاد مؤخرا وبذات الوجوه والزمرة التي سبق لها وقبضت على مقاليد السلطة في عام 1963، وما قاموا به من تجاوزات، كانت قد طالت نُخَبٌ طيبة وبريئة من أبناء الشعب. لم يُردّ على التعليق اﻷخير الصادر عن الرجل أي أحد، ربما بسبب خشيتهم من تطور اﻷمر ليأخذ بعدا أكثر خطورة، خاصة وأنَّ عناصر اﻷمن الموزعين على أركان المقهى، ما انفكت عيونهم وآذانهم وهي في حالة من الترقّبْ والإنتباه، لما سيأتي من أخبار من على الشاشة.
قُطعت البرامج المعتادة وبشكل مفاجئ، ثم تبع ذلك تثبيت علم الجمهورية العراقية في أعلى شاشة التلفازمن جهة اليمين مصحوبا بالسلام الجمهوري، فيما بعد ظهر علينا مدير الإذاعة والتلفزيون بدمه ولحمه وصوته ونظارته الطبية السميكة، والذي كثيرا ما يبالغ في تحريك الحروف والوقوف عليها مطولا ليضعها كما يعتقد في مكانها الصحيح إعرابيا وبلكنة غَلُبَ عليها التمنطق على الإلقاء الطبيعي الهادئ والمتزن، حتى تظنه جالسا في إحدى قاعات التدريس وأمام حشد من التلاميذ ليقول:
أيها الأخوة المواطنون، يا أبناء الشعب العراقي العظيم، يا مَن خضتم معارك النضال والبطولة في سوح الوغى، يا َمن تصديتم لعملاء الإستعمار والصهيونية، يا مَن وقفتم صفاً واحدا كالبنيان المرصوص بوجه المتآمرين والمتربصين لمسيرة الثورة البيضاء المباركة، يا مَن سطرتم الملاحم البطولية، وبنيتم سياجاً شاهقا من الكرامة بوجه شلة من المتربصين المرتبطين بالأجنبي، يا مَن وقفتهم بوجه العملاء ومطايا الطابور الخامس ومستوردي النظريات واﻷفكار الجاهزة والدخيلة، والذين أرهنوا إراداتهم بيد الغرباء على حساب أبناء جلدتهم، سنكشف لكم اليوم عن آخر المحاولات التي قامت بها شلة مأجورة، ليس لها من همّ سوى الإلتفاف على مقدرات هذا الشعب الآمن، والعمل على إسقاط تجربته الثورية الرائدة والواعدة.
بعد أن رفع المذيع رأسه قليلا وبمواجهة الكاميرا ليواجه المشاهدين وجها لوجه في محاولة منه كما يبدو للفت إنتباههم، راح مواصلا: أيها الشعب العظيم، ايها المواطنون في شرق البلاد وغربها، ومن أقصى جنوبه الى أقصى شماله، نعرض عليكم الآن الإعترافات الكاملة لأحد العناصر المغرر بها والذي عاهد نفسه على التبرؤ والتنكر عما إجتهده من إنحرافات فكرية وقراءات خاطئة ﻷوضاع البلاد، كان من نتائجها أن ألحقت بالشعب والوطن أفدح اﻷضرار والخسائر وفي ظل ظروف بالغة الدقة، تستدعي من الجميع الوقوف صفا واحدا خلف القيادة التأريخية، التي تتحمل وزر إدارة البلاد بشرف ومسؤولية، ليكون بظهوره العلني هذا وأمام الملايين من أبناء الشعب، قد أعطى درسا بليغا لمن غرر بهم وعبرة لمن إعتبر، ليعلن أمامكم وبكامل إرادته وقواه العقلية والجسدية، عن ندمه وأسفه، عما قام به جناحه العسكري المسلح، من أعمال تخريب وتفجير في العاصمة وبعض مدن وقصبات الوطن، حاثا وداعياً مَنْ سماهم برفاقه، بإلقاء السلاح والسير على خطاه والإلتحاق بالصف الوطني، جنبا الى جنب وكتفا الى كتف وبما يتفق وأفكار الحزب الحاكم. ومن خلال هذا الظهور سيعلن وبرغبته التامة، ومن دون ضغط أو تهديد من أحد عن إلتحاقه بالتجربة الثورية التي نخوضها، وأن لا مناص الاّ التعاون والعمل المشترك، فمصيرنا واحد، وعدونا واحد، ولنعمل سوية من أجل إنجاح تجربتنا الوطنية والوقوف صفاً واحداً بوجه أذناب الإستعمار وأدواته، والمجد ﻷمتنا المجيدة.
ثم راح المذيع مكملا: ايها المواطنون اليكم نص المقابلة التي جرت مع هذا الشخص الذي أعلن عن ندمه وبلسانه، وليعرب عن إستعداده التام للتعاون مع السلطة الوطنية…….
وبمجرد أن بدأت تظهر ملامح الشخص المعني من على شاشة التلفاز وحتى اكتمالها على نحو جلي، ومن قبل أن يُكمل المذيع مقدمته، تذكّره وعلى الفور ذلك الرجل المسن المتصدر للصفوف الأولى من الجالسين، لينهال عليه ودونما إنتظار أو مراعاة للجو المشحون بالتوتر وبعيون رجال اﻷمن، بسيل من الشتائم والسباب، ملحقها بحذائه الأيمن ليسدده صوب الشاشة، إحتجاجاً وتعبيراً عن غضبه وسخطه عما تراه عينيه وما تسمعه اذنيه. تبع ذلك كم هائل من التعليقات الرافضة والمستنكرة لما صدر من تصريحات، مرفقة بفردة حذاء اخرى مصدرها أحد الواقفين الذي كان يتابع هو اﻵخر مجريات المقابلة. غصَّت بثالث عبارات الغضب واﻷسى، لذا صعبت عليه القدرة على التعبير عن رفضه وإحتجاجه.
صاحب المقهى لم يجد أمامه من حل للسيطرة على الفوضى التي عمَّت المكان غير التوجه نحو التلفاز والتهديد بإغلاقه، إذ إعتبره مصدراً ومسبباً لكل ما يحصل، الاّ انه إضطر على التراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة، تحت ضغط الإعتراضات والصراخ الذي رافق ما كان ينتويه. مَنْ كان بصحبتي وأنا ضربتنا الدهشة واُصِابنا الذهول، فلم نقوَ على القيام بأي فعل، فوقع المفاجئة كان كبيرا ومدميا. تطلعنا في وجوه بعضنا البعض، حائرين، متسائلين ومحتجين أيضاً عن الدرك الذي أوقعنا فيه هذا الذي كُنّا حتى لحظات خلت نعده رمزاً للشجاعة، معولين عليه كي يقلب موازين القوى ونفخر في أن نسميه رفيقاً مقداماً،ستهتز له جبال الشمال وتفخر به أهوار الجنوب. الى أين سيأخذنا هذا السافل؟ قال أحدنا.
بدأ الناس يتقاطرون من جديد وبأعداد غفيرة وغير متوقعة نحو المقهى، وذلك بعد أن ارتفعت وتيرة الإحتجاجات وتصاعدت معها لغة الرفض. صاحب المقهى إنسحب من المشهد بشكل كامل وبطريقة ملفتة حتى إنتبه له البعض حين مغادرته، لَحِقَ به أحد رجال الأمن ومرافقيه، ربما إدراكا منهم وإعترافا كذلك بصعوبة السيطرة على ردات الفعل الصادرة من الحضور. في هذه اﻷثناءدخل المقهى شخص آخر لم يكن من بين جلاسه عند بدء البث التلفزيوني، غير ان ما ورد من إعترافات خطيرة على لسان الشخص الظاهر على الشاشة، والتي وصلت مسامعه قد أثارت غضبه، ليتجه وبسرعة ملفتة نحو التلفاز، ليتف وبملأ فمه على مَنْ كان رفيقه حتى اﻷمس القريب ومَن ظنه سيكون أول رئيس لدولة البروليتارية المنتظرة في منطقة الشرق الأوسط، والذي ما إنفك يراوده ذلك الحلم، حيث سيتساوى فيها الجميع تحت رايته الخفاقة، وتصبح تلك التجربة نبراساً ونموذجاً لدول اخرى واعدة، وستجبر آلة الحرب العالمية وزعيمتها على الإنحناء لها إجلالا وإكبارا.
أحد اﻷشخاص والذي كان قبل قليل قد شدَّ أسماعنا بالصوت الصادر عن بدراجته البخاريه القديمة، دخل المقهى هو اﻵخر بسرعة وهو في حالة من الإنفعال والغضب الشديدين، مهدداً ومتوعدا وعلى رؤوس الأشهاد بتصفية مَنْ أسماه بالنذل، والذي كان قد ظهر قبيل لحظات من على شاشة التلفزيون، قاسماً وبكل ما يمتلك من مبادئ وقيم، أن تكون نهايته على يديه. وأثر هذا التهديد وبحسب الأخبار الواردة ومن مكان الواقعة، فقد جرى إقتياده بُعيد مغادرته المقهى مباشرة، ومن قِبَلْ رجال الأمن الثلاثة، الذين كانوا قد عادوا ثانية ليراقبوا ردات فعل رواد المقهى، ليتم حشرْ صاحب الدراجة البخارية في إحدى السيارات المظللة ويودع في أحد أقبية اﻷمن. وفيما بعد وعلى ضوء ما تسرب من أخبار، فقد جرت محاكمته بتهمة حيازته للسلاح وتهديده ﻷمن الدولة والمجتمع. يقال ولم يجرِ التأكد من ذلك، بأن فترة العقوبة قد خُفضت واطلق سراحه قبيل إنبثاق ما سمّي بالجبهة الوطنية، في بادرة وُصفت بحسنة النية، تمهيداً كما أشيع لذلك الإتفاق الذي ابْرمَ فيما بعد بين حزب السلطة وبعض الأطراف المعارضة له.
في صبيحة اليوم التالي على تلك المقابلة الشائنة، ظهرت في أغلب المدن العراقية ردات فعل عنيفة وصاخبة، تمثلت بالشعارات التي ازدانت بها جدران بعض المحال والمقاهي الشعبية، لتعبر عن رفضها القاطع لتلك التصريحات والإعترافات، مُدَعَّمة ببيانات الإستنكار والشجب، بسبب هذا الظهور المتخاذل لذلك الشخص، محملة إياه مسؤولية كل قطرة دم ستساح في مقاصل دوائر اﻷمن ومؤسساته القمعية.