18 نوفمبر، 2024 3:37 ص
Search
Close this search box.

إشكاليات السؤال الفكري العربي حول فهم الذات /التاريخية- الآخر/ الغربي

إشكاليات السؤال الفكري العربي حول فهم الذات /التاريخية- الآخر/ الغربي

أصالة أم تحديث ، تراث أم معاصرة ، شرق أم غرب … إلى آخر هذه الثنائيات المعروفة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ، والتي تكون سؤالاً ثقافياً هاماً لايزال مثار جدل لم ينقطع ، والبحث عن مفاتيح للإجابة جهد يواصل تقديمه المفكرون في الوطن العربي على مختلف اتجاهاتهم وتباين اطروحاتهم … فمن اتجاه تمجيدي افتخاري ينكفئ على الماضي ، يفتش في حناياه عن ذات فاعلة تواجه بالاستلاب والاغتراب. والتصاق هذا الاتجاه بالماضي ، غالباً ما يصاحبه خصومة للحاضر إلى اتجاه يتماهى مع الآخر/ الغربي ، مسحوراً بمظاهر النفوذ والهيمنة والتسلط ، ويقع هذا الاتجاه في خصومة مع ماضيه وتراثه ، ويعتقد أن عملية التحديث لا تتم إلا حينما يضحي بالأنا – التاريخي . ويتوسط هذين الموقفين موقف توفيقي انتقائي يحاول دون كلل الامساك بطرفي المعادلة.
هذه الاتجاهات والتيارات الفكرية جعلتنا ندخل في إشكاليات عدة منذ قرنين، ولازلنا نتحاور حول ذات الأسئلة وكأنه مكتوب علينا أن نعود إلى نقطة البدء أما عن قصد لغايات في نفس البعض أو عن غباء وهذه الطامة الكبرى التي لازلنا نعاني منها بسبب من تسطيح إدراكنا لما يدور حولنا إلى حد الاستنقاع. وفيما يأتي أورد بعض هذه الإشكاليات:-
الإشكالية الأولى:-  اشكالية الحداثة
الحداثة ، قضية تطرح نفسها عبر كل الأجيال … ، وهي في جوهرها ترتبط بحساسية متطورة ومتغيرة ، طبقاً لتغير العصر والمكان والسمات الحضارية . فهي مشروع حضاري واجتماعي وسياسي مطروح منذ بداية عصر النهضة العربي ، إنها قضية ملحة وأساسية لكل من تشكل الثقافة عنده هماً وتكاد تتقدم سلم اهتماماته. قضية تطرح نفسها من خلال مجموعة أسئلة :- ما هي العلاقة بين المنتج الحداثي والتراث الوجداني للعرب ؟ وهل من الممكن أن تولد الحداثة من حالة انقطاع ورفض للقديم ، حتى ولو كان هذا القديم في جوهره أكثر تقدماً ومعاصرة من السائد القائم ؟ وما هي حدود التجاوز المتاحة للمبدع العربي كي ينتج الحداثة ؟
إشكالية الحداثة ، تكاد أن تكون هي الإشكالية الرئيسية للمجتمع العربي.  فالتعارض القائم بين القديم والجديد ، الحداثة والتقليد ، الوافد والموروث ، يدفعنا أن نفرق بين أشكال الحداثة في الوطن العربي وبين أشكال الحداثة في الغرب. لأن أوربا عايشت الحداثة داخلياً ، ففي ذلك الوقت كانت وحدها في العالم ولم يكن هناك عنصر خارجي يمدها بالحداثة أو يمنعها من الحداثة . وعندما نقول أن أوربا تعيش الحداثة داخلياً ، يعني هذا أن هناك فعلاً صراعاً بين قديم وجديد ، ولكن لم يكن هناك عنصر ثانٍ يدفع عملية الصراع سواء بتزكية الجانب القديم أو بتزكية الجانب الجديد ، ولا كذلك بالبحث عن موقف توفيقي.
أما في التجربة العربية ، فالحداثة نشأت أثناء الصدمة مع الغرب في القرن التاسع عشر وبالتالي ارتبطت بهذه الصدمة التاريخية.
فالحداثة ، إذن نموذج غربي وافد إلينا ، ولم تكن تطوراً داخلياً من داخل التجربة العربية نفسها ، فارتبطت عملية التحديث في الوطن العربي بمسألة الاتصال مع الآخر الذي يتحدد جزئياً على الأقل كخصم مستعمر . فعند بعض الذهنيات قبول الحداثة يعني قبول نموذج الخصم ، وهذا الخصم أحياناً يرفع إلى خصم تاريخي صليبي وأحياناً أخرى خصم استعماري.
فالحداثة قضية معقدة في الوطن العربي ، ذلك لأننا لانعيش مشكلة الحداثة على مستوى علاقة التطور الداخلي أو نتيجة لمعطيات عربية ، فمن هنا ردود الفعل المتشنجة التي ترفض الحداثة مطلقاً ، وتفهم أنها لاتحمل إلا الاستلاب أو الخضوع لنموذج غربي مغاير.
وبما أن (الأنا) متعدد عندنا و(الآخر) كذلك فيه آخرون ، أصوات متعددة متناحرة ، فالموقف من الغرب عندنا يتحدد بنوع (الأنا) المتكلم ، فيكون هناك من يقبل وهناك من يرفض.
وعندما أقول أن المسألة معقدة ، لايعني هذا أنها غير قابلة للفهم ، ولكن هناك عدة معطيات كإشكالية ضرورية تتكون من عدة عناصر ومشاكل مترابطة ، فلاينبغي تبسيطها فقط إلى (نحن) و(الغرب) . فالغرب متعدد ونحن متعددون ، والعلاقة فيما بيننا ليست على مستوى واحد . واشكال الحداثة يقع بين هذه المعطيات المتقاطعة المتداخلة ضمن دائرة الحضارة الحديثة التي نحن فيها موضوعاً ، أي خضوعاً للاستغلال ، وأيضاً كذات تسعى إلى التطلع والمواكبة.
ومع كل هذا فنحن ملزمون تاريخياً بتحقيق الحداثة ، لأننا في عصر تعدى الحداثة بمعناها القديم إلى عصر التقنيات الرقمية ، وهذا العصر يستلزم منا تحديث كل شيء فنجعل كل شيء فينا حديثاً قابلاً لمواكبة التطور العالمي.
كما إن جعل المسألة محصورة بيننا وبين الغرب ، وضع خاطئ ، لأن العالم تحكمه علاقات تداخل واكتساح ، وكلما كان طرف من الأطراف في وضعية ضعيفة كلما سهل سقوطه فريسة لا للغرب بل للوضع العام العالمي الذي يفرض نفسه على الجميع ، فإذا ما أردنا أن نعيش في مجتمع وعصر لامكان فيه للضعفاء، علينا بأن نقبل التحديث في مجمله وأن نجدد مفهومنا للتجديد.
فالفقهاء الآن مازالوا يفهمون التجديد كما عرفه فقهاء القرن السادس عشر ، أي كما عرف في وضع أيديولوجي نضالي تاريخي معين . فإذا كان فهمنا للتجديد كما في تعريف الأصوليين – أنه كسر بدعة والرجوع إلى سيرة السلف الصالح – فلا مخرج لنا إن قيدنا أنفسنا بهذا المفهوم . وهذا التعريف ليس ملزماً لنا ، قد ينطبق على مجتمع إسلامي في القرن السابع أو السادس الهجري حينما كانت البدعة تنمو من داخل المجتمع المسلم وحينها كان العالم هو عالم العرب وهو النموذج الوحيد . أما الآن فنحن في وضع آخر . فالحداثة ليست بدعة ولاانحرافاً داخلياً بل تطور عالمي كنا غائبين عنه وعن المشاركة في صنعه ونحن محتاجون إلى تجديد وضعنا وذهنياتنا ونوع رؤيتنا للتجديد نفسه ، وإذا لم نقم بهذا الجهد المتعدد المستويات والأبعاد وبقينا ننشغل بناصية تاريخية لاتفيد ولاتجدي ، سيظل التحديث شكلياً ومظهرياً ليس له جذور داخل الأرض ولاداخل العقل ، فأي ريح عاتية تأتي عندئذ ستقتلع مالاجذور له وما لاأسس له.
• الحداثة … ظاهرة غربية
إن الصراع مابين الحداثة والتقليد صراع أزلي وليس صراعاً خاصاً بمجتمعاتنا بل هو موجود في كل المجتمعات قديمها وحديثها ، ويدعو إلى طرح هذه المشكلة على مستوى انثروبولوجي . فإننا يجب أن ننظر إلى الصراع ما بين الحداثة ، والتي هي تغير مستمر ومتواصل في تاريخ البشرية وما بين التقليدي الذي هو سلسلة القيم التي يؤمن بها اصل مجتمع من المجتمعات ، ويتشبث بها لأنها موجودة ، وقد كيّف النظام الاجتماعي حسب مقتضاها على مستوى عام ، حتى لانتخيل أن الصراع خاص بالإسلام ، وان ننظر إليه كذلك كمؤرخين ونفهم ماذا حدث في الغرب أصلاً . أي نفهم الظاهرة كـ (ظاهرة غربية) . واستخدام هذا التعبير بدلاً من الكلمات الواردة في الخطاب العربي المعاصر الرافض ، المبني على الجدال مع الغرب . وأُلح على هذا التعبير (الحداثة .. ظاهرة غربية) لأنه قد يكون من السبل التي تمكننا من الخروج من هذا المأزق ، وذلك لن يكون إلا حينما نتعلم كيف نمارس هذه المشاكل وكيف نعالجها على أساس الفهم والتحليل لا على سبيل المجادلة والنضال ، وليس معنى إنني أقلل من أهمية النضال ، فلابد من النضال ، ولكن توفر من يقوم بوظيفة التحليل والتفهيم شيء لابد منه أيضاً . لذلك ، قلت (الحداثة … ظاهرة غربية) حتى نتعامل معها بعقلانية.
فماذا حدث في الغرب بعد القرن السادس عشر ؟ وماذا حدث في تاريخنا بعد هذا القرن ؟
سؤال تاريخي يجب أن يطرح خارج الإطار الجدلي الذي طغى على العقل العربي زمن النفوذ الاستعماري في مجتمعاتنا . كنا مجبرين على طرح هذه الأسئلة على مستوى أيديولوجية النضال ، أما الآن فيجب أن يتم طرح هذا السؤال بروح علمية لأنها وحدها هي التي ستؤدي بنا حتما إلى فهم ماذا حدث بالغرب تاريخياً وثقافياً ، عند ذاك نفهم ما يسمى بالحداثة والتي لم يشارك طبعاً في إحداثها العقل العربي المسلم .
إن حديثنا عن الحداثة غالباً ما يتم بانتزاعها من تاريخيتها كفكرة مجردة وكصراع أزلي بين القديم والحديث . والحداثة في الوطن العربي لها تاريخيتها ومراحلها المختلفة . فحداثة اليوم غير حداثة الأمس وبالتحديد منذ القرن التاسع عشر والتي كانت تعني الصراع الدائم والذي هو سنة الحياة ما بين المحافظة والتجديد ، وبالاحرى مشكلة الحداثة كما هي واردة في الخطاب العربي المعاصر، هي مشكلة خاصة ، والدعوة التحديثية التي قامت على أيدي مجموعة من المفكرين الإصلاحيين التنويريين في بداية القرن العشرين ، كان يسم خطابها الدعوة التبشيرية الايديولوجية بصلاحية ومشروعية الحداثة والتحديث في مجتمعنا وفي مختلف نشاطاتنا الفكرية والصراع في هذا الخطاب هو غير الصراع الذي ارتدته الحداثة في الخمسينات في عهد الاستقلال العربي ، وهو أيضاً غير مانعيشه حالياً بشكل خاص ، وهي فترة الردة عن الحداثة.
وحينما أسميت هذه الفترة الحالية بفترة الردة عن الحداثة ، لم أكن مبالغاً لأننا نعايش منذ سنوات على المستوى الفكري بشكل خاص ردة يمكن أن نبنيها بهذه المفارقة البسيطة.
نحن لا نستطيع في بعض الأحيان أن نقول كلاماً كان يقوله محمد عبده أو سلامة موسى أو حتى طه حسين في بداية العقد الثاني من ألفيتنا الثالثة هذه !!
• الأصوليون والحداثة
يتبنى الأصوليون منهجاً لاتاريخياً في تعاملهم مع التراث ، حيث أنهم ينتزعون الأفكار من تاريخيتها ويقولون بالعودة إلى التراث دون استيعاب أن هذا التراث متعدد ومتنوع وليس تراثاً واحداً وله أيضاً تاريخيته ومراحل تطوره . ومما يبعث على الضيق أنهم في جدلهم الفكري لايقومون إلا بترديد بعض الأفكار المعروفة وحتى دون الكلام عن باب الاجتهاد . ليس عندهم جهد تنظيري حقيقي وتأصيلي في بعث بعض المفاهيم القديمة.
ونختار هنا مجالاً محدداً لنطرح فيه إشكالية الحداثة ، وهو مجال (الاجتهادات الفقهية) رغم إقرارنا بأنه مجال مليء بالألغام والأشواك . فإن أكثر ما أخشاه أن تكون هذه القضية أشبه بالأمراض المزمنة في الواقع العربي المعاصر ، لأن الحديث فيها ممتد عبر عشرات السنين منذ فتحت الأمة العربية عينها على الهوة الشاسعة التي تفصل بينها وبين الغرب عند أول احتكاك معه أثناء الحملة الفرنسية على مصر . ومنذ بداية القرن العشرين ومحاولات الأجوبة تتوالى من خلال إسهامات عدد من المفكرين والفقهاء والباحثين.
ولاشك أننا في المشرق العربي على الأقل نرصد محاولات واسعة المدى بذلها الأمام محمد عبده في محاولة الإجابة عن صيغة مناسبة للخروج من هذا المأزق . والموضوع إلى الآن مثار جدل مستمر ، وأخشى أن المشكلة ليست بالدرجة الأولى في عدم العثور على صيغة بقدر ما هي عدم الرغبة في العثور على صيغة بقدر ما هي عدم الرغبة في العثور على هذه الصيغة بحيث يتصور البعض أن هناك صعوبة في إيجاد صيغة تستند إلى أصول فقهية تمكن هذه الأمة من أن تعيش من واقع عصرها . وأرى أن هذا ممكن ، فعلى صعيد الاجتهادات الفقهية لدينا علم واسع وعريق يسمى (علم الفقه) ، وهو علم وُضع أصلاً لضبط عملية الاستنباط والتطوير الفقهي . فإذا كانت لدينا أداة تطوير وواقع متغير ، ما الذي إذن يمنع من استخدام هذه الأداة في التعامل مع الواقع ؟!
أعرف أن المسألة ليست بهذه السهولة ، لكن الطريق موجود ، وعلم أثراه فقهاء السلف والخلف ، وصاغوا من خلاله معادلات للحداثة والتطوير في كل عصر . أما لماذا لا تستخدم هذه الأداة ؟ ولماذا لاتوظف في تحقيق هذا الهدف ، فهو سؤال أطرحه وأؤكد عليه . وكما أن هناك فقهاء يسعون جادين لتحقيق صيغة سليمة ، هنالك أيضاً فقهاء محافظون يسعون بمنطق التحوط الزائد إلى ممارسة قدر كبير من البطء كما يشكل عائقاً للمسيرة الحضارية ، وهذا ينبغي ألاّ يزعجنا لأن المدارس الفكرية جميعها فيها المحافظون والمتحررون.
وما يمنع من الوصول إلى صيغة سليمة ، هو المناخ الثقافي والسياسي الذي نعيشه ، فهو لايشجع كثيراً على اقتحام هذا الميدان بجرأة وقبول وجهات النظر في الاجتهاد ، ولن نتجاوز عقدة الموروث ما لم يتوفر المناخ الصحي الفكري والسياسي العام للمفكرين والباحثين.
كما أنه لم يعد من المقبول بأي منطق أن يلغى هذا القديم أو الموروث . ولكن السؤال ، هو كيف يشكل هذا الموروث دافعاً للانطلاق إلى الأمام وليس حاجزاً يحول دون التقدم أو عائقاً يعيد المسيرة إلى الوراء.
• إشكالية جديدة قديمة
ولكن إشكالية الحداثة ، هل هي إشكالية جديدة أم إشكالية متكررة في تاريخية الفكر العربي ؟ بصيغة أخرى ، هل واجه المجتمع الإسلامي في فترته الكلاسيكية إشكالية القديم والجديد ؟ وإذا كان المجتمع الإسلامي عايش هذه الإشكالية ، هل هناك بعض أوجه الشبه بينها وبين ما نعايشه نحن في هذا العصر؟
إنني ، ووفق استقصاءاتي ، وجدت حداثة في المجتمعات العربية الإسلامية في الفترة الكلاسيكية للفكر العربي الإسلامي . وما حركة المعتزلة وأعمال الجاحظ إلا أشياء دالة على تغير وعلى فهم الضرورة الطارئة على المجتمع الإسلامي ، ولكننا انقطعنا عن هذه الحداثة في الفكر العربي كموقف فكري ولم ننقطع عنها كمحتوى للأفكار ، أي أن انقطاعنا عنها كموقف فكري أمام الحوادث الطارئة على المجتمع المسلم . وإضافة إلى ذلك نحن منقطعون عن حداثة الغرب. فبعد القرن السادس عشر أصبحنا غير قادرين على فهم ماذا حدث في الفكر الغربي وذلك يرجع للصدمة التاريخية التي وقعت لنا مع الغرب والتي جعلتنا حتى غير قادرين على فهم ماذا حدث في مجتمعاتنا.
إن الحداثة عندي هنا ، هي الانتقال من النظرة الدينية المتألهة لمشاكل الإنسان والمجتمع والتاريخ ، إلى نظرة عقلانية مستقلة عن جميع الاعتقادات التي تفرض على العقل من خارج إطاره . وهذا التغيير الداخلي للبنية النفسانية للإنسان لم تعطه ما يستحقه من الاهتمام والاجتهاد الفكري . نحن بأمس الحاجة إلى موقف فكري متفتح وموضوعي يدرس المسائل دون فرضيات مسبقة بل يستمد أحكامه من تحليل للواقع ، كما هو في الفكر الغربي.
إن المجتمع العربي الإسلامي في طوال مسيرته ، عايش هذه الإشكالية ، وكلنا يعرف أنه بعد أن احتك العرب المسلمون بالحضارات الأخرى ورأوا أشياء لم يسبق أن رأوها من قبل ، بدأت تلح على عقولهم كيفية التكيف مع موضوعات مستجدة ، وهذا التحدي برز بشكل واضح حينما انتقلت الخلافة إلى الشام في العهد الأموي ، ونظم الحياة هناك مختلفة ، فدون العرب الدواوين عندما تبين لهم أنه أسلوب عام في الإدارة والعمل . فلم تكن عند العرب المسلمين عقد ولم يكونوا يعتبرون أن العنصر الأساسي في قبول الفكرة هو مصدرها بل ينظرون إلى مدى فائدتها لمجتمعهم فكانت لديهم قدرة كبيرة على التطويع والتكيف من مرحلة إلى أخرى ببساطة . هذه العقد والحواجز والأغلال لم تبرز بشكل واضح إلا في عصور الانحسار والانحطاط والجمود.

الإشكالية الثانية:- نفي الاخر
إن (نفي الآخر) ، ظاهرة ملموسة بشكل حاد في عقلنا العربي ، وهي بدلاً من إقامة الحوار معه وتفهم الأرضية التي يقف عليها . وهذه الظاهرة ليست مقصورة على الاتجاهات السلفية التقليدية فقط ، بل والاتجاهات التحديثية . فما هي السبل التي تحقق لنا الانتقال من جدلية النفي إلى فضاء من الحوار الخلاق ؟
بداية ، يستوجب عليّ هنا أن أحدد دلالات كلمتي سلفية وحوار . فالسلفية في رأيي ، يجب أن ننظر إليها ببصيرة المؤرخ ، لأنه حينما بدأت علاقات الاستعمار ما بين العرب والمسلمين والعالم الغربي في القرن التاسع عشر ، كانت هذه الحركة أكثر تفتحاً مما هي عليه في السنين الأخيرة.
كان الإمام محمد عبده يتشبث بالعقلانية ويأخذ بأفكار كثير من العلماء . بينما الآن يرفضونها على أساس التغيير السياسي في العلاقات ما بين الغرب والعرب المسلمين . والمنظور التاريخي يفيدنا في مراعاة التغيرات وأسبابها في مواقف علمائنا ، وأيضاً في مواقف الغرب ، لأن هناك أيضاً تفاعلاً وتواصلاً.
وفيما يخص كلمة حوار ، لست أدري هل يمكن استعمال هذه الكلمة لأن العلاقات ما بين الجماعات في مجتمع واحد أو العلاقات ما بين الأمم مبنية على القوة أكثر مما هي مبنية على التفاهم . فمثلاً في القرون المنتجة الكلاسيكية للعرب والمسلمين ، كانوا يأخذون حينها من مدنيات عديدة لأنهم كانوا مجموعة قوية ، وفي امكانهم أن يستعملوا هذه الثروات الثقافية والفكرية لصالحهم . ولكن عندما تغيرت هذه الظروف وأصبح الغرب يشتد نفوذه ، تغيرت مواقف العرب والمسلمين إلى مواقف خضوع وانغلاق ، وقد أثر في تطوير مواقف مجتمعاتنا أمام (الظاهرة الغربية) ما حدث في الخمسين سنة الأخيرة عندما بدأت تطغى على جميع الناس روح ما أسميه بـ (أيديولوجية النضال) ، وهو الرغبة في التحرر من الاستعمار والتبعية له ، ومن التحرر من الضغوط الداخلية بعد مرحلة الاستقلال.
والسبيل إلى تغيير هذا الوضع هو ما ذكره مراراً المفكرون المناضلون من ضرورة تغيير العلاقات بين ما يسمى المجتمع المدني والدولة ، وهذا التغيير في العلاقات يتطلب شروطاً عديدة تتعلق بالتطور التاريخي وبالبنيات الاجتماعية في المجتمع العربي في الخمسينات . ونعلم أن هناك تغييراً ديموغرافياً في مجتمعاتنا وقع بعد ذلك الزمن ، وهذا بدوره غير البنيات والقوى الاجتماعية المتفاعلة وأسهم في تغيير المواقف التي نتخذها إزاء الظاهرة الغربية.
إن لهذا النفي مسبباته الموضوعية ، فتحديد (الأنا) لايتم إلا عبر الآخر . فالذات العربية عندما ترد الفعل إلى الغرب بشكل سلبي ، ذلك لأن الغرب نفسه قام بعملية تطمح إلى نفي الآخر (العرب) . وأقصد بذلك الحملات الاستعمارية أساساً والكيفية التي فسرت بها في الوطن العربي والعالم الإسلامي والغطاء الديني الذي أُعطي لها . ورد الفعل الذي هو تأكيد للذات كان يجب تاريخياً أن يظل مؤقتا أي بمجرد ما تستعيد الذات ثقتها بنفسها أو بمجرد أن تخف درجة الانفعال تبدأ الذات بمراجعة موقفها مع الآخر / الغربي ، ولكن هذا لم يحصل بهذه الكيفية المطلوبة التي يتحول من خلالها هذا النفي إلى جدلية في إطار من الحوار المنتج.
هناك ضرورة تاريخية ومعطيات موضوعية جعلت رد الفعل العربي يتوالد وينقسم إلى عدة مواقف. موقف رافض وموقف مغترب وموقف يحاول التوفيق بين هذين الطرفين.
أما كيف يتحقق لنا الانتقال من النفي والإلغاء إلى آفاق من الحوار البناء؟
مهمتنا كأصحاب فكر ليس من حقنا أن نجيب على هذا السؤال بكيفية قطعية أو بلغة دبلوماسية ، فصراع الحضارات والأيديولوجيات واقعة ليس من السهل البت في مجراها ومسراها بكيفية نهائية ، فهذه مسألة أجيال وتغيير ذهنيات وبالتالي إعادة فهم للذات بالنسبة لنا نحن وكذلك بالنسبة للغرب . وعلينا أن ننظر للمسالة من زاوية أخرى ، أي كيف نتقدم ونرتفع (نحن) إلى مستوى يمكننا من الحوار مع (الآخر) ، حواراً متكافئاً ليس فقط على مستوى القدرة الذاتية لمواجهة الآخر بل أيضاً لفهمه وفهم الذات نفسها وحينما نصل إلى مرحلة من التطور والتقدم في مجال الفكر والتكنولوجيا حينئذ تتضح السبل ويمكن أن يكون هناك حواراً منتجاً وخلاقاً . أما الآن ونحن في وضعية مابين قوي وضعيف ، مابين شمال وجنوب ، هذه الفوارق التاريخية تمنع التواصل وتمنع من وجود لغة وفهم واحد لنفس القضايا والمشاكل.
إن نفي الآخر ليست مشكلة فكرية جدلية بين المشتغلين بالبحث الإسلامي فقط ، ولكنها مشكلة مثارة في الواقع العربي المعاصر على صعيديه السياسي والاجتماعي . فإننا نخطئ حينما نفصل بين الواقع الفكري وبين المناخ السائد العام في أي منطقة ، بمعنى أن المسألة ليست مسألة سلفيين وتقدميين فعلينا أن ننظر إليها من خلال رؤية للواقع الفكري والاجتماعي والسياسي بشكل عام . هذه نقطة ، والنقطة الثانية ، ينبغي أن نتفق على تعريف لمفهوم السلفية، فهذه الصفة لاأفهم كيف تكون حكراً على طرف دون الآخر، وكذلك أرفض أن تكون التقدمية حكراً لأناس معينين ، فكل مسلم حق هو سلفي بمعنى أن ارتباطه لجذوره لا يقبل الانفصال . وهذا فهم أكثر مرونة للتعاليم وكلنا سلفيون ، وإطلاق هذا الوصف على فئة من الناس هو ظلم للسلفية ولهؤلاء الناس وظلم لمدارس الفكر الإسلامي المحافظة والمتحررة.
إن نصوص القرآن الكريم جاءت مقرّة بالاختلاف ، حيث قال تعالى:- ((ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)) . فنفي الآخر فيه انتهاك لسنة كونية وخروج عن الإطار الذي مارسه سلف الأمة ، وأحسب أن هذه القضية ليست مقصورة على السلفيين ، ولكنها قضية واقع سياسي واجتماعي . وعلى الجانب الإسلامي أقول إن صفحتنا بيضاء وناصعة ، ففيها اعتراف بالآخر واحترام له وكوننا خرجنا عن هذا السياق وتشكلت عقولنا بشكل مختلف فالإسلام بريء مما نفعل . وواقعنا السياسي والاجتماعي هو المتهم الأول . إننا نظلم الإسلام كدين وكحقيقة تاريخية وفكرية عندما نعتمد عليه كأيديولوجية للنضال أمام الظاهرة الغربية.

الإشكالية الثالثة:- التبعية للآخر المختلف
تطرح هذه الإشكالية بشكل جديد على أيدي من يسمون بـ(التراثيين الجدد) أو (السلفيين الجدد) . والذين يدعون إلى قطيعة معرفية (ابستمولوجية) مع الغرب نشداناً للاستقلال الحضاري ، وهؤلاء ينزعون عن علوم ومعارف الغرب صفة الحياد في محتواها المعرفي ويتهمونها بالقصور والمعاداة.
ـ هل هذا الموقف / الإشكالية ، يعتبر امتداداً للخطاب السلفي المعروف ؟
إن قضية التبعية المطروحة في الخطاب العربي المعاصر تدل على تناقضات كثيرة نعيش فيها . وعند طرح هذه القضية على مستوى سوسيولوجي وتاريخي يتوجب علينا أن نتساءل ، من يطرح هذا الكلام (الانفصال المعرفي) في مجتمعاتنا ؟
فالذين ينادون بقطيعة معرفية مع الغرب ليست لهم الثقافة العلمية ليدركوا أن التبعية البنيوية التي نعيش تحت ظلها في هذه المرحلة التاريخية ، وهؤلاء الذين يتوهمون أنه بامكاننا خلق مدنية عربية إسلامية يصدرون في كلامهم عما أسميه الخيال الاجتماعي ، لاعن تحليل واقعي واجتماعي لوضع المجتمعات العصرية . ولايفهم من هذا ، أني أدافع عن تبني الحداثة المادية وإنما أصف مايوجد وأُحيل إلى أشياء اعتدنا عليها وليس لنا خيار في الرجوع عنها إلى الخلف. لاأتصور أن أي عاصمة عربية أو إسلامية قادرة على الانقطاع مع الحضارة الغربية ، إذ لن تقدر على خلق هذه التكنولوجيا المستوردة من الغرب خلقاً جديداً . وهذا التوهم بأنه يمكننا أنجاز حضارة خاصة بنا لايدرك أننا منقطعون عن المصادر الكلاسيكية للفكر العربي الإسلامي.
ـ أين هي الحضارة العربية الإسلامية ؟
إنها في كتب وفي بعض الآثار التي بقيت ، بل أقول أن معظمها مخطوطات في مكتبات أوربية . وهذه المخطوطات لم يُخرجها لنا هؤلاء من يدعون إلى القطيعة مع الغرب حتى على الأقل نقرأها ، لعلنا بعد ذلك نجد فيها شيئاً يساعد على إحياء الحضارة العربية الإسلامية . وأحب أن أسأل كذلك ، هل هناك من العلماء من يعتني بتحقيق المخطوطات القديمة بشكل متواصل ويسعى إلى جمعها في مكان واحد ؟ لاأحد بالتأكيد يقوم بهذا الجهد العلمي ، ولاأقول هذا الكلام جزافاً بل أقوله كباحث في مجال التاريخ والفكر العربي، والذين ينادون بإزالة وضعنا التبعي المعاصر ، ليسوا بفلاسفة ، والفلسفة هنا ضرورية ، وأعني بها الفلسفة التحليلية.
 وأحب أن أشير إلى مسألة معروفة ، وهي أن العلم عالمي لاوطن له ، فلاتوجد معرفة خاصة بالمسلمين أو بالمسيحيين أو معرفة خاصة بالغربيين … وعندما نعتقد غير هذا فنحن نرتكب خطأ تاريخياً فاحشاً.
 ولو أحيينا الفكر العربي الإسلامي في زمنه المنتج ، فماذا سنجد ؟ سنجد ابن رشد وابن سينا والرازي والتوحيدي ، حولوا المنظومة المعرفية العربية الإسلامية من معلومات وفكر اليونان ، بالإضافة إلى المعطيات المعرفية الصادرة من الوحي الإلهي.
ابن رشد مثلاً هو نفسه أكبر شارحي مؤلفات أرسطو . أتمنى أن نرجع لهذا التراث الذي يطالبون بالعودة إليه . فلنرجع ، عسى أن نخرج من التناقضات التي هي في معظمها تناقضات أيديولوجية ، ولو تجاوزنا أيديولوجية النضال لأصبحنا أحراراً فكرياً ، ننظر إلى مشكلة المعرفة برؤية العلماء لابرؤية الأيديولوجيين المناضلين ، نفكر بمشاكلنا على أساس من الواقع حتى ننجو من هذه التخيلات القاتلة الموجودة في رؤوس البعض.
إن الفصل بين التبعية والتواصل والصدام والتداخل بين الثقافات مدخل رئيسي إذا ما أردنا معالجة هذه القضية.
هذا عصر من سماته الأساسية تداخل الفكر وانتقاله بوسائل حديثة ، وهذه الوسائل تلغي الحواجز والحدود حتى وإن كانت هناك حدود فهي تختصر بسرعة، ولذلك فإنه لايمكن لمجتمع متمدن أن يعزل نفسه ويتحصن من تلقي الأفكار . شئنا أم أبينا فنحن داخلون في عملية اتصال مع الفكر العالمي الذي ليس بالضرورة فكراً غربياً . صحيح أن الفكر الغربي هو المهيمن لكن هذا الفكر يضم كذلك مساهمات أصحابها ، والذين هم ليسوا من الغرب أحياناً بل من المهاجرين أو المتجنسين.
 والتبعية في رأيي ، ظاهرة عصرية ، فما دامت هناك قوة إمبريالية تسعى إلى الهيمنة عسكرياً واقتصادياً وثقافياً ، فلابد أن تكون هناك شعوب هي موضوع لهذه الهيمنة ، وفي ميدان الفكر إذا ما أردنا معرفة التبعية بكيفية خاصة فيجب ربطها بمفهوم أصبح دارجاً ومستعملاً بكثرة ، هو مفهوم المركز المحيط الذي يقع في الغرب مثلاً وترتبط توابع بخيوط معينة مع هذا المركز.
 وهذا الربط نجد أصوله في الظاهرة الاستعمارية في البلدان المستعمرة ، فنجدها مازالت مرتبطة نوعاً ما في نظم تعليمها وطريقة تعاملها مع لغتها وثقافتها بالمستعمر . هنا تبدو التبعية وكأنها اختيار غير مباشر لظاهرة الاستعمار كما كانت ، لكن التحرر من هذه التبعية على الصعيد الثقافي فظني أنها تتواصل بنجاح، حتى أولئك الذين يجهلون ثقافتهم الوطنية بحكم الاستعمار أصبحوا يبدعون فيها ، أما أولئك الذين لم يستطيعوا بعد الاندماج في ثقافتهم الوطنية ، فهم فئة قليلة وبالتالي حقلهم المعرفي أراه غير مؤثر . صحيح أن الأمر لايخلو من مثقفين يتعاملون مع الفكر الغربي تعاملاً غير نقدي ويعممون نظريات الغرب ومفاهيمه على أنها مطلقة ولايميزون ما بين ما هو إنساني وعلمي وما هو خاص له علاقة معينة ووضع وتجربة خاصة.
 فالذين يدعون إلى قطيعة معرفية مع الغرب ، إنما يدعون إلى نوع من الاهتمام بالذاتية وبتحصينها ومحاولة الإبداع داخل الذات العربية . هؤلاء في الحقيقة ليسوا بـ(التراثيين الجدد) أو بـ(السلفيين الجدد) ، لأن التراثية/السلفية الجديدة عبارة عن تيار أو اتجاه تبلور من خلال الكفاح الوطني ضد الاستعمار ، ومن شروط كفاح المستعمر النهضة والتحديث ، فكانت تراثية / سلفية تحديثية . لذلك ، لم يثر تبني الأفكار التحديثية أي تشنجات ولم تكن هذه الحركة تؤدي أي وظيفة طائفية ، فاتجهت إلى استلهام الماضي من أجل تأكيد الذات باستعمال أدوات الحداثة ، والمستقبل لخلق مجتمع ووعي معاصر.

[email protected] 

أحدث المقالات