24 ديسمبر، 2024 4:04 م

اعتبر البعض بان تناول فضائح الفساد في الاعلام انما هو محاولة للتشهير والتسقيط السياسي وهو قد يسبق القضاء في تجريم المشتبه بهم او تبرئتهم ، او قد يؤثر عليه للفصل في قضايا الفساد المعروضة في الاعلام بطريقة معينة قد لا تتفق مع القانون او الواقع بسب الضغوط التي يصبها الرأي العام على القضاة . كما انه قد يكون هدفه الابتزاز ، والتربح سواء من الفاسدين او الشرفاء باستعمال الاعلام للضغط عليهم حتى يدفعوا ثم يكفوا عن ملاحقتهم .
وهذا كلام صحيح ، لكنه حق يراد به باطل ، اذ ان استغلال البعض لقضايا الفساد للابتزاز و للاستهداف والتسقيط السياسي امر طبيعي وهو لا ينبغي ان يؤدي الى مصادرة حق الناس في الاطلاع على الحقائق عن طريق الاعلام خصوصا المعلومات المتوفرة عن الفساد لدى حكومة منعدمة الشفافية وتعمل بكل ما اوتيت من قوة للانغلاق عن الناس ومنع المعلومات عنهم ، فكل الوسائل التي وفرها الله في الكون صالحة للاستعمال بطريق الخير كما انها صالحة للاستعمال بطريق الشر ، لكن امكانية استعمالها بطريق الشر لا يكون سببا لمنع استعمالها نهائيا ، فلم يمنع البشر السكين رغم انها استعملت كاداة للقتل ، ولم تمنع البشرية استعمال السيارات رغم انها تؤدي الى قتل الاف البشر ، كما لم  تمنع البشرية صنع البنادق والمسدسات رغم انها ادوات معدة للقتل اصلا وقد تستعملها الحكومات في قتل المعتصمين وتصفية الخصوم السياسيين .
والخلاصة ان استعمال الوسيلة المتاحة بطريقة غير صحيحة لا ينبغي ان يؤدي الى منعها ، ما دام التعامل معها بطريقة صحيحة يحقق نتائج نافعة للمجتمع . وفضح الفساد في الاعلام يعد واحدة من اهم وسائل منع الفساد ومكافحته ، اذ دعت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد – في المادة ( 13 ) منها – الدول الى تشجيع المجتمع الاهلي والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المحلي على المشاركة في منع الفساد ومحاربته واذكاء وعي الناس بوجود الفساد واسبابه وجسامته وما يمثله من خطر ، وتدعيم ذلك من خلال :-
1- تعزيز الشفافية في عمليات اتخاذ القرار،  وتشجيع اسهام الناس فيها .
2- ضمان تيسر حصول الناس فعليا على المعلومات .
3- القيام بانشطة اعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد .
4- احترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها .  واضع هنا خطوط حمراء كبيرة تحت تلقيها ونشرها وتعميمها حسب قول الاتفاقية .
وكل ذلك لا يمكن ان يقوم الا من خلال حرية تعبير كاملة ، وشفافية حكومية حقيقية ، واعلام مستقل حر ، تفتح امامه كل ابوب التماس وتلقي المعلومات عن الفساد ونشرها وتعميمها .
ان للاعلام ادوار بالغة الاهمية في الحرب ضد الفساد منها :-
1- ان الاعلام قوة كاشفة للفساد :- اذ ان اهم واخطر فضائح الفساد في العالم الحر كشفها الاعلام ، وسلط الضوء عليها كفضيحة ووتر كيت الشهيرة . وكان للاعلام العراقي بعد عام 2003 دور كاشف للفساد في قضايا مهمة كبعض قضايا وزارة الدفاع  والداخلية.
2- ان الاعلام قوة ضاغطة ضد الفساد :- ويكون خلال من خلال امرين :- الامر الاول من خلال تركيز الاعلام الضوء على مشكلة الفساد كظاهرة مما يشكل ضغطا على السلطات الثلاث والمعنيين للعمل ضدها ، والامر الثاني يكون من خلال تداول قضايا الفساد امام الجمهور وتكوين رأي عام عنها ، بما يجعل الجميع  – بضمنه القضاء والجهات التحقيقية المختصة – امام مسؤلياتهم ويمنعهم من التساهل او تمييع القضايا ، كما يضطرهم الى ملاحقة كبار المفسدين ومنع التساهل معهم ، او تجنب الاصطدام بهم كما يحصل لدينا الان . ويكفي مثال بارز ما حصل في قضية كشف المتفجرات التي اكتفى القضاء منها بملاحقة الطبقة الادنى من المتورطين ، وترك الطبقة الاعلى تجنبا للاصطدام بهم ، وحينما ضغط الاعلام وكشف الحقائق في القضية ظهرت توجهات ودعوات وتحركات قضائية لملاحقة كبار المتورطين .
3- الاعلام قوة مساندة للجهات المعنية بملاحقة الفساد :- ان الاعلام هو الوسيلة الاقوى للذود عن استقلال الجهات المعنية بمكافحة الفساد بضمنه هيئة النزاهة والقضاء ، لانه يوفر لهم مساندة كبيرة من اجل حمايتهم ومنع الضغط عليهم ، ويشد عضدهم ضد كبار المتنفذين او الاحزاب المتغولة ، اذ لا يخاف هؤلاء من شئ قدر خوفهم من تعريتهم امام الشعب .
4- الاعلام  قوة معززة للردع العام :-  وذلك يكون بطريقين  . الطريق الاول :-  بنشر الملاحقات عن الفساد :- فضبط فاسد او ملاحقته او الحكم عليه لا يحقق الا ردع محدود لمحدودية من يعلمون به ، الا اذا نشره الاعلام على نطاق واسع . والطريقة الثانية :- فضح المفسدين ولو لم يلاحقوا رسميا :-  اذ ان فضح قضايا الفساد يشكل بحد ذاته ردعا مؤثرا ضد الفساد ، اذ سيحسب السراق الف حساب قبل ان يتورطوا اذا ترسخت قناعة في المجتمع بان الاعلام قادر على فضح المفسدين ، ولو كان القضاء او الجهات التحقيقية عاجزة عن ملاحقتهم لاي سبب كعجزها او تخاذلها او خضوعها او تقاعسها عن القيام بواجبها او صعوبة توفير الادلة ضد المطلوبين . اي ان الاعلام يكمل النقص لدى الجهات الرسمية المعنية بملاحقة الفساد ، فيساهم في جعل الفساد مشروع عالي المخاطر ، اذا تمكن من فضح وتعرية عدد من كبار الفاسدين .
5- الاعلام قوة مذكية للوعي ضد الفساد :- بتركيز الضوء على مخاطر الفساد واثاره المدمرة على الدولة والمجتمع والفرد .
6-  الاعلام قوة مربية :- من خلال تكوين القناعات في الدولة والمجتمع لنبذ القيم والسلوكيات الفاسدة ، وترسيخ قيم النزاهة والشفافية والمساءلة بديلا عنها .
ان الاعلام هو الوسيلة الاهم في تمكين الناس من المشاركة في صنع القرار السياسي التي تعد المبدأ الاهم من مبادئ الديمقراطية ، لانه يمثل المصدر الرئيس لمعلومات الشعب ، وان محاولة تقييد حريته بحجة استعمال فضائح الفساد في التشهير والتسقيط والابتزاز هو خروج عن الدستور الذي منع الخروج مطلقا عن مبادئ الديمقراطية ، وشعب بلا اعلام حر وحرية تعبير كاملة هو شعب ذليل مستعبد مقلم الاظافر .