ربما لمرارة الظرف خلقت من ماركس مصارعا على صعيد المادة.. لذلك، نذر نفسه لتحطيم الاستبداد وتأمين الرغيف للمعوزين.
لكن، ماركس المفكر أكبر من أن يظل في دائرة شعبه الضيقة، فيعتبره الشعب المختار الذي له الحق بالحياة، فيستعبد الشعوب ويفتك بالرجال والنساء والأولاد والمواشي أيضا. إن ماركس الذي حرم الرغيف حلم بفردوس ارضي يشترك فيه جميع البشر على يد العمال.
لقد جعل نيتشه من الإنسان مدرجة لبلوغ السوبرمان، وجعل منه ماركس وسيلة للإنسانية العليا.
لقد طلق عصر النهضة وكل ما يمت إليه بصلة، ونظر الى الآلة التي طلعت شمسها في عصره، فرآها في يد العمال الظافرين سلما مباشرا الى الفردوس الأرضي في ظل الجماعة. كان هذا الالتجاء الى الجماعة نتيجة طبيعية لتطليق الميتافيزيقية وللشعور بالعزلة والكآبة والقلق المستمر، إذ يرى المرء نفسه مهددا بجوع طبيعي وروحاني، ويستشعر ذاته جزءا ضئيلا أو ذرة يجب عليها الانضمام الى سواها لتستقوي. فكما أن الطيور الضعيفة تتألف أسرابا ليشتد حيلها، كذلك الإنسان يستوحش ويخاف الوحدة فيلجأ الى الجماعة، فتكون له بديلا.
كانت الضربة الأولى التي وجهها ماركس الى هيجل (نقد فلسفة الحقوق الهيجلية)، وكان يتوقع عند انعكافه على مطالعة (فلسفة الحقوق) أن يرى في ذلك الكتاب حقوق الإنسان في المجتمع، فوجد حقوقا لكنه لم يجد أنسانا. وجد الفكر شائعا في كل شيء أما الإنسان والمجتمع فظلال للفكر.
نقم ماركس نقمته الكبرى من الأفلاطونية القائلة بفكرة مؤداها أن المحسوس ظل للمعقول.
وصل الأمر الى نقد المثالية الألمانية، لم يسكت عنها وهي تدافع عن سيادة السادة وتترك الفقراء يموتون جوعا !.
من حق الإنسان أن يكن مبتدأ وليس خبرا متأخرا لفظا ورتبة. من تراه يقف في وجه الطاغية إذا أراد بالإفراد وبالأسرة شرا، وهو بكم مولده ظل الله في الأرض؟ فمن يتجرأ على نقده أو على مراقبته؟ مسكين الشعب الذي أراده الفلاسفة هزيل لا سيادة له ولا كرامة. أليست ثروات الأغنياء الخاصة هي التي خولت لهم الجلوس في أبراج عاجية وعلى الأرائك في القصور والرئاسات يتحكمون بمصير الشعب، ويسنون القوانين، شرعة القوي يمليها على الضعيف. بئست الملكية العقارية وتبا للأرض التي يتخذها القانون سببا للمفاضلة بين إنسان وأخر، فلا كان هذا التراب ولا هؤلاء الترابيون.
أراد ماركس تحرير الإنسان وإنقاذه من الكثير من الأفكار والفلسفات المحبطة. الخطوة الأولى التي خطاها ماركس جعل الفرد أولا والدولة أخرا.
توج ماركس المادية، فسد الثغرة التي تركها أسلافه، وقال: إن الطبيعة تكفي نفسها بنفسها، وهي موجودة ولو لم يوجد الفكر.
مرة أخرى سد ماركس ثغرة تتعلق بالطبيعة حيث جعلها في الزمان وليس في المكان، ففتح بوجهها آفاقا لا تنتهي، وسع لها مجال التطور، التطور الخلاق الذي يأتيك بالجديد والمفاجآت، تطور لم يحلم بمثله فيلسوف أو مفكر، لأنه ينطوي على الوثبات والصراع المستمر والتحول الكيفي، وهذا هو الديالكتيك المادي بالمعنى الصحيح. الذي كابد من اجله ماركس لتقوية دور الإنسان الذي يتعرّف نفسه بنفسه من خلال عمله ويدرك طبيعة ذلك في الصعيد العملي، صعيد الواقع.
الإنسان الذي تصوّره أرسطو، جرد ما جرد، أصبح أنسانا فقط في الذهن. جاء هيجل فسما درجة على أرسطو ووضع فكرة الإنسان الصحيح فجعله عقلا أول مثاليا صرفا. وجاء ماركس يضعه على صعيد الواقع ويشير الى الإنسان المعين الذي يمشي برجلين ويعيش في المحيط الفلاني، وهو تبعا لذلك فاعل حي حساس يتعرف على ذاته ألماني أو روسي أو عراقي، ويفكر بما يمليه عليه شعوره، فإذا جاع عمد الى الصيد والطعام أو الى زرع الحبوب، وإذا برد اتخذ الكساء. بتعبير آخر يسعى الى حاجاته، فلا يستغنى عن الطبيعة ولا تستغى عنه، مثله مثل الشجرة لا تستغنى عن المطر ولا يستغنى عنه، فهي مسرح الإنسان وملتقى جهوده.
وكما قال ماركس: إن الكائن الذي لا موضوع له خارج نفسه ليس بكائن حقيقي، لأنه لا علاقة له بأحد ولا علاقة لأحد به. ويستمر بالقول: بما أنه توجد اشياء خارجة عني فلست إذن وحدي، وانا بالنسبة لهذا الشيء الآخر واقعة تختلف عنه.