18 ديسمبر، 2024 11:29 م

انتفاضة الجزائر تطويع فن الممكن من الاستحالة إلى التطبيق

انتفاضة الجزائر تطويع فن الممكن من الاستحالة إلى التطبيق

رصيد التعداد يرتفع يوما بعد يوم في مليونيات الجزائر المنتفضة خلال المسيرات الشعبية المتصاعدة منذ 22 شباط/ فبراير 2019 إلى الأول من مارس آذار ، وآخرها أمس مسيرات الثامن مارس/ اذار 2019 تشكل ظاهرة فريدة في عالمنا السياسي والاجتماعي، فيها من الإعجاز الجزائري المقدم للعالم بفخر في واحدة من اهم تجارب الشعوب المناضلة في الألفية الثانية .

وها هو بلد المليون ونصف المليون من الشهداء الذين قدمتهم ثورة الأول من نوفمبر 1954 في خمسينيات القرن الماضي بعد احتلال غاشم طال 132 عاما، قدم الشعب الجزائري خلالها قرابة 8 ملايين من الشهداء، وملايين أخرى من الجماهير المعذبة، هاهو يعيد الكرة مرة أخرى في ثورة سلمية تعدادها ملايين المواطنين، الذين نزلوا إلى الشارع والساحات في كل مدن الجزائر. يشكل الشباب النسبة العليا منهم، حيث تتجاوز 60 بالمائة، وبمتوسط أعمار اقل من 20 سنة موزعين على عموم ولايات القطر الجزائري.

هذه الانتفاضة المباركة، يصفها الكتاب والمراقبون، بأنها أكبر تمرد شعبي في العالم، تمرد من أجل الحقوق، يتم بأسلوب يتسم بالرقي والسلوك الحضاري والانضباط العالي، في التعبير عن المطالب المشروعة لشعب تواق إلى الحرية والسلم وتحقيق التنمية، هتافات تلقائية موزونة ومصاغة بوعي كبير، وبمختلف الألحان والعبارات المركزة والذكية، يهتف بها شارع غضوب جارف، ضد نظامه السياسي، لكنه غضب متحكم به في المشاعر، يوظف ادوات التعبير لملايين البشر من أبناء الجزائر، من مختلف المشارب السياسية والفئات الاجتماعية والأعمار، من كل جهات الوطن الكبير الممتد على مساحة مليوني ونصف كيلو متر مربع، سيول وموجات بشرية تتسم بالأمل والثقة العالية بالنفس والتفاؤل والمحبة ويسودها التضامن الاجتماعي الخلاق، وفي مواعيد وأماكن محددة يجري الإعلان عنها، لتنتشر أخبارها بسرعة البرق عبر وسائط التواصل الاجتماعي، و ينضم إليها آخرون بتلقائية الحضور في المكان والزمان المحدد في العاصمة الجزائرية وكبريات المدن وصولا إلى القرى ومئات النواحي البعيدة في الجزائر العميقة .

هذا الحضور الطاغي والتلقائي والطوعي، يبدو للمراقب انه عفوي وبسيط، بقدر ما هو سهل وممتنع وعميق المعنى والجذور، وقد يبدو للوهلة الأولى، بالنسبة إلى البعض، من أنه تحرك غير منضبط بتنظيم أو بحزب سياسي معارض أو بإمرة وتوجيهات إدارة حكومية، ولكن الحقائق ستفصح لمن يقترب من الحراك الشعبي الجزائري ستفصح عن اكتشاف المزيد مما سيكشف عنه في الايام القريبة القادمة ، حيث تحتج الملايين في جميع شوارع وساحات الوطن سلميا، مقترنا ذلك التظاهر بالحرص على وحدة الشعب الجزائري، والدعوة إلى صون كرامة النظام السياسي القائم في الجزائر نفسه، طالما أنه لازال يعلن عن تمسكه بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات، إلا أن صبر الشعب الجزائري كان نبيلا وواسع الصدر ، وحينما شعر الشعب الجزائري، بحسه الثوري، وفطنته الذكية ودروس تجربته التاريخية، بأن النظام السياسي والدولة الجزائرية باتت مختطفة ومرتهنة بقرار وتسيير أناني من قبل حفنة من الزمر وجماعات استغلال الريع والامتيازات السياسوية، وتقودها مجموعة طفيلية من أصحاب المافيات والعصب الضيقة، ليصبح الشعب الجزائري ممتهنا بكرامته؛ بممارسات أضحت شبه يومية لتثير شعب المليون ونصف المليون شهيد، وتستفزه وهو الذي عانى خلال ثلاث عقود متتالية، و بعد استمرار الضغط النفسي وضيق مجالات الحياة وتدهور القدرة الشرائية لملايين الجزائريين، عبر عشرية دموية سوداء في تسعينيات القرن الماضي، أدخلت البلاد في أتون حرب أهلية وإشاعة كل مظاهر الإرهاب الدموي الاسود، الذي طال عموم البلاد ونفذت القوى الظلامية والحاقدة مذابح راح ضحيتها أكثر من ربع مليون ضحية جزائرية، نتيجتها كان خراب الكثير من الممتلكات وتركت جراحا عميقة في النفوس والوجدان الجزائري، لتحل بعدها فترة سلم اجتماعي، اقترنت بتشريع قانون للمصالحة الوطنية بعد استفتاء وطني لإنهاء سنوات المأساة الوطنية، ثم وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى سدنة الحكم وتمسكه بقيادة البلاد في أربعة عهدات رئاسية متعاقبة، لتنتهي للأسف، بأن اختزلت الدولة والقرار السياسي بفرد حاكم، وعدد من أفراد عائلته ومقربيه، ثم التحقت بهم زمر وشخصيات معينة ، منها تسلقت مناصب الدولة دون استحقاق لهم، فعشعشت في دواليب الحكم والإدارة وسيطرت على مؤسسات المال والتجارة والإعلام لتتسلط بشكل تعسفي ومرفوض شعبيا واجتماعيا على مدى عشرين عاما. تمكنت بعدها تلك الزمر من التحكم بالمال السياسي والسيطرة على الإعلام والصفقات العمومية والمضاربة، فتمكنت بشكل وقح حتى في فرض إرادتها على نتائج صندوق الانتخاب، بوسائل التزوير والرشى وشراء المقاعد البرلمانية والاستيلاء على فرص المقاولات الكبرى والاستفادة الخاصة من ميزانية الدولة لصالحهم ولصالح بطانة الحكم الحالية ولأفراد من عوائلهم وأتباعهم .

وعندما بلغ الغيظ أقصاه في العام 2019 بتمسك عصب الحكم بترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، رغم غيابه الفعلي طوال عهدته الرئاسية الرابعة، وحتى قبلها بسبب تدهور صحته منذ 2013 ؛ مما طفح ودفع بالأوضاع الاجتماعية إلى الاستياء، وحتى إلى الانتقاد العلني والرفض، ترجمتها الاحتجاجات، بوسائل المناشدة والتعبير عن المعارضة لما يجري في البلاد، معارضة كانت بجانبها الصامت كالنار تحت الهشيم ، رغم أنها تبدو من دون إطار محدد لها كمقاومة ومعارضة سياسية.

وفي ظل انغمار أحزاب السلطة، وجزء من المعارضة الشكلية المعتمدة في شكل أحزاب مرخص لها للعمل السياسي، لكنها تراجعت عن تحقيق فرص الإصلاح الاجتماعي والسياسي ووقف التدهور، في ظل استمرار الامتيازات والفساد الإداري والمالي لصالح حفنة من الجماعات التي باتت معروفة لكل الجزائريين ، كما أن فرض وقبول الأمر الواقع ببقاء الرئيس، مهما كانت حالته الصحية، مزودا بصلاحيات دستورية خاصة به ، وهي التي فصلت على مقاس إرادة شخصية ذات منحى دكتاتوري واضح، مع ابقاء شكلانية هلامية لديمقراطية زائفة، باتت معروفة النتائج في كل انتخابات، وتتكرر كل خمس سنوات .

وفي ظل تجاهل مظاهر السخط الشعبي وتصاعده والإحباط المنظم لكل محاولات الاحتجاج بوسائل الترغيب والترهيب، يأس مناضلو الحركات الاجتماعية من إمكانية التحشيد والنزول إلى الشارع ، خوفا من تكرار مظاهر الربيع العربي المؤسفة في بلدان عربية أخرى؛ نالها الخراب والتدخل الأجنبي والحروب الأهلية، وخشية من إفلات زمام الأمور من يد الفاعلين الاجتماعيين من مختلف الطبقات والفئات، خصوصا بإدراكهم إن حركة الشارع الجزائري وتعبئته تكاد تكون من المهمات المستحيلة، ولطالما أن جمهور الانتفاضة الشعبية المرتقبة، التي كانت تتململ تحت سطح الأحداث، سيكون انفجارا شبابيا صعب التحكم به، ولطالما أن وسائل التعبير الخفية والعلنية عنها ظلت تتمظهر في زيادة أشكال النقد والسخرية والسخط على الأوضاع، حملتها مضامين القصائد والأغاني ورسوم الكاريكاتير وأفلام الفيديو والسخرية عبر اليوتيوب وصفحات التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيس بوك، وكلها تستهدف النظام ونقد شخوصه ورموزه وتحاول تعريتهم .

ساهم في هذه الحملة كثيرون، منهم معروفون وبأسمائهم الحقيقية، ومجهولون، حتى بات الفضاء الأزرق ملاذا لملايين الجزائريين للاحتجاج ضد الأوضاع والى ما ذهبت به البلاد من أوضاع البطالة وانعدام فرص العمل، وإشاعة الجرائم، وشيوع تعاطي المخدرات وتهريبها، ومظاهر الرشوة وتفاقم الفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع، يضاف لها حالات مأساة تصاعد ظاهرة الهجرة غير السرية عبر البحر وترك الوطن عبر قوارب الموت هروبا إلى الضفة الأخرى من المتوسط.

لم يكن موعد وترقب انفجار الأوضاع سرا في الجزائر؛ بل تداولته النخب السياسية، وحتى عامة الشعب، في أحاديثها الخاصة والعامة والعلنية، خصوصا مع ملامح انسداد الأفق السياسي لوضع حلول جدية لمشاكل البلاد والتصدي لمهام مثل قضايا التنمية وتطوير الديمقراطية والحد من تسلط قوى الفساد السياسي وتعنت الرئيس وبطانته في إبقاء الأمور وارتهانها بيد مافيات الحكم المتغولة، يوما بعد يوم، حتى باتت تشكل طغمة مالية واليغارشية واضحة ومعروفة، سدت كل منافذ الحلول أمام أجيال من الجزائريين المتعطشين للحرية والعمل وتساوي الفرص في الوظائف ولأخذ دورهم في إصلاح أوضاع وطنهم.

وعندما حانت لحظة النزول إلى الشارع إثر إعلان تمسك الرئيس المريض إعادة الترشيح لولاية خامسة، وهو مقعد تماما ، يتنقل للعلاج إلى خارج البلاد، حتى أيقن الجزائريون، أن لا حل لهم، إلا بالنزول إلى الشارع وبشكل سلمي، ولا بد من استمالة ومحاورة قوى الأمن والشرطة وحتى الجيش، من اجل توفير عقد اجتماعي، ولو غير مكتوب، والوعد بعدم اللجوء إلى العنف والصدام، فنجحت تعبئة الحراك الشعبي في فرض الإرادة الشعبية، من خلال الاحتجاج الواسع الكبير، وبشكل سلمي وتحاشي تجيير الانتفاضة الشعبية لأي طرف سياسي معارض أو لحزب أو شخص .

واتفق أن يكون القاسم المشترك للتظاهر وطنيا، يتجسد في رفع علم الجزائر فقط، كرمز للوحدة الوطنية وتعبيرا عن عمق الارتباط التاريخي بثورة نوفمبر 1954 واحترام إرث الشهداء، وحرص الحراك الشعبي على أن تصاغ الشعارات والهتافات حصريا، في البداية، بالمطالبة لثني الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الترشح لعهدة خامسة، وهي معروفة نتائجها كسابقاتها، نظرا لفساد الإدارة والهيئات المشرفة على الانتخابات، وخبرة التزوير، وعمليات إقصاء وإبعاد المرشحين الآخرين، ماعدا بعض الأرانب والمرتزقة من المترشحين شكليا عرفهم الشعب الجزائري في كل سباق الرئاسي.

وفي ظل تراجع دوري البرلمان، بغرفتيه الممثلتين، في المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة، حيث تسلق عدد من أصحاب المال السياسي وفاسدي دواليب الإدارة ووصولهم إلى عضوية البرلمان، الذي بات شبه معطل؛ ان لم يكن مغيبا بالكامل.

أول أهداف وشعارات الانتفاضة الشعبية اليوم: بعد تنحية الرئيس بإلغاء الترشيح في العهدة الخامسة هو حماية أملاك الدولة، وعدم السماح للانزلاق والصدام والعنف بأي شكل من الأشكال، وتفادي حتى العنف اللفظي أو الجسدي، وتحاشي الصدام والاحتكاك مع الأجهزة الأمنية والتثقيف بانضباط وخروج الفئات الشبابية خاصة، والإعلان الواضح عن مواعيد وأماكن التظاهرات، وحتى شعاراتها، وكذلك تم تحديد مواقع تجمع الجماهير في أغلب ولايات الجزائر، وحرص الحراك الشعبي على عدم الارتباط بأية أجندة لأي شخص أو حزب سياسي معين أو الارتباط بأية حالة قومية أو جهوية، ولهذا لم يشاهد العالم في المسيرات المليونية في تظاهرات الجزائريين الثلاث الأخيرة سوى علم الجزائر، وكذلك امتد الحراك الشعبي إلى كافة الجاليات الجزائرية في الخارج ومئات الألوف من المهاجرين تلاحما مع اخوانهم في الداخل .

ولم يشاهد عنف أو حريق أشعله المتظاهرون الشباب ، وكان واضحا إن ادوات التخريب وعناصره قد حجمت، رغم الخشية من أعمال مرتقبة ، تلجأ إليها القوى السوداء، من داخل عصب الحكم ومن خارجه؛ فعناصر التخريب محتملة التحرك بعد كل مظاهرة ولكن صرامة المتظاهرين أحبطت نوايا المتربصين لتخريب هذا الحراك واستغلال دواليب وأدوات التخريب واستغلالها لوضع وأحوال البلاد التي حاول البعض وضع الشعب الجزائري أمام خيارين لا ثالث بعدهما، أما العنف أو إيقاف الانتفاضة، وقد حاول رئيس الحكومة الحالي احمد اويحيى تمرير تهديده الشهير الذي تحدث به في الجلسة الأخيرة للمجلس الشعبي الوطني من أن البلاد قد تنزلق، كما هو الحال في سوريا وغيرها، فكانت هتافات المواطنين بسخرية عليه نحن هنا في الجزائر ولسنا في سوريا.

كما تجاوزت الهتافات في الشارع في تظاهرات 22 شباط/ فيفري والأول من مارس/ آذار 2019 توجه التوصيف السيئ للأشخاص ورموز الحكومة والوزراء، وحتى الأحزاب المصرة على ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة بما يسمى ” التحالف الرئاسي”،( لكن تظاهرات 8 مارس/ آذار 2019 دقت ناقوس الخطر بنقد ومطالبة محاسبة العديد من الأسماء التي وصفت بالفاسدة وفي مقدمتهم رئيس الوزراء احمد أويحيى)؛ لان المطلب الجماهيري للحراك الشعبي ظل محددا برفض ترشيح الرئيس بوتفليقة إلى عهدة خامسة، وهو الرجل المعوق غير القادر على الوقوف والتحرك وحتى الكلام وحتى المغيب بشكل أو آخر عن الاطلاع عن ما يجري فعلا في البلاد.

اكتفت الحركة الجماهيرية حتى مسيرة يوم الأمس الجمعة 8 مارس/ آذار 2019 بالمطالبة بإنهاء حقبة بوتفليقة، وترك الرئيس يرتاح لمعالجة وضعه الصحي. وما قبلها لم نسمع هتافا ضد الرئيس أو الحكومة أو أحزابها، ولكن إصرار مجموعة وبطانة الرئيس بوتفليقة على ترشيحه وتقديم ملفه إلى المجلس الدستوري وما صاحب ذلك من عدم أهلية الترشيح لملف الرئيس، بسبب وضعه الصحي، وعدم حضوره لتقديم ملفه بنفسه، كما تقتضي تعليمات وبنود الدستور، ذلك ما دفع الملايين من الجزائريين، الذي يقدر عددهم ما بين ( 15- 20) مليون متظاهر، من جمهور تظاهرة الأمس الجمعة 8/3/2019 إلى إطلاق توسيع جملة من المطالب السياسية والاجتماعية، وتصعيد سقف المطالب نحو التغيير الأبعد والاشمل، ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وحتى مطالبة الجيش الوطني الشعبي بالتدخل لحماية الشعب، وحماية هياكل ومؤسسات الدولة الجزائرية والتصدي للتخريب والعنف، وظهرت الجماهير في مسيرتها بالأمس أكثر تنظيما، وفيها عدد من المبادرات ذات الطابع الحضاري المتميز، كانت أكثر انتظاما، ومخطط لها في مساراتها، القاضية بتحاشي المرور أمام بنايات ومقرات الدولة السيادية، واحترامها لنزلاء المستشفيات بخفض الأصوات والهتافات عند المرور بجانبها، وتمكين سيارات الإسعاف والشرطة والخدمات من الانتقال بسهولة رغم كثافة الحشود البشرية في اغلب الشوارع. والدعوة إلى المزيد من التآخي بين أفراد الأمن والجيش والدرك الوطني وتلاحمها مع فئات الشعب الجزائري المسالم في سلوكه المتحضر وطرح مطالبه الواقعية.

كان ولا زال هناك مطلب واحد ( لا للتمديد ولا لعهدة خامسة ) ، ) ولو أعلن الرئيس اليوم انسحابه من الترشيح، لرجع كل مواطن إلى بيته وحمد له ذلك ). حتى مسيرة الأمس في الثامن من آذار/ مارس 2019 ظهرت مبادرات الشارع خلاقة ومبدعة، وظهر الحراك الشعبي، وهو مدرك لكل الأخطار المحيطة بالجزائر، لذا تصاعدت شعارات رفض التدخل الأجنبي، ومطالبة فرنسا خاصة وغيرها بالكف عن التدخل في وطن جزائري بات حرا منذ استقلاله 1962 .

كما أن جملة الشعارات المكتوبة والمنطوقة التي عبرت عنها حناجر المنتفضين تكاد أن تكون متماثلة وموحدة على المستوى الوطني، والفضل يعود إلى استغلال وسائط التواصل الاجتماعي وأساليب تفنن وابتكار الشباب في التعبئة لكل مسيرة، مما زاد من زخمها وتعداد المشاركين بها من كل الفئات العمرية والاجتماعية كما أنها تحاشت الخروج في أوقات صلاة الجمعة لمنع استغلالها لأطراف معينة .

و خلال هذا الأسبوع تقدمت بعض التجمعات والنقابات المهنية من محامين وقضاة وأساتذة الجامعات وعدد كبير من الإعلاميين، حتى وصل الأمر إلى تقديم الاستقالات من عدد من البرلمانيين حتى أن حزب جبهة القوى الاشتراكية[حزب الراحل حسين آيت أحمد] سحب جماعيا كل نوابه من البرلمان بالجملة ، وامتد هذا الحال إلى أعضاء الحزب العتيد الذي حكم البلاد منذ الاستقلال، حزب جبهة التحرير، الذي يعيش الآن أسوء مرحلة حرجة في تاريخه، فهو بات مرتهنا بإرادات انتهازية لبعض الأشخاص، أجهزت على موقفه ومنعته عن الوقوف مع الحراك الشعبي وتبني مطالب الجماهير، وهو الآن في ظل وضع لا يحسد عليه، بلا قيادة، وقاعدته قلقة جدا، وهو بات بلا موقف سياسي رصين لمعالجة ما يجري في البلاد، ولا يسمع عنه سوى تزمير بعض ممن اختطفوه وربطوا مصيره بعهدة الرئيس وبطانة السلطة الفاسدة، ليكون الحزب بوقا فارغا يدعو لترشيح الرئيس الغائب والمطالبة له بعهدة خامسة؛ ذلك ما أثار غضب الشارع وعموم قواعد الحزب نفسه، فحتى المنظمة الوطنية للمجاهدين، وجمعية العلماء المسلمين، أعلنتا مواقفهما بالوقوف مع الحراك الشعبي، وإيقاف الترشيح للرئيس لعهدة خامسة وضرورة الشروع بإصلاح حقيقي. كما تراجعت فرص سياسية واجتماعية لقوى وشخصيات عديدة منتفعة من ريع نظام الرئيس بوتفليقة ؛ وصل الأمر بها انها باتت منبوذة ومعزولة وتحيطها سخرية الشارع، إن جماهير ومسيرات الشارع المنتفض رفضتها ومنعتها من الدخول والظهور في المسيرات.

خلاصة القول : يقدم الشعب الجزائري تجربة رائدة ومتفردة ووحيدة لكل شعوب العالم بتنظيم مثل هذه المسيرات المليونية المنضبطة في درجات عالية في مناحي سلوكها الاجتماعي والسياسي والأخلاقي؛ تتجلى فيها أسمى مظاهر الوحدة الشعبية والإخاء الوطني والتفاعل المسئول، يقدم نشطاؤها وجمهورها كل يوم مبادرات تنظيم الحراك وإدامته بروح حضارية وحرص عال لحماية الجزائر والدولة، وصل الأمر إلى وضع أخلاقيات للتعامل في الشارع في مظاهر مشرفة من التكافل الاجتماعي وتحضير اللافتات والإعلام الوطنية وتصوير ونشر وبث صور التظاهر والاحتجاج الشعبي من كل أرجاء الجزائر، وحتى صور التطوع في تنظيف الشوارع من النفايات بعد كل مظاهرة بشكل طوعي وتلقائي.

كانت تظاهرات الطلبة والأساتذة والمحامين والإعلاميين متميزة، وتشكل نقلة نوعية في تأطير وصياغة مطالب الحراك الشعبي وديمومته وتقديم المثال والنموذج الأفضل المتحضر في قيادة حركة شارع ذاق من مرارة التجاهل وعانى من الفاقة وشيوع مظاهر الفساد، فتقدم في تظاهراته متفائلا بحتمية التغيير رصيده الإيمان، مؤمنا بالمطاولة والاستمرارية، حتى يجلس الحكماء لوضع خارطة طريق حقيقي نحو الإصلاح المحتوم لتحافظ الجزائر على الدولة ومؤسساتها وإعادة الاعتبار لكل الحقوق وصيانة الحريات والديمقراطية والسلم الاجتماعي والتنمية المنشودة .

كان الشعب الجزائري هو السيد وهو المقرر في كل تلك المسيرات والتظاهرات، التحكم كرجل واحد وكعائلة واحدة بكل أجياله، فلا ولاءات مسبقة لأحد، شخصا كان أو جهة أو حزب .

شكرا لشعبنا العظيم في الجزائر، فقد كنت ولا زلت تشكل القدوة الثورية والإنسانية للشعوب العربية والإفريقية وحتى للعالم، حملت السلاح في نوفمبر 1954 وانتصرت في 1962 ، ونلت حرية بعد 132 عام من الاحتلال الفرنسي البغيض، بمقابل مليون ونصف من الشهداء، وانتصرت على قوى الإرهاب في عشرية التسعينيات، وحافظت على الدولة الوطنية وتحملت تعسف عشريتين رئاسيتين، كان يمكن ان تنجز من أمالها وأحلامها وطموحاتها الكثير من تحقيق التنمية والإصلاح.

وها أنت اليوم تقدم ما عجز عنه المهاتما غاندي ونيلسون منديلا ومارتن لوثر كنغ في خوض النضال السلمي والحضاري من اجل المطالب الشعبية المطلوبة مهما كانت الظروف الداخلية والخارجية، فكنت ولا زلت فخرا لنا في كل الأحوال والفترات الصعبة والحلوة والمرة. كان نضالك المسلح ضد العدو الفرنسي المحتل أسطورة من أساطير الشعوب الحرة الأبية والمعتزة بكرامتها الوطنية والقومية والإنسانية. وما تمردك السلمي على ظاهرة اغتصاب الحكم وخطف الدولة وارتهانها من قبل بعض العصب الشاذة ومطلبك النبيل لاسترجاع الحرية والسيادة التي ينتظرها كل الجزائريين الأحرار، بوسائل قانونية وسلمية وحضارية، فقد حكمت على الديمقراطية المزورة بعدم شرعيتها، وحان موقفك القاضي من إيقاف التطرف والغلو ومحاولات خطف دولة الشعب ورصد بؤر الفساد السياسي والمالي ومحاسبتها.

انه من الصعب وصف مشاهد مسيرة الثامن من آذار/ مارس 2019 والاكتفاء بأنها كانت سلمية ومتحضرة، إنها إضافة إنسانية لصورة شعب عريق ومتحضر، ومؤمن بقدرته على التغيير، لقد شاركت فيها الأمهات وهن يحملن أطفالهن الرضع ، كما شاركت العائلات بكاملها و فيها الجدات والأجداد وشاركت كل الأجيال، وحتى الافراد من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ومن الصعب تحديد عدد المشاركين في كل تلك التظاهرات، في كل مسيرة تحس وكأنك وسط هذه الجنائن المملوءة بالورد والحب والفن والإبداع، كانت زهرات الجزائر وفتيانها وشيوخها ونساءها يسارعون في كل خطوة وفي كل هتاف بإضافة رصيد نضالي جديد للعالم، وهم يملون من جديد تجربة ثرية رائعة ومتحضرة .