من نافلة القول التأكيد على أنّ قدر المفكّرين الأحرار الخارجين عن دائرة السلطة، إن السياسيّة أو الدينيّة، أن يجري تبخيس وتهجين أفكارهم الحرّة وتحقير مجهوداتهم العلميّة وشيطنة مواقفهم الثوريّة الجريئة إلى حدّ تقزيمهم وترذيلهم. وذلك بهدف تحريض وتأليب العوامّ والجهلة عليهم، أملا في الزجّ بهم في مستنفع النسيان وبالتّالي في مزبلة التاريخ، من قبل رهط ممّن يستعصي عليهم إدراك مضمون الأفكار المستنيرة التي تتخطّى النمطيّة ولا تساير طاحونة الشيء المعتاد ومقاييس العرف السائد. ذلك أنّها تشكُل عليهم وتفسد عليهم، لذّة الاستغراق في سبات عميق مردّه فكر ولّى زمانه، بل و تشوّش على جمودهم الفكري الذي استمرؤوه وركنوا إليه، أفليس الجلوس على الربوة أسلم كما قال الأقدمون ؟!. ولكن أنّى لهم ذلك إذ» يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَه (…) « على هؤلاء النوابغ النّابهين المتفرّدين ولو بعد حين. تلك كانت حال المفكّر والمصلح الإجتماعي التحديثي التونسي الطاهر الحدّاد (51899-193)، الذي أوفاه عميد الأدب العربي طه حسين حقّه حين قال عنه بإعجاب شديد :» لقد سبق هذا الفتى زمنه بقرنين «، فهو نصير المرأة والأب المؤسّس
الحقيقي دون منازع لحركة تحرير المرأة في تونس، رغم إثارة قضيّة حقوق المرأة، تاريخيّا، من قبل مصلحين سبقوه أمثال الوزير خير الدين باشا في كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) و المؤرّخ أحمد ابن أبي الضياف في (رسالته في المرأة) و كذا الشيخ سالم بو حاجب. وقد عانى الطّاهر الحدّاد الأمرّين في سبيل تقحّمه على هذا المجال الدقيق رغم محاذيره الخطيرة، في حقبة تاريخية وظروف سياسية وفكرية تتّسم بالانكماش ولا تشجّع على الإجتهاد وطرح الأفكار الاصلاحيّة النهضويّة إذ » في الليلة الدهماء يفتقد البدر«. ولكن رغما عن ذلك، فقد بات معلوما اعتبار الطّاهر الحدّاد أحد أهمّ الأعلام العرب الأوائل -إن لم يكن أهمّهم بمعيّة قاسم أمين- لما أصبح يعرف اليوم، بحركات الدفاع عن حقوق المرأة العربيّة المسلمة، وبالنضال من أجل النهوض بوضعها وتحريرها من ربقة الاسترقاق وبراثن الجهل والتّخلف الفكري وكلّ القيود التي كانت ولا تزال تكبّلها على امتداد الوطن العربي. وذلك بالدعوة، في سياق الاستلهام من نظريات الجندر التي ترفض تنظيم المجتمع على أساس ذكوري، إلى المساواة التامة بين الجنسين في جميع مناحي الحياة، في غير ما حيف أو ميز ولا مسخ للهوية العربيّة ولا نسخ للشريعة الاسلاميّة، كما ادّعى مناوئو الحدّاد.
وكانت هذه الأفكار، المستجدّة في حينها(1930)، لأنّها تعدّ من المسكوت عنه، تمثّل قطب رحى ومربط فرس كتابه ذائع الصيت الموسوم ب”امرأتنا في الشريعة والمجتمع” والذي حاول فيه الحدّاد الملائمة بين متطلّبات الشريعة ومقتضيات العصر والتحديث. ما جعل الكتاب يتحوّل بعد ربع قرن ونيف(1956)، زمن بناء أسس دولة تونس العصريّة، إلى مرجع وأسّ الوضع القانوني المتقدّم للمرأة التونسيّة الذي جاءت به مجلّة الأحوال الشخصية وما تلاها من قوانين وتنقيحات ذات صلة، كرّست مزيدا من الحقوق للمرأة التونسيّة، فضلا عن إقرار حقّها في التعليم والشغل والمشاركة في الحياة السياسيّة ومنع تعدّد الزوجات بقوّة القانون وإثارة مسألة المساواة في الميراث وإقرار الطلاق المدني لدى المحاكم، بعد أن كان الطلاق امتيازا حصريّا يملكه الرجل، بما يجعله في حلّ من أيّ تبرير قانونيّ يقدّمه في الغرض. وقد جرى العمل بهذه المجلّة، التي صاغها أستاذ الحدّاد الشيخ عبد العزيز جعيّط، وطبّقت بنودها منذ فجر الاستقلال سنة 1956، أي، 3 سنوات قبل إقرار دستور الجمهوريّة الأولى الذي أنهى عهد البايات سنة 1959 وحمل بورقيبة إلى سدّة الحكم بدلا عنهم، وهو الذي استبعد بشيرة بن مراد رائدة الحركة النسائيّة في تونس عن النشاط في هذا المجال، لمجرّد أنّها دعت سنة 1953إلى المساواة المطلقة في الحقوق السياسيّة بين المرأة والرّجل، يا للمفارقة!!
وخلافا لكتابي قاسم أمين “المرأة الجديدة” و”تحرير المرأة” اللذين لاقيا، قبل وبعد صدورهما، تأييدا من أهمّ رجال، الدّين ( محمّد عبدة) والسياسة (سعد زغلول) والفكر (لطفي السيّد) ، فقد لاقى كتاب الحدّاد حال صدوره، تحاملا واستهجاناً لا من رجال الدّين والمحافظين فحسب، أو من بين رجال الحزب الدستوري التونسي الذي كان يتزعّمه( رغم وجوده بالمشرق) الشيخ عبد العزيز الثعالبي صاحب، كتاب “روح التحرّر في القرآن”!- يا للمفارقة- وكان ينتمي إليه آنذاك بورقيبة و الطّاهر الحدّاد نفسه – وهو من مؤسسي الحزب- بل وكذلك من رهط من أسافل النّاس ممّن كانوا يدّعون في العلم فلسفة فيما هم يهرفون بما لا يعرفون، فضلا عن أنّ ضمائرهم معطوبة وعيونهم معصوبة وهدفهم الحقيقي لا يعدو أن يكون إلّا، التربّص بحريّة الرأي والتعبير في ما يخضع من الدّين لمتغيّرات الحياة وما ليس من ثوابت الإسلام وأصوله. وقد وظّف جميعهم التهمة النمطيّة الجاهزة-بتعبيراتها المختلفة، من زندقة ومروق عن الدين وفسق وإلحاد وكفر و ارتداد وضلال ونحو ذلك – وهي تهم عابرة للزمان والمكان منذ أن اتّهم بها سقراط، وتنضوي جميعها في فلك الاعتداء على دائرة المقدّس. ولعلّ تهمة « مخالفة شرع الله والانحراف عن أوامره» كانت إحدى أبرز التهم التي لاحقت الحدّاد حيّا وميّتا.
ليس هذا فقط، بل أثار الكتاب فور صدوره، حملة هوجاء على صاحبه، في الصحف التونسية والشرقيّة، تحاربه وتتهجّم عليه، وصفت الطاهر الحدّاد بأبشع ما في معجم السباب والشتائم والبذاءات والإساءات والاهانات التي لو وجّهت إلى خنزير وحشي لأقامت جمعيات الرفق بالحيوان الدنيا ولم تقعدها. أمّا جامع الزيتونة فقد اعتبر، بداية، أنّ الكتاب جاء » مشتملاً على مخالفات شرعيّة وأقوال لا يسع المسلم السّكوت عليها «، فيما شنّ الشيخ محمد الصالح بن مراد -الذي سيفرد الحدّاد بكتاب شهير نذكره لا حقا- هجوما شديدا على الحدّاد في مقال ختمه بمقولة، تعدّ رجما بالغيب وضربا في تيه فضلا عن أنّها تخالف أبجديات النقد الموضوعي وباتت اليوم محلّ تندّر:»هذه دفعة على الحساب حتّى أقرأ الكتاب « !. ثمّ وبعد تقييم الكتاب رأى الجامع، وفق ما ذهبت إليه هيئة في الغرض، أنّه موجب “للحجر والتكفير”، كما لو أنّه تخطّى حدود الله أو ردّد مع نيتشه، معاذ الله تعالى وتقدّس، مَقُولةٌ » إنَّ الإِلهَ قَد مَات، ونحنُ الذِينَ قَتلنَاهُ« ( من باب الرفض »لَأخْلاقِ القَطِيع« التي سادت أوروبّا القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ). و كان تبرير ذلك أنّ الكتاب جاء، بأفكار» تناقض التّعاليم القرآنيّة وتتضمّن عدوانًا على مقام النّبيّ الأعظم«. ضرورة أنّ الحدّاد تحدّث، فيما تحدّث عنه، عن تعدّد زوجات النّبي محمّد (ص) فاعتبر كما لو أنّه نزع القداسة عن الدين.
. وكان من مفاعيل ذلك، أنّ الردّ عليه لم يتأخّر، وجاء عبر كتابين لشيخين زيتونيين هما، محمّد الصّالح بن مراد(*) و كتابه الشهير ‘الحِدادُ على امرأة الحدّاد أو ردّ الخطأ والكفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشّريعة والمجتمع”، وعمر بن إبراهيم البرّي المدني، و كتابه الأقلّ شهرة وهو”سيف الحقّ على من لا يرى الحقّ. ولا يخفى على أحد ما لهذين العنوانين من إشارات تكفيريّة صريحة للطاهر الحدّاد بعد التكفير الرسمي من الهيئة العلميّة لجامع الزيتونة الأعظم التي ترأّسها الشيخ محمّد الطّاهر إبن عاشور صاحب كتاب “مقاصد الشريعة” الذي سينشر بعد أكثر من نصف قرن –يا للمفارقة- كتابا ضخما في 30 جزءا بعنوان”تفسير التحرير والتنوير”، ضمّنه نظرته الاجتهادية والتجديديّة، حيث أكّد فيه على المنحى التحريري والتنويري للقرآن الكريم. بما يعني التقارب ضمنيّا مع المنهج الفكري التجديدي، التحريري والتنويري للحدّاد، الذي لم يدع، في المجمل، إلى أكثر من تحرير المرأة وتنويرها. وهو ما يستنتج منه، في تقديري، أنّ من كفّر الحدّاد صراحة، تراجع ضمنيّا وتلميحا عن ذلك.
ورغم أهمّيّة كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، إلاّ أنّه بحكم كثرة الدراسات التي تناولته فقد تخيّرت عدم الخوض في مضمونه بأكثر إفاضة لأنّ ما يهمّنا أن نعرض له بالدرجة الأولى في هذه العجالة، بعد هذا الاستطراد الضروري، إنّما هو كتاب “الجمود والتجديد في قوّتهما”، وهو الكتاب المجهول من العامة وربّما من الخاصة، والذي صدر منذ بضعة أشهر فقط، عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” وقدّمه الأستاذ عبد المجيد الشرفي رئيس”المجمع”. واللّافت أنّ الكتاب قد ظلّ كمخطوط غير منشور حوالي 83 سنة. وقد عثرت عليه ابنة صديق الحدّاد المقرّب، النقابي والحقوقي أحمد الدرعي (أحد رموز التيّار الإصلاحي الزيتوني المتوفّى سنة 1965) بأرشيف والدها المدافع الشرس عن الحدّاد وصاحب كتاب “حياة الطاهر الحدّاد”، و كتاب “دفاعاً عن الحدّاد”.
وجاء في مطلع تقديم الدكتور عبد المجيد الشرفي لكتاب “الجمود والتجديد أنّ » من علامات العبقرية التي لا تخطئ ان يبقى ما ينتجه العبقري صالحا إن لم يكن على الدوام فعلى الأقل مدّة طويلة«، ذلك أنّك قد »تقرأ ما كتبه منذ ما يقرب من قرن كامل فإذا به كأنّه كتب اليوم«. وهو ما ينطبق، قطعا، على النصوص اللآلئ التي تتقدّم على بيئتها و تسبق عصرها، والتي تتخطّى جميعها الزمان والمكان لتظلّ على راهتيّتها ونضارتها كما لو أنّها حبّرت الآن وهنا.
ويرجّح أن يكون كتاب ‘الجمود والتجديد في قوّتهما’ قد كتب بعد الحملة التي تعرّض لها الحدّادّ إثر صدور”إمرأتنا في الشريعة والمجتمع”، لتأكيد لا فقط، إيمانه وقناعته الرّاسخة التي لا تتزعزع بأفكاره التقدّميّة الاصلاحيّة تجاه المرأة، بل وكذلك للردّ، بعنف واستهزاء، على متتقديه الوثوقيين الجامدين ومحاجتهم ببراهين قويّة لا يصمدون أمامها، رغم أنّهم قد تعوّدوا الوقوف حجر عثرة في وجه كلّ فكر تحديثي جديد. كما يرجّح أن يكون الامتناع عن نشره مردّه الخوف من تكرار حملة السخط عليه، وهو الذي كان لا يزال يعاني من آثار الحملة الأولى التي أدّت في نهاية الأمر إلى التعجيل بوفاته في ريعان الشباب ولمّا يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، جرّاء وطأة العزلة والصدمة النفسيّة التي تعرّض لها بعد تجريده من شهائده العلميّة وحرمانه من العمل و الزواج ومن ممارسة أبسط حقوق المواطنة، و بعد التحريض على الاعتداء عليه في الأماكن العامة. ليكون بذلك شهيد الدفاع عن حقوق المرأة وشهيد الحقّ والواجب كما كتب على قبره.
ويبرز الكتاب مدى الهوّة السحيقة التي تفصل، ذوي الفكر الجامد الذي يرتدّ إلى الماضي عن ذوي الفكر التجديدي الذي يستشرف المستقبل، بما يجعل محاولة إيجاد نقطة إلتقاء بين الفريقين، عمليّة مستحيلة الحدوث في ظلّ الطلاق البائن بينهما. وهو ما لا يؤدّي في النهاية إلّا إلى التصادم العنيف، وإلغاء الآخر المختلف ونعته بأبشع النعوت.
. لذلك نجد خصوم الحدّاد لا يتورّعون عن وصفه، مع من يحمل فكره، تارة بالدسّاسين والدجّالين و المناحيس و طورا بالمفسدين والمضلّلين والمارقين المتعمّدين العبث بشرع الله ونحو ذلك من الصفات التحقيريّة.
واعتبارا إلى أنّ السخريّة هى نقيض للتقديس الذي يضفيه الجامدون على أفكارهم نتيجة الأنا المتورّمة لديهم، فقد تخيّر الطاهر الحدّاد اعتماد الأسلوب الساخر الذي يضع منتقديه في حجمهم الحقيقي، ويبيّن للنّاس أنّ أفكار هؤلاء لا تستحقّ غير السخريّة اللّاذعة والاستهزاء.
يستهلّ الحدّاد كتاب “الجمود والتجديد” مستنكرا إباحة تعدّد الزوجات في كلّ أحوال الرجل، حتّى ولو كان طاعنا في السنّ وكانت زوجته الجديدة في عمر حفيداته، بما يؤدّي في نهاية الأمر إلى وضعيات بائسة تسعى إلى نفي كينونة المرأة، حيث لا تختلف فيها عن وضعيّة العبيد، التي وضعها فيها أفلاطون أو وضعيّة من يكون في المرتبة الوسطى بين العبد والرجل الحرّ، التي وضعها فيها أرسطو. لذلك يقول الحدّاد في سخريّة سوداء: » تزوجوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، والرجل وحده هو صاحب الحق في مراقبة نفسه ليوفي بشرط العدل بينهنّ. ومهما كانت النتائج فإنّه لا يمكن أن تبلغ بكم إلى منع تعدّد الزوجات«. ثمّ يضيف مبرزا تعاظم مساحة الحريّة لدى الرجل في علاقته بالمرأة وفي تلبية شهواته منها دون حدود فيقول: » ومتى سئم أحدكم واحدة أو أكثر من نسائه الأربع إستبدلها بمن يستطيب من دون أدنى حرج لأنّ الدين يسر لا عسر. وإذا ضايقكم عدد الأربع من نسائكم فعالجوه بما لا حدّ له ممّا ملكت أيمانكم من الجواري، فالإسلام الحقّ ما وهب لكم الرقّ إلّا ليمتّعكم فيه بأصناف المتاع «. وبالتالي فإنّ منع الغرب للرقّ يحرم المسلم » من أرغد عيش منحه الدين الحنيف للمسلمين « !
ويواصل الحدّاد نقده الحاد لبعض الممارسات الذكوريّة التسلّطيّة في علاقة بالطلاق والتى لم تعد مقبولة اليوم فيقول:»أمّا الطلاق فإنّه ميسور لكم ودائما في انتظار كلمتكم فلا يلزم وجود سبب لذلك ولا الإدلاء به أمام المحاكم «. ويرى الحدّاد أنّ هذا السلوك رغم أنّه قد يعتبر غير سليم و غير لائق إلّا أنّ من يطالب بمنعه بالقانون فإنّه ” يكون بدون شكّ شيطانا رجيما يحاول نسخ الشريعة وتغيير الواقع”. وهو ما يجعل الحقيقة وجوبا ” خادمة الرجل في أحواله مع المرأة “. ويقول في موضع آخر متحدّثا عن التحايل عن المرأة في مسالة الميراث : » لقد قالوا أنّ للمرأة في شرعة الإسلام نصيبا مفروضا في الميراث، وما دروا كيف يمكنكم التخلّص من هذا النصيب المفروض بتحبيس التركة على الذكور« . ويرى الحدّاد أنّ ذلك لا يترتّب عنه حرج للشريعة عند الشيوخ ” ما دامت تقوم برهانا لتقدّم الرجل على المرأة. أفبعد هذا يقال إنّ المرأة يمكن اعتبارها يوما إنسانا يساوي الرجل في الحقوق ” ثمّ يضيف فيقول في تهكّم واضح: »فالمرأة من الرجل وهو علّة وجودها وكما سخر الله ما في الأرض جميعا للإنسان كذلك سخّر المرأة للرجل تعيش له ومن أجل حاجته تحيى، فهو عصارة الكون وسرّ الخليقة «. فيما أنّ المرأة ليست سوى “مخلوقة طائشة”و”ناقصة عقل ودين وميراث”. وهي في نهاية التحليل ليست أكثر من ظلّ للرجل. ولكن متى كان الظلّ في قيمة صاحبه في غير مسرح العبث سليل الفلسفة الوجودية ؟!
ويطرح “الجمود والتجديد” مناقشة عدة مسائل فقهية وإحكاما شرعيّة ملتبسة تستدعي المراجعة لأنّها استنبطت لزمن سابق يختلف عن زماننا.ولعلّنا نكتفي لضيق المجال بالاشارة السريعة لبعضها.
يرى الحدّاد ضرورة التمييز ما بين الدّين والشريعة بما هي غير النصّ ذاته، ووجوب “تطوّر الحكم بتطوّر الحياة”. وهي مقاربة يراها خصومه “زندقة” تؤدّي الى تقويض الاسلام لتحلّ محلّه “المدنيّة الغربيّة الفاجرة” فضلا عن كونها ترمي إلى الإنفلات من” قيود الشريعة المطهّرة” عبر الرأي والتأويل اللذين يؤدّيان تدريجيّا إلى “نسخ الشريعة المقدسة بالرأي، والرأي شؤم ما آتبع”!! ذلك أنّهم يؤمنون بأنّ الدّين الإسلامي كلّى لا يقبل التجزئة ولا فرق عندهم بين الدّين والشريعة، والفصل بينهما إنّما هو فصل بين شيء واحد لا ينفصل. فيما أنّ الحدّاد يرى خلاف ذلك، وهو لا يقبل بتغليب أحكام الشّريعة، لا على المتن الدّيني ولا على الواقع المتغيّر، بما يعني وجوب مسايرة الشريعة لمتغيّرات الحياة أي الواقع المتبدّل، لتكون بذلك وبذلك فقط، صالحة لكلّ زمان ومكان.عبر توظيف مذهب التأويل الذي يجب إن لا يحدّه غير الالتزام بالمقاصد الأولى التي جاءت بها النصوص المؤسّسة من قران وسنّة، مؤكّدا في ذات السياق أنّه” نعم يصحّ أن نجمد في فهمنا للأشياء ، لكن لا يصحّ أن تجمد الأشياء. فهي ومن ضمنها نحن دائما تسير”. وهذا هو ناموس الحياة الذي يجري في عروق كلّ إنسان، لكن المسلم ينكره على شريعته أن تقوده في تطوّره نحو الأمام لا نحو الخلف، ويميل بها “إلى تقديس الحروف وإنكار معناها الجامع” فيكون تطوّره نحو الهاوية كما هو حال المسلمين اليوم. ويرى الحدّاد أنّ حالنا لا يمكن أن يتغيّر إلّا بتخيّر أحد أمور ثلاثة:” إمّا الجمود على ما نحن فيه اليوم من التأخّر،وإمّا قبول التطوّر مع الشريعة، وإمّا قبوله بقطع الصلة معها”
ويواصل الحدّاد طرحه لهذه المقاربات الفكريّة التي تحثّ على سؤال الشكّ، فيثير مسالة الاغراق في تقديس النبيّ (ص)حيث جاء في الكتاب “نقول بأنّ النبي بشر ثمّ ننزّهه عن صفات البشريّة فيما لم ينزل فيه تحريم”. بما يعني في واقع الأمر إثبات إسم البشريّة ونفي معناها. ويرى أنّ هذه المقاربة تفترض نفي المرض عنه كما العطش والنوم وحبّ النّساء وكذلك الموت، ونحو ذلك من الصفات البشريّة التي ترتبط بالانسان. فيما أنّ القرآن الكريم ينصّ صراحة على أنّ الرسول بشر مثلنا حقيقة لا صورة كما يذكر الفقهاء الذين يضيفون أنّه “ملك من أملاك السماء، بل هو فوق ذلك” حيث قال تعالى : “قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ”. وفي استغراب، له مبرّره، من موقف رجال الدّين المعادي، يتوجّه لهم بالسؤال “لماذا لا يكون لكم إلاّ عمل واحد، هو هدم كل فكرة يبديها غيركم لمصلحة الأمّة” ويرى الحدّاد أنّ ذلك يعني فيما يعني أنّ المجدّدين هم الهدّامون بينما الجامدون هم البنّاؤون. فيما أنّ حال الأمّة الاسلاميّة يكذّب هذه الفرضيّة ويثبت عكسها. ويعود ذلك في رأيه إلى غياب ثقافة الحريّة لدى مجتمعنا وإلى عداوتنا لها وكذا بغضنا للفكر و” استعمال الدين آلة لإنزال سخط العامة” على كلّ مختلف في الفكر أو الرأي. كما يتوجّه بالنقد للتعليم الزيتوني الذي لا يحثّ على الفكر النقدي، بما يجعل المدرّسين ليس لهم سوى فضل التبليغ، لذلك” فلا أدب ولا شعر ولا تشريع إلاّ ما كان صدى لعصور سلفت”.
وبحكم توسّع الحدّاد في البحث في هذه المسائل فإنّنا لا يمكن مجاراته، ونكتفي بما أوردنا منها مع لفت النظر إلى أنّها صيغت منذ حوالي قرن إلّا أنّها حافظت على راهنيّتها كما لو أنّها صيغت اليوم، بما يوحي بإمكان تحقّق نبوءة طه حسين من أنّ الطاهر الحدّاد سبق عصره بقرنين. وعموما فإنّ كلّ ما كتبه الحدّاد في مجال النسويّة أو في المجال الإجتماعي إنّما كان منطلقه الأساس الإحساس الشديد بالوجع من تراجع أوضاع وحضارة العرب والمسلمين مقارنة بأوضاع وحضارة الغرب. وفي كلمة، إنّه كان يتألم بآلام الأمّة ويسعى جاهدا لاصلاح أحوالها.