علاقة تشيخوف بمسرح العبث لا زالت لحد الآن غير متبلورة بشكل واضح المعالم في النقد الادبي والمسرحي في داخل روسيا بشكل خاص وخارجها بشكل عام , بل توجد اجتهادات هنا وهناك اطلقها بعض الباحثين والنقاد ليس الا.
لقد برز تشيخوف كما هو معلوم في دنيا المسرح نهاية القرن التاسع عشر ( توفي عام 1904),ووضع بصماته الواضحة في مسيرة المسرح ,هذه البصمات التي أخذت تتبلور وتتفاعل تدريجيا في روسيا اولا ,ثم اصبحت سمات تشيخوفية ذات طابع عالمي, ولا زالت هذه السمات تتجدد في التطبيقات المسرحية المعاصرة سواء في داخل روسيا او خارجها. اما مسرح العبث ( او المسرح المضاد او اللامعقول اواللاوعي او الطليعي او الاحتجاجي او التجريبي او الكوميديا السوداء..الخ التسميات ) فانه ولد بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة ظروف اجتماعية وفكرية محددة في اوربا بالذات , ويرتبط كما هو معروف باسماء يونسكو وبيكيت وآداموف وبنتير وجينيه وآخرين, ولا زالت مسرحياتهم تعرض على مسارح اوربا والعالم عموما بشكل محدود, ولم تصبح تلك المسرحيات جزءا من الوعي الاجتماعي والثقافي لجمهور المسارح مثلما دخلت واستقرت مسرحيات تشيخوف بلا شك. ان تشيخوف يجسٌد الظاهرة الاكثر شمولية وانسانية للمسرح العالمي , اذ اننا نجد عنده كل عناصر المسرح المتألق والمعاصر, ويستطيع كل شخص ان يجد فيه ما يريد ويكتشف في ثنايا مسرحه كل ما يرغب باكتشافه, وفي هذه الخاصية بالذات تكمن عظمة مسرح تشيخوف , وقد قال احد المهتمين بهذا المسرح من اصدقائي العرب مرة – مازحا- ان مسرح تشيخوف ( حماٌل اوجه), وبالتالي يجب عدم السماح للنقاد والباحثين ان يحتكموا به ويتحاججون على اساسه, وقد تذكرت قول صاحبي هذه عندما قرأت رأيا لاحد الباحثين العرب وهو يتكلم عن ارتباط مسرح العبث بتشيخوف مشيرا الى ان مواقف هؤلاء الادباء المسرحيين تنطلق من موقف تشيخوف في طرح المسألة فقط دون ايجاد حلول لها, ولا اظن ان هذا الرأي الفضفاض والعام جدا يستحق المناقشة المستفيضة والمعمقة, وتكلم بعض الباحثين ايضا عن تأثير تشيخوف على مسيرة هذا المسرح لأنه( اي تشيخوف ) كان يؤكد على تفاهة الوجود الانساني عبر مسرحياته , وان هذا هو نفس هدف ( العبثيين), واكرر عدم استحقاق هذا الرأي ايضا للمناقشة, ومن المعروف ان الناقد المسرحي الانكليزي مارتين اسلين , الذي اصدر عام 1962 كتابه الموسوم ( مسرح العبث), وذلك بعد صدور مسرحية يونسكو الشهيرة ( المغنية الصلعاء) ومسرحية بيكيت الاشهر ( في انتظار غودو) ( وهو الباحث الذي ثبٌت هذا المصطلح في النقد الادبي عالميا) ,لم يتناول تشيخوف بتاتا ولم يتحدث عن احتمالية تاثيره على هذا المفهوم الجديد في مسيرة المسرح العالمي, رغم انه حاول ان يجد جذور هذا المسرح وتأثيرات الادباء العالميين فيه, وتوقف عند اسماء كثيرة منها البير كامو وكتابه المعروف ( اسطورة سيزيف) واستعرض مفهوم عبثيته, وجان بول سارتر وافكاره الوجودية, وتناول الدادائية وفلسفتها وتحدث عن (الشعر دون كلمات). ولكن كل هذه الافكار و الامثلة والاراء المتعددة لا تعني ابدا عدم وجود التناغم بين مسرح تشيخوف وهذه الظاهرة المسرحية . لقد أشار يونسكو نفسه – مثلا- الى ذلك , وتكلم عن مسرح تشيخوف ,الذي تناول ( المجتمع الذي يموت) في اشارة الى مسرحية ( بستان الكرز) الشهيرة , رغم اننا نرى ان تشيخوف تحدث في تلك المسرحية عن مجئ (وليس موت) طبقة اجتماعية اخرى بدلا من الطبقة السابقة.وهناك اشارة دقيقة في النقد الادبي الروسي الى موضوع تأثير تشيخوف على مسرح العبث وهي مقالة كتبتهاالاديبة الامريكية جويس كيرول اوتس عام 1966 بعنوان ( تشيخوف ومسرح العبث), وتم نشرها في الاتحاد السوفيتي آنذاك,وقد تناولت اوتس في مقالتها تلك نقاط التماس بين مسرح تشيخوف وتناغمه مع روحية مسرح العبث, وربطت بين حنين الشقيقات الثلاث للسفر (المستحيل) الى موسكو, وبين انتظار (غودو) عند بيكيت.
هناك بالطبع عدة جوانب اخرى يمكن تحديدها بين مسرح تشيخوف واجواء مسرح العبث منها مثلا موضوعة عنصر الصمت عند تشيخوف, الذي كاد ان يجعله ضمن شخوص مسرحياته, وقد استخدمه جماعة مسرح العبث بشكل واسع ويحتاج هذا الموضوع الى الباحث المتخصص لدراسته تفصيلا وتحديد دقائقه وتفصيلاته, وهناك نقطة اخرى ربما يمكن ايجاد القاسم المشترك بينهما ايضا وهي – استخدام تشيخوف لجمل مفاجئة تاتي على لسان ابطال مسرحياته لا ترتبط بتاتا بالموقف القائم , كأن ينظر البطل الى خريطة معلقة على الجدار ويقول ان الطقس حار الان في افريقيا, رغم ان الحديث لا يدور حول ذلك لا من قريب ولا من بعيد, وقد استخدم مسرح العبث هذه الاسلوب ايضا.ولكن هذا لا يعني ( واكرر ذلك) ان مسرح تشيخوف قد ( أرسى مسرح العبث) كما يشير البعض من الباحثين والنقاد.
مسرح العبث هو ظاهرة اوربية انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية في اوربا وهو يرتبط بثقافتها ومسيرة مسرحها , ومن الطبيعي ان يستفاد من تاريخ المسرح فيها ومن اعلام ذلك المسرح, ومنهم انطون بافلوفيتش تشيخوف, ولكن تشيخوف يبقى متفردا وشامخا في تاريخ المسرح الروسي والعالمي , والذي اثبت الزمان مكانته الدائمة فيهما ,, اما اعلام مسرح العبث فان التاريخ لم يقل بعد كلمته بشانهم ,رغم كل نجاحاتهم وشهرتهم في اوساط المثقفين . لقد سألوا الكاتب الفرنسي الكبير ستندال مرة عن رأيه باحد الادباء فقال – لننتظر في الاقل مئة سنة ثم نتحدث عندها .