نشرت كمقالة باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).
النص الإيجابي الأول المتكرر مرتين، يحصر إيجابيته تجاه ثلاث فرق، يمثلون ما ينعتهم القرآن بأهل الكتاب، أي أتباع الديانات الإبراهيمية فقط، دون شمول غيرهم بهذا الموقف المنفتح نسبيا. فنقرأ في سورة البقرة 62:
«إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هادوا وَالنَّصارى وَالصّابِئينَ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالحاً فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ».
ونقرأ نصا مشابها في سورة المائدة 69 ألا هو:
«إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هادوا وَالصّابِؤونَ وَالنَّصارى مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالحاً فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ».
لا أريد أن أناقش الخطأ النحوي والإملائي في كلمة (الصابؤون)، فالخطأ مركب، أولا تكتب الهمزة على الياء، لكون ما قبل الهمزة (الباء) مكسورا، والكسر أقوى من الضم، فالصحيح (الصابئون)، ثم الخطأ النحوي، حيث الصحيح (الصابئين) للعطف على المنصوب بـ«إنَّ».
هنا يتجلى موقف إيجابي تجاه المسيحيين «النصارى»، واليهود «الذين هادوا»، والصابئة «الصابئين»، بدرجة مساواتهم مع المسلمين «الذين آمنوا»، إذا ما حققوا الشروط الثلاثة، الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. وهذه الآية تمثل إنصافا إحدى التألقات الفلسفية للقرآن، فهي تعطي الضمانة لمن استخدم عقليه الفلسفي والأخلاقي، أو لنقل عقله فيما هي (العقلية)، أو (العقل الفلسفي) الحاكم على الصواب والخطأ، وضميره فيما هي الأخلاق أو البعد الإنساني، أو ما يمكن تسميته بـ(العقل الأخلاقي) الحاكم على الجميل والقبيح جمالا وقبحا معنويين. أقول هذا، لأن الوصول إلى الإيمان بالله يمكن أن يكون عبر العقل الفلسفي بدليل (واجب الوجود) المستند إلى مجموعة قوانين عقيلة، كقانون العلية، واستحالة التسلسل في العلل إلى ما لا نهاية، أو الأرجح ما لا بداية. هذا الإيمان الفلسفي الذي يترتب عليه إيمان فلسفي آخر تابع وملازم له، ألا هو الإيمان بالجزاء في ثمة حياة أخرى «اليوم الآخر»، كلازم من لوازم الجزاء، والذي هو بدوره لازم من لوازم العدل الإلهي، والذي هو بدوره لازم من لوازم الكمال الإلهي، والذي هو بدوره لازم من لوازم دليل واجب الوجود. هذا ما يتعلق بالعقل الفلسفي، أما ما يتعلق بالعقل الأخلاقي، فيتجلى هنا بمصطلح (العمل الصالح)، بعبارة «وَعَمِلَ صالِحًا»، فهو من لوازم الضمير أو العقل الأخلاقي، أو الفطرة الإنسانية. هذا كله لا يحتاج إلى دين. ولكن لماذا حصر النصُّ الطمأنةَ بعبارة «لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنون»، وحصر البشارة بعبارة «لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم»، في هذه الفرق الأربع (المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والصابئة)؟ ربما يقال إن ذكرهم لا يجب فهمه على نحو الحصر، بل من قبيل الأمثلة أو المصاديق على أرض الواقع. بل يمكن أن يشمل المفهوم حتى المؤمنين اللادينيين. ولعل ما يؤيد هذا الفهم ما جاء في سورة الأحقاف 13-14: «إِنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقاموا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ، أُولائِكَ أَصحابُ الجنَّةِ خالِدينَ فيها جَزاءً بِما كانوا يَعمَلونَ».
لكن ماذا عن الذي يعمل صالحا وهو غير مؤمن؟ تأتي مناقشته.