لماذا لا يقرأ العراقي؟
ما الذي يمكن ان يعوضه عن ممارسة اعظم سلوك؟
ما المعوقات التي ستقف حائلاً بينه والثقافة؟
وهل الانترنت والفضائيات تغنيه عن القراءة؟
لا شك ان هذه الظاهرة تستحق الوقوف عندها، ودراسة اسبابها واستكشاف طرق علاجها، لا لشيء سوى ان الشكوى ازدادت في الاونة الاخيرة من اغلب كتابنا من ابتعاد العراقي عن القراءة والتثقيف الذاتي واستبداله بمشاهدة الفضائيات …..
ظلت الكتابة هاجس الانسان الاول منذ نزوعه الى نقل افكاره للآخرين على جدران الكهوف بادئ الامر مسجلاً بعض طبائعه في الصيد والفلاحة متنقلاً بعد ذلك الى استخدام الواح الطين، وحين تيسرت له سبل الكتابة القلمية عبر اختراع المطبعة والورق صار له كتابه الذي شكل في الحضارة البشرية هاجساً آخر من هواجس الانسان المتعددة طارحاً من خلاله قوانينه وافكاره ورؤاه.
فالكتاب، هذا العالم الذي يختزنه غلافان من الورق صار رغيف الانسان الذي يشبع العقل والمخيلة، الوعاء الذي تقدم فيه الثقافة ذلك الباب المفتوح على عالم المعرفة، ذلك الجليس الانيس عندما تضيق الدنيا.
الكتاب بكل ما يحتويه من ثروات فكرية، نعم المعلم والرفيق، والمؤنس والصديق، انه الصاحب الذي لا يمل من صحبته، والاخ الناصح الذي لا يطالب بحق عرفان الجميل، والمحسن الكريم الذي لا يفسد احسانه بالمن الذميم. فهو المرشد الامين، الجميل، والمحسن الكريم الذي لا يفسد احسانه بالمن الذميم. فهو المرشد الامين، والعالم الخبير ببواطن الامور، لا يمل اذا مللت، ولا يضجرك اذا سئمت، تطالبه بالكف فيستجيب باسرع من البرق، وتطلبه للحديث فيسرع اليك اقصى من النسيم. ولا يتعالى عن التحدث اليك، ولا تأخذه العزة في مخاطبتك، ولا يموه نفسه عليك فيخفي عنك الاراء الصائبة خوفاً ونفاقاً كما يفعل بعض الاصدقاء من بني الانسان، بل يكون صريحاً في التعامل معك لا يثنيه عن ذلك خوف جفائك ولا يكلفك رفداً ولا عطاء، ولا يحملك اي عبئ، بل يعتبر نفسه في ضيافتك وانت المتفضل بخلاف سائر الناس.
ان القراءة والدرس معناها العيش في صحبة اشرف عظماء العصور الماضية والحديثة، وهل يحلم الانسان الكامل البصير في اكثر من ان يكون رفيقا لخبرة الناس، فيستفيد من سيرهم وتجاربهم وخبرتهم، فيتأتى باعمالهم الجليلة ويستوحي منها مثله العليا، لانه بذلك، تتوسع مداركه ولا يخطئه النجاح في الطريق التي اختارها لنفسه؟
الواقع، انه اذا اردنا ان نتعرف على تقدم اي شعب من شعوب العالم، يجب علينا ان ننظر الى نسبة الكتب والاعمال الفكرية والاكتشافات والاختراعات التي يبدعها.
فبالعلم نصل الى ما نريد من خير وسعادة وأمن وسلام. وعندما ينتشر الكتاب في حياة الشعب يعيش ابناؤه عيشة راقية متقدمة مرضية، واذا انصرفت عنه تقهقر وعاش في بلاء وشقاء.
فللشعوب المتحضرة تقاليد بأن يلجأ افرادها الى الكتب في الملمات بحثاً عن ثقافة ما او معلومة معينة توسع من مدارك تفكيرهم، على العكس منا نحن العراقيون، فان ما تعرضنا له من معاناة جراء سنوات الحصار وحرب الاحتلال الامريكي، حرمنا بشكل مؤسف عن الكتاب الذي ارتبط باسمنا وانطلق من ارضنا لينتشر في محيطنا العربي والاقليمي.
هنالك بعض الصفات السلبية التي يصف بها الاخرون سلوكنا ومن ابرزها اننا شعب غير قارئ ونحن في كثير من المناسبات نقر بوجود هذه النقيصة فينا، ونلوم انفسنا على ذلك، ولكننا لا نعمل الكثير للتخلص من تلك النقيصة، على اعتبار انها مرض استشرى فينا ولا حيلة لنا الا ان نتعايش معها، وفي الوقت ذاته ترى بعضنا يحاول انكار وجود مثل هذه السلبية في سلوكنا بحجة ان الغالبية العظمى من مواطنينا في هذه الايام تؤم المدارس والكليات وانها مسلحة بكل المهارات والقدرات التي تساعدها على القراءة، فأين تقع الحقيقة يا ترى، وان كنا بالفعل شعباً لا يقرأ، فما العوامل/ الاسباب التي تعيقنا عن القراءة؟
في البداية احب ان اوضح للقارئ الكريم، الفرق بين امرين اثنين، اولهما القدرة على القراءة وثانيهما عادة القراءة او المطالعة الذاتية، فبالنسبة للأمر الاول، وهو القدرة على القراءة فيمكن القول بأن غالبية افراد الشعب العراقي يهبون الى المدارس ويتعلمون مهارات القراءة والكتابة فيها، ولكن تعلم مهارات القراءة والكتابة لا يقود بالضرورة الى تكوين عادة المطالعة الذاتية الا اذا لقيت هذه العادة التدريب الكافي عليها من ناحية، واحيط القارئ بالمناخ المشجع عليها من ناحية ثانية، واقصد بالمناخ المشجع في هذا المقام توفر الاتجاهات الايجابية نحو القراءة، وتوفر المادة القرائية التي تناسب مختلف الاذواق والاهواء، وتوفر الحوافز التي تشعر الافراد باهمية القراءة وحاجتهم اليها، وتدفعهم بالتالي الى الاقبال عليها مع توفر المتعة في ذلك.
في ضوء المعايير السابقة، يحق لنا ان نتساءل عما اذا كانت مؤسساتنا الثقافية والتربوية وبيئاتنا المحلية قد نجحت في توفير الشروط الضرورية لتجعل شعبنا قارئاً ام لا؟
ان الملاحظ والمتتبع عن كثب لأمور التدريس الاولي والجامعي يستطيع ان يتبين ان مدارسنا وكلياتنا لم تفلح في اكساب طلبتها المهارات والقدرات الاساسية التي تلزمهم لممارسة القراءة العادية، وان الكثير منهم يشعر ازاء ذلك بأن عملية القراءة عبء ثقيل يسعدهم تفاديه والتخلص منه، فهل يمكن لهؤلاء الافراد ان يصبحوا قارئين ذاتيين في ظل الاتجاهات السلبية التي تتولد لديهم ضد القراءة وآلياتها.
ان القراءة في حد ذاتها مهارة يتعلمها الفرد خلال مراحل تعليمه، وهذه المهارة ليست بيسيرة، فما يقرأه الفرد مجموعة من الرموز تعبر عن مجموعة من المعاني وتندرج هذه المعاني من البساطة الى التعقيد ومن السهولة الى الصعوبة، وعليه، فمهارة القراءة عملية عظيمة تحتاج لقدرة من التركيز والاستيعاب وادارة المفاهيم، وان هذه المفاهيم قد تكون مجردة غير محسوسة، ومن هنا يمكن القول ان احدى الصعوبات التي يواجهها المواطن العراقي، هي ان مهارة القراءة لم تصل لديه الى القدر المناسب الذي يمكنه بموجب الممارسة المستمرة للقراءة وبالتالي الاستمتاع بما يقرأه ومحاورة الافكار التي تتناولها تلك الكتب.
ان سلوك المواطن العراقي في مجتمعنا يتميز بانعدام اهتمامه بالقراءة او اقتنائه للكتاب، وان هذا السلوك واحد من المعايير التي يمكن ان تميز المجتمع المتقدم عن المجتمع المتخلف.
فعلى الرغم من كثرة المعروض من الكتب، فأن الكتاب لم يعد خير جليس، لأن هناك اشياء باتت اهم منه واكثر منفعة تنتزعها من يد المواطن/ القارئ ولا سيما بعد ان ارتفعت اسعار الكتب بشكل فظيع، فعزت مجالسه واصبحت ترفاً.
فالقراءة في العراق اليوم اصبحت شبه ممنوعة، والثقافة هي حق بديهي مبدئياً باتت حلماً عزيزاً يستحيل تحقيقه في ظل الغلاء العام القاتل.
هكذا يظهر بوضوح، ان القراءة اصبحت في العراق مظهراً ارستقراطياً لا يليق الا بمن كانوا بمستواه ونعمة سماوية لا تحل الا على من يستحقها بجيبه قبل عقله.
غير ان ربط عدم الاقبال على شراء الكتاب نوعاً ما، سابقاً بالحصار وراهناً بالاحتلال ومخلفاته.. لا يعطي الوضع الواقع كامل ملامحه. فمن جملة الاسباب التي ادت الى عزوف العراقي عن القراءة:
1- المؤثرات الخارجية المحيطة به وبرامج الاعداد للحياة العامة والثقافة العامة، وتطور الوسائل التقنية بشكل سريع وعدم الوعي التام بتوظيفها الايجابي الذي ينشط العملية العقلية لدى الفرد ومحاولة استثمار الجانب العقلي في مجالات اخرى، كالابداع والابتكار بالتأليف والكتابة وغيرها من الامور.
2- ان استخدام هذه الوسائل بهذه الطرق اوقفت الاندفاع الفطري لدى المواطن العراقي في البحث والاستقصاء للتعلم عن اضافة جديدة للمعلومات، وهذه المعاناة لا يمكن ان تأتي او يمكن استيعابها والاحتفاظ بها لمدة طويلة الا عندما يواجه الفرد موقفاً صعباً ويجتازه، وبالتالي يضيف فكرة جديدة لثقافته، وهذه المعاناة لم يواجهها العراقي بعد توفر وسائل الاتصال الحديثة والمتنوعة.
3- تشعب الاهتمامات في مجال الحياة اليومية، وخاصة في مجال العيش والمنافسات الشديدة في نطاق تنمية الموارد المالية، وهو ما ادى الى اعاقة الفرد بعض الشيء عن تحسين وضعه الثقافي بشكل عام باعتبار الثقافة جزءاً من عملية بناء شخصيته وجزءاً من عناصر قوتها، كما انه في ظل الظروف العامة والنظام الاجتماعي في المجتمع العراقي الآن، ادى الى ابعاد العراقي عن القراءة واقتناء الكتاب.
4- ضعف الاتجاهات الثقافية لدى الاسرة العراقية بشكل عام، فنلاحظ مثلاً ان الطفل العراقي لا يحاط عادة بجو ثقافي داخل الاسرة، فالمعرفة الذاتية وعلاقة الاسرة بالكتاب تكاد معدومة عند معظم الاسر، كما ان الام العراقية لا تقرأ ولا تحاول غرس حب القراءة لدى الطفل، كذلك فان الاب نادراً ما يصطحب طفلة الى مكتبة ويشاركه القراءة لأن القاعدة تقول: فاقد الشيء لا يعطيه.
هذا السؤال في نطاق الاسرة يحاول دون خلق ميل للقراءة لدى الطفل، فالقراءة عبارة عن سلوك مكتسب من الوالدين اساساً.
5- ان المدرسة لا تساعد هي الاخرى كثيراً على تنمية هذه الميول بسبب انعدام وجود المكتبات في جميع مدارس العراق. صحيح ان المكتبة المدرسية هي جزء من الانشطة المدرسية ولكنها لا تشتغل كما ينبغي في خلق دافع القراءة لدى الطلاب، وهكذا نجد انه لا الاسرة ولا المدرسة تحاول تربية الناشئة على القراءة وحب الاطلاع، وهذا ما يسبب ابتعاد الطالب عن المكتبة او التردد عليها الا في وقت الامتحانات والبحث عن مصادر لاداء واجبات مدرسية.
6- ان المجتمعات المادية الاستهلاكية تفتقر عادة الى تبني افرادها لاتجاهات ثقافة معينة الا في صور ضيقة ومحدودة مما يؤدي الى الانصراف التام نحو الوسائل الترفيهية والترويحية.
انه من المعروف ان معظم ما هو متوفر لدينا من كتب ومجلات وصحف… محدود ومادتها غير متنوعة، فهل المتوافر لدينا منها يكفي لخلق عادة القراءة الذاتية عند افرادنا وتطويرها ان وجدت، وحتى المجلات والصحف المحلية، فهل الاقبال على قراءتها ضمن الحدود المقبولة ام انه متدن بشكل ملحوظ، وهل تتنوع موضوعاتها وتحفل بما هو جديد ومثير؟ ام انها حبيسة نمط تسلسلي معين؟ وهل يتوفر بالنسبة للمواطن مؤلفات تصدر عند ظهور الاحداث المفاجئة او الازمات المختلفة او الظواهر غير الاعتيادية بحيث تتناول كل هذه الامور بالتحليل والتوضيح والتعليق، فاذا كانت هذه الامور غير متوفرة، فكيف نطمح ازاء كل ذلك ان يصبح شعبنا قارئاً؟!!
الحقيقة، ان الخوف الناجم عن تراجح الاقبال على القراءة يهدد المستوى الثقافي العام برمته اكثر من هذا، فان المخاطر وصلت الى مستوى حياتي عام وليس الى مستوى ثقافي معين رغم اهميته، فبضاعة المكتبات اصبحت كاسدة لان اقبال الناس على شراء انتاج المطابع قد تراجع بشكل كبير.
الكتاب في بلد الكتاب بات سلعة كاسدة، والثقافة في بلد الثقافة حصدت ثمار الحصار الاقتصادي والثقافي الذي كان مفروضاً لأكثر من عقد، وضغوط الاحتلال ومخلفاته… مما اصابها بالجفاف، فصاحب المكتبة يتحسر من بطالة، والقارئ العراقي يتحسر من عوز، وانت تتحسر على مجتمع يحرم ابناءه من اقتناء كتاب. وحتى تحيا حياة علم ونبعد عنا شبح الجهل عدو التطور وما حق كرامته وعزته والمقوص لامنه وسلامته…
علينا بايجاد السبل الكفيلة لاعادة الاهتمام بالكتاب، وكذلك ايجاد وسائل معرفية اخرى مساندة له.
[email protected]