هناك محتضناً نهريه بجريانهما المتعثر والمنحدر الى لامستقر ،على دكة هادئة ، وقد وخط الشيب ذوائبه ، بوجهه الذي دافته الريح المستمرة وعجنته التربة بوهج الشمس وحبات المطر والدماء ، بملامح تشبه الرب ، يجلس العراق .
عمنا الكبير ، صديقنا ، الذي لاويناه بالأذرع والأيادي يوم كان العيش فيه هادئاً ومسترخياً وهواؤه عذباً مثل جدول رقراق ، لعبنا معه كرة القماش عند عطفة الشارع القريب وقت تقلبات لهب الطفولة ، تحت سماواته المستيقظة ، وروحه المفتونة ، ركبنا معه الخيول قرب مراجيحه وبين ربوع بساتينه وأحببنا بزهو ألتفاتة أبنة الجيران وظفائرها المنسدلة حول الكتفين ، تارة يرتدي بنطلونه ويضع منديلاً منبتاً عند جيب الصدر، وزهرة تشبه اللوز المبلل الذي تخلفه في الحلق أغنية ، يظهر لنا بسمات آلهة غيومها محبة وأميراً بطباع الأمراء وسحرهم الغامض ، وتارة يرتدي عقاله وكوفيته المنقطة أو سدارته ، يدخل معنا مطمئناً لكي لاتزيغ قلوبنا قاعة الأمتحان الرطبة وينتظرنا بأبتسامة مودة ، مصغياً لضحكاتنا . يصحبنا في جولاته عبر شوارعه الهادئة الخضراء تحت ظلال السعف المغبر وأكاليل الصفصاف بين عرائش العنب وهي تتدلى فوق الحيطان وبين أوراق الليمون والأبواب المفتوحة وحدائق الصيف ، بين جباله العالية وبحيراته .
أمتلأت أخيلتنا في حضرته بهواجس الدنيا الجديدة المستنشقة ، في أمتع لحظات جمالها ، كأنما تفوح منه روائح ملونة من جنة بعيدة ، وحضنه دوماً يفيض بالثمار في مواقيت صلاتها ، التفاح الأبيض والرمان المشقوق وحبات الأنكدنيا والتكي والنبق والرارنج ، خلال جيل من سنواته العاصفة المتلاطمة ونيرانه المستوحدة في أعالي الجبال وأرضه المليئة بالرجال الميتين ، لم نره راكعاً أمام أحد وغزاته رأيناهم مطرودين بقرون منكسرة ، رفعنا راياتنا لسلامة أرضه وجرفيه ونقاء سمائه ، وغادرنا حبه مكرهين ، متضورين ، لأنه كان جائعاً ، معاناته مثل معاناتنا ، ولبس مثلنا يوماً الأسمال والمستعمل والمعاد ، وكدنا نأكل على أديمه أكوام زبالتنا فمنعنا على بساط قامته حتى من هواء الدنيا النقي وقد لوثت هواءه وجنباته وجروحه وأسراره القدسية جحافل برابرة قدموا في غفلة من زمن ، وصاروا يقدمون في كل مرة بصورة أوبغيرها كغيوم مشؤومة ويتناسخون بأشكال ثانية في أزمان أخرى ولبوس وروائح جديدة ، أستبدل الناس يوماً حبه بالمسلح الذي بسط قبضته وكانت الهتافات القلبية والأرواح الفادية تتحول أمام نواظرنا ورغم أرادتنا شيئاً فشيئاً لعيون القوي المسيطر فضاقت في وجهتنا الطرق وتباعدت بيننا الدروب ، وحين أبتعدنا عنه كعصافير تبحث عن نسمات لاجئة ، بكى علينا وبكينا عليه . حينما تركناه كان كل نهير من أنهاره أينما أتجه يذرف الدموع ، هل تمنى لنا حظاً سعيداً ؟ كنا نشعر أن نجاته بنجاتنا وكانت تعيدنا دموعنا اليه صبح مساء فلم نستطع أستبداله بمنفى ، ولا لغته بلغة أخرى ،أحياناً ينسى وأحياناً يكذب و يتذكر لكنه دوماً معنا في حلاوة ماذقناه من حياتنا ومرارة علقمها أيام الفراق ، في صلواتنا وسهونا وخطيئاتنا ، يعرفنا مثلما يعرف الله مخلوقاته بخيرها وشرها وعنادها وأبتهالها ومنه تعلمنا التناسي والصفح والغفران ، فكر الرب مرة أن كان لايمنع الموت فليوهب الحياة ، فكنا نراه في المحطات والموانئ البعيدة وعلى السواحل والجبال المضببة بالغيوم وفوق العشب مثل تعويذة سحرية تلاحقك أينما حللت ، وبعض الأحيان مثل طوق حديدي يمسك الخاصرة ، ، كان يمد يده ليصافحنا في المطارات ويمر معنا كل يوم في غربتنا عبر المفاوز ومفارق الطرق وليالي التوهان وأبتساماتنا الحزينة ، فنستمد القوة لمقارعة النهار قبل أمتزاجه بعتمة ليل المنفى المطبقة وأجنحتنا تصطفق ، وتأسرنا الشفاه التي نطقت بأسمه كأنه يعيش بين ضلوعنا ، ومتعة حبه لاتضاهيها الا لذة الحك في جلدة مجْرَبٍ ، فأننا معه دائماً نتذكر الحياة ، وذكرياته جعلت كل شيء ثقيلٍ محتملاً ، رغم أنه صار ينأى بعيداً ومهما أتيت اليه فلن تصله أبداً . لم ولم يكن يوماً جلاداً لأبنائه ، فكيف أكتسحت مقابره نصف تربته ؟ وحينما ينسى العراق من أحبوه لايجدون غير الصمت والأنتظار والسكوت لكنهم لم ينسوا أسمه يوماً واحداً أينما كانوا وأينما وجدوا ، تعلمنا على أرضه الكتابة ونقشنا أسماءنا على حيطانه بفحم المدافيء وألوان الطباشير والمحبة ، وعرفنا المعاني في رسائل العشق ، وأجتزنا طريق الحكايات ، كتبنا له أو عليه ،فلم يسجل ماخطت أقلامنا أوحتى شيئاً مما كتبناه في سجل تأريخه الحافل الضخم ، وعندما سنأتي لنعرف أسماءنا في كتاب يمينه سوف نجدهم قد أمحوا وشطبوا كل الصفحات من دفاتر نفوسنا كأنها كتبت فوق بادية أو تلاشت في يوم رذاذ ، ولم يتدارك هو ليلحقنا بعربات قطاراته العارية التي غزتها جحافل أخرى كل همها وغاياتها أن تسرق القافلة وتنزل في المحطة القادمة ، ولما تنتهي اللعبة ويحصل كل واحد على غنيمته سنجده مرة أخرى هناك بعد الخراب ، مبحراً فوق الزمن ، وحيداً وخالداً ، جالسا أو مفترشاً السحاب يندب أبناءه، أرامله ويتاماه حيناً ويفكر حيناً أو يتنهد ،تصطف على جانبيه ملائكة وطيور ، محاطاً بالعناقيد الخضر والأرغفة البيضاء ، على ضفتي أحد نهريه اللذين نزفا سيولآً قانية ، محدقاً في السهول المتسعة أمامه بلاحدود وفسحة الوديان ، وقد أدار وجهه ناحية الغروب ، برصانة شيخ وجنان طفل ، بشعره الأبيض المتوهج تحت الضياء ، بعد أن عصفت براياته الرياح ، وأناخت بحمل كتفيه الأيام ، شاحباً وأعزل الا من الذين أحبوه وأخلصوا لوفائه وعاهدوا أنفسهم بصدق أن لايتخلوا عن أرضه الأقدم والأجمل ، ضامئين الى شمسه المحترقة وأشجاره الراقصة التي لاتموت ، قمره الأزرق وسمائه المليئة بالنجوم ، يأتون الى جواره أملاً في نعيم بركته ، سعداء أن يكونوا برفقته ، مهما فعلت وأبعدت بينه وبينهم الأيام . اليوم وغداً والى الأبد .