بلا شك ان الحياة العامة للناس ملك يكفله القوانين والشرائع ، وهي مسالة تنظر اليها الدول المتقدمة بمزيد من الاعتبارات الانسانية والاجتماعية والثقافية التي تحد من سبل تغيرها وفق الاجتهادات الشخصية والسياسية ، ولهذا نجد ان دوائر القرار في هذه الدول لا تشرع قانونا الا على ضوء مصالحشعوبها الثابتة في كل ميادين حياتها العامة والخاصة ، وعلى ضوء هذه المبادئ العامة تتشكل قوى المعارضة داخل المجالس النيابية في العديد من الدول السائرة نحو الديمقراطية ، لتكون قوة مضادة تعترض لكل محاولة تضر بمصلحة الشعب والوطن ، وهذا يعني ان قوى المعارضة في هذه الدول تعارض عمليات الهدم والتخريب ، وتقف بصلابة بوجه الفساد وتفضحه امام جماهيرها دون الخشية من الاسماء والعناوين مهما كانت قوة نفوذها داخل السلطة السياسية ، لضمان المسار السياسي والاداري الصحيح للدولة ، وحمايتها من الانحراف والانزلاق عن طريقها العام ، ولكنها لا تعارض قانونا او قرارا ، يشكل داعما لاستقرار مواطنيها ، وحاميا لمكتسباتها القومية والوطنية ، وان لم تصب في مصلحتها السياسية ، ولهذا نجد ان مخاوف السلطات السياسية من قوى المعارضة ليست مخاوفا بالمعنى التقليدي العام بل هو الحياء والخجل بعينه من ان يتحول السياسي ذو شأن في السلطة الى لقمة سائغة تتقاذفها الافواه بالتناوب ، وهذا بحد ذاته هو عين العقل لكي يحافظ السياسي على توازنه الاخلاقي القائم ، ويتجنب (رماة الحجر) بعقلية ناضجة ، لا تبحث عن عوامل الارتقاء بالشخصية السياسية ألا عن طريق الاستحقاق المشروع ، والمواقف الشجاعة التي تغلق بها باب المزايدات على المصلحة الوطنية….
الحياة السياسية العامة في اقليم كوردستان تحيط بها الحذر والخوف جراء تفاقم العلاقات مع حركة قوى المعارضة داخل برلمان . بسبب ما تروج لها اعلام تلك القوى من اتهاماتحول التوافقالسياسي بشان مسودة الدستور التي سببت جدلا واسعا حول كيفية اعادتها للبرلمان وصياغتها على اسس المصلحة القومية والوطنية ، لقد طرحت كل الاحزاب السياسية في كوردستان خلاصة افكارها واراءها بهذا الشأن بحرية تامة ومطلقة ، وتوصلت بعض الاطراف الى ضرورة تبني حل ومعالجة سريعة للازمة بهدف الخروج من عنق الزجاجة ، فيما بقيت اطراف المعارضة داخل البرلمان على تمسكها بطروحاتها المتشددة ، واعتبرت ان اية اتفاقية بمعزل عنها باطلة ، بل وذهبت الى ابعد منها لتشن اعلامها هجوما عنيفا على الحزبين الكبيرين اللذان يتمتعان بالأغلبية داخل الحكومة والبرلمان معلنة بذلك بداية حرب سياسية معلنة في كوردستان ، متهمة اياهما بعدم مراعاة الاسس القانونية حول تمديد ولاية السيد مسعود البارزاني لولاية ثالثة ، بل وعدم الاهتمام بآراء القوى السياسية الاخرى بشان هذه المسالة …
ربما نتفق بعض الشيء مع المعارضة من الناحية القانونية ، ولكن نختلف بلا شك في الاسلوب الذي تنتهجها المعارضة ، ومحاولاتها لتعميق حدة الخلافات باتجاه ما تضر بمصلحة الاقليم والتجربة الناهضة التي قطع الاقليم من خلالها اشواطا مهمة في النواحي الاقتصادية والعمرانية خصوصا بشان التنمية البشرية ، فضلا من خلو اتهاماتها من دليل او برهان على عدم قدرة رئيس الاقليم على ادارة كوردستان أو كشف اسباب ممانعتها من تجديد ولايته بعقلية تقنع بها الشارع الكوردستاني ، وتراعي مصلحة التجربة في الاقليم باعتبارها فوق كل اعتبار ، وهذا يعني ان اي تنازل سياسي من طرف للطرف الاخر في هذا الوقت تحديدا هو انتصار بعينه لكوردستان ، وكسب سياسي آخر للتجربة النهضوية التي شقت طريقها بصعوبة بالغة ، كان فيها للرئيس بارزاني دورا مهما من خلال شخصيته القيادية أو من خلال عمق صلاته الدولية والاقليمية التي ساهمت في ان تكون كوردستان واحدة من بين أهم مراكز الاستقطاب المهمة في المنطقة ، ولهذا فان الضغوطات السياسية والاعلامية التي تمارسها قوى المعارضة داخل البرلمان الكوردستاني وخارجه للوقوف بوجه اصوات الاغلبية البرلمانية بخصوص فترة تمديد ولاية السيد مسعود البارزاني قد فشلت تماما نتيجة ادراك الجمع الكوردستاني للمصلحة القومية والوطنية ، التي تتطلب اولا و أخيرا الجراءة في اتخاذ القرار الصائب دون المرور بالشكليات الناجمة عن التمسك بالرأي وعدم القبول بالراي الاخر الذي ربما لا يصب في مصلحة طرف سياسي معين ، ولكنه يصب في مصلحة الاقليم بشكل عام …..
لذا فانه من الطبيعي ان يبارك كل كوردي بغض النظر عن انتمائه السياسي والحزبي بحالة التوافق السياسي التي تم التوصل اليها داخل البرلمان بشأن هذه المسالة ، وشخص مسعود البارزاني كرئيس منتخب لإقليم كوردستان بإرادة الشعب وجموع القوى والاحزاب الكوردستانية ، ليس بطارىء على التجربة النهضوية ، بل هو كان ولا يزال جزء مكمل لها باستحقاقه النضالي والثوري بغض النظر عن كل الجوانب الخلافية السياسية التي تبعد تارة ، وتقرب تارة أخرى من أجل المصلحة الوطنية والقومية …..
وبهذا الخصوص نجد ان الشرعية واللاشرعية تسقط امام ارادة الشعوب اذا ما تتطلبت الظروف السياسية والاجتماعية بذلك ، عزل مرسي عن سدة الحكم في مصر بانقلاب عسكري مرفوض من الناحية القانونية ، ولكن من الناحية العملية وجدناه من أهم الضرورات التي كانت لابد لها ان تحصل لكي تبقى لمصر كرامتها الوطنية ووجهها الحضاري المشرق بفنها وثقافتها وعلومها الانسانية والاجتماعية ، وبسبب ذلك فقد تجاوز الجيش حدود الدستور بعد ان تيقن تماما ان البلاد تسير نحو مستقبل مظلم ، مؤمنا ان كتابة الدستور من جديد بشكل يتناسب مع مصلحة مصر لا تكلف الا بعضا من الاقلام ، ولكن حين تضيع البلاد في فوضى الدين والسياسة المزدوجة ، فان الكلفة بلا شك سيكون باهظا….
ومن هنا اعتقد ان العقلية السياسية التي ادارت الازمة في كوردستان كانت واعية تماما للمصلحة الوطنية الكوردية ، وعلى ضوئها استسلم الجميع للواقع في ظل الصراعات السياسية والدينية المذهبية التي تحولت بمرور الوقت تهديدا مباشرا للمنطقة باسرها ، والاقليم ليس بمعزل عن تداعياتها المستقبلية ، وانه آن الآوان للمعارضة الكوردستانية التي تنقسم على ذاتها من اسلاميين وعلمانيين ان تدركوا هذه الحقيقة ، و على وجه الخصوص حركة التغيير التي يتزعمها الاخ نوشيروان مصطفى التي تتخذ من العلمانية كأسس عصرية لبناء الحياة في كوردستان ، لكي لا يقع في المكائد وما أكثرها في السيول الاسلامية الزاحفة التي تجرف ما يقع في طريقها الا ما ندر..!! وهذه ليست بوصايا على زعيم هذه الحركة بقدر ما هي انتباهة لدى صاحبها من باب الحرص على صفحته النضالية التي يشهد لها الجميع ، وتذكير بان هذه الصفحة اصبحت تأريخا كورديا ناصعا من الصعوبة اغفالها او نسيانها بمجرد خلاف سياسي ممكن تفاديه بلحظة تأمل صادقة لواقع كوردستان الحالي ، ومقارنته مع سنوات العشرين الماضية ، وكيف تحولت كوردستان برمتها من قرية صغيرة منسية في خارطة اعدائها التقليدين الى شبه دولة تضيف لها ادارتها يوما بعد يوم معالم نهضة عصرية وحضارية وعمرانية جديدة تشمل كل الميادين ، بما في ذلك الاسكان الصحي الصحيح للعديد من العوائل الفقيرة وذوات الدخل المحدود في دور تكلفت ادارة الاقليم بمنحها مجانا لهم ..
هكذا اذن هو الواقع القائم في كوردستان ، وهي بأمس الحاجة الى خطوات فكرية جادة تنمي من قدرتها على مواصلة مشوارها السياسي والثقافي والاجتماعي ، لتبقى تجربتها الناهضة تنهض بعطاء ابناءها نحو مستقبل مشرق ومزدهر ….