هل قدر لنا أن نمكث طويلا في دائرة الدم؟. في مركز تلك الدائرة تصنع “قدسية” مصطنعة لمدينة تغمض عينيها عن دم ناشط وكاتب يستصرخ رصيف غضب شعبي لم يعد يحفل بسذاجة التاريخ أو أوهام الجغرافية. لم تعد علب المقدس قادرة على إحتواء الفضيحة أو تجميل الخديعة.
ليس ثمة قدسية للمعارك التي تلتهم أرواح أبنائنا. قميص داعش لما يزل معلقا على مشجب الآيديولوجيات الهرمة، فيما أنين الأرامل والثكالى يتناسل أمام الجميع دون أن يتحرك الضمير السياسي خارج منطقة التبلد التي أزاحت الهوية الوطنية الى ذيل الهويات التي أصبحت الفاعل الوحيد، وهي برمتها هويات فرعية لم تكن فاعلة خارج تأكيد القومية أو الطائفة إلا بحدود ضيقة.
ثمة التماعات لرؤوس حراب الحرب تومض من هنا أو من هناك. البعد المعلن هو تعقيم السيادة مما لحق بها من أدران وجود القوات الامريكية في العراق. دهشة تشي بتراخي ذاكرة السياسي العراقي فيما يتعلق بهذا الوجود الذي يمتلك جذورا تمتد لأبعد من نيسان عام 2003، موعد الاطاحة بنظام صدام حسين وتدمير أسس الدولة العراقية على أمل إعادة بنائها وفقا لمقاسات الأهداف الامريكية في المنطقة، وهذا ما حصل بالفعل.
ليس صدفة ان يقف البعض بالضد من وجود القوات الامريكية في العراق ويطالب البرلمان بالتصويت على وقف العمل، أو الانسحاب من إتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين بغداد وواشنطن. هتافات الوقوف الى جانب إيران التي يطلقها هذا البعض لم تعد همسا، بل أصبحت جهرا. وليس صدفة أيضا ان يقف البعض الآخر مع وجود القوات الامريكية في العراق، بل والتهليل لها كنتيجة طبيعية للشعور باليأس والاحباط من فساد وفشل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003.
يبدو المشهد أقرب الى التقافز بين طهران و واشنطن. هناك أدمغة في كلا العاصمتين تخطط بدقة وتدير الأزمة وتتسلل الى العراق من خلال الشقوق التي خلفها تنظيم داعش في الجغرافية العراقية، بل وفي الروح العراقية. واشنطن تحرك الهوامش الأمنية نحو متن عودة داعش الى العراق بتكتيكات جديدة. طهران أيضا تعزف على هذا الوتر عبر تنشيط الفصائل المرتبطة بها على مستوى التسليح والتجهيز تمهيدا لأية عودة للتنظيم الارهابي الى الأراضي العراقية، في النهاية يبدو الأمر، مصادفة أو بالاتفاق، كتخادم سياسي وعسكري بين واشنطن وطهران.
مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي يبشرنا بالفوضى حيث يقول، “تعلمنا أن الفوضى غالباً ما تتبع انسحاب أميركا”، انها حتما ليست فوضى خلاقة. زمن كونداليزا رايس انتهى، وقتل الشعوب الوحشي بدل سياسة القتل بقفازات حريرية، منذ أن وطأت اقدام رونالد ترامب عتبة البيت الابيض. وزير الدفاع واسناد القوات المسلحة الايرانية العميد امير حاتمي يصادر “النصر” ويختزل القرار بالموقف الايراني ويقول،” ليس صحيحا قولهم بانهم هزموا “داعش” ولهذا السبب يغادرون المنطقة، بل ان مغادرتهم تأتي بسبب الهزيمة الكاملة التي تلقوها”.
لا يبدو القرار العراقي متسقا مع حجم هذه التهديدات. بل ان صناع القرار هم أكثر المتقافزين بين العاصمتين، دون الالتفات الى ان السيادة تبقى منقوصة دون ان تكتسب شرعيتها من الشعب، مصدر السلطات وفقا للدستور، كذلك شرعية المنجز. إرتهان السلطة الى الضاغط الدولي أو الاقليمي جعل الموقف المغاير، أمريكي أو ايراني، من المسلمات دون الالتفات الى الرواسب في الحالين، النبرة الكولنيالية ذو الرافعة الاقتصادية، النفط والسلاح، في الاولى، والاحتكاك الحضاري الممتد عشرات العقود في التاريخ بجذوة جغرافية تفوق الألف والمائتي كيلو متر حدودا مشتركة في الثاني.
دائرة الدم باقية وتتسع. والألم العراقي أصبح بسعة الحلم. الفواعل الخارجية تعيد إنتاج فاجعة 2014، فيما الفواعل العراقية تواصل لعبة الانتظار ومحاولات التغطية على ما يطفو من الفضيحة.