بعد عام كامل على رحيله نحاول أستذكاره من خلال فكره ومنجزه العلمي والبحثي والمعرفي، انه الدكتور فالح عبد الجبار (1946 ـ 2018) الذي يعد أحد الأسماء والاقلام الفكرية والثقافية العراقية الصادحة في عالم الثقافة والفكر وعلم الاجتماع والترجمة، فقد ترك لنا منجزاً فكرياً وثقافياً كبيراً، وكانت دراساته وكتاباته ومقالاته متناثرة هنا وهناك، بين كتاب ومقالة ومحاضرة وترجمة، أنه انسان فاعل بمعنى الكلمة، وانسان مناضل بالفكر والكلمة، غادر العراق عام 1978م بسبب عدم قناعته بفكر حزب البعث وطروحاته الفكرية والسياسية، الذي لاحق وحاكم وسجن كل من لا ينتمي له، وبما أن عبد الجبار ينتمي للحزب الشيوعي العراقي، فهو معرّض للمطاردة ايضاً، وخشية من هذا المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي المشحون غادر عبد الجبار العراق بحثاً عن عوالم حرة ومجتمع يحترم الانسان، فكان بحق يبحث عن عالم شبيه بالعالم المثالي الذي قرأه في أفكار الفلسفة الماركسية، ومن شد ما كان منسجماً مع أفكاره ومخلصاً لها آثر الهجرة والسفر على البقاء مكبوتاً أو مسجوناً في بلده.
كانت لندن، المحطة الأولى التي حط فيها عبد الجبار رحاله، حيث عمل أستاذا وباحثا في علم الاجتماع في جامعة لندن، مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك والتي كان قد حصل منها على شهادة الدكتوراه. وقد عمل سابقا محاضرا في جامعة ميتروبوليتان – لندن، متخصصاً بدراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الاوسط، بينما كانت بيروت المحطة الثانية التي أقام بها وأستقر عبد الجبار، وأنشأ فيها معهد الدراسات العراقية وأصبح مديراً له، وقد كتب وألف وترجم الكثير من الدراسات والمؤلفات العربية والأنكليزية، وأغلب مؤلفاته تناقش قضايا في علم الاجتماع السياسي والديني والمدني وقضايا الحركات الاحتجاجية، ومن ثماره المبكرة في هذا المجال أطروحته للدكتوراه التي عنوانها عنوان (The Shiite Movement in Iraq)، الحركات الشيعية في العراق، التي جرت تحت اشراف الدكتور وعالم الاجتماع العراقي سامي زبيدة. ويقول عبد الجبار عن الكتاب انه وضع : (في لندن بين أعوام 1991ـ1998وقدم للنشر بعد هذا التاريخ، وكان يفترض صدوره عام 2002، لكن نذر الحرب الوشيكة على العراق حملت الناشر اللندني على طلب فصل جديد (هو المقدمة) لسدّ الفراغ. فكان أن تأخر صدور الكتاب الى ربيع 2003، وبالتحديد بعد غزو العراق…هذا الكتاب هو محاولة لفهم العلاقة بين المقدس والدنيوي في مناشىء حركات الاحتجاج الدينية في العراق، بمقارنة مضمرة في الأغلب، مع ايران، اعتماداً على الأدوات النظرية لسوسيولوجيا الدين، وعلى مناهج البحث الأكاديمية.)
وقد تعرّض فيها عبد الجبار لدراسة الشيعة في تاريخ العراق المعاصر، من حيث الجانب الاجتماعي والسياسي والثقافي، وأوضح دورهم في تاريخ العراق وهويتهم وعلاقتهم بالهويات الدينية والثقافية الأخرى، منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وحتى قيام الحكم البعثي في العراق، وما جرى من أحداث سياسية واجتماعية في تلك الفترة مع الشيعة، سواء الحرب العراقية الايرانية، أو حركة الاحتجاجات والانتفاضات التي قام بها الشيعة في جنوب العراق عام 1991م على سياسة النظام السابق. وقد نشر الكتاب بنسخته الانكليزية سنة 2003، بـ(391) صفحة عن دار الساقي في لندن. وقد قدم الدكتور سامي زبيدة له.
لقد تُرجم الكتاب الى اللغة العربية عام 2010م من قبل المترجم العراقي الاستاذ أمجد حسين، من مواليد 1932، استاذ الأدب واللسانيات والترجمة، وصدرت عن دار الجمل بعنوان (العمامة والأفندي، سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني)، بـ (590) صفحة.
يقول الدكتور سامي زبيدة في تقديمه للكتاب : (ان كتاب فالح عبد الجبار مساهمة فريدة، وقيمة في دراسة الاطار الحديث للتشيع في العراق، مجتمعاً وثقافة وسياسة. وهو يرسم لوحة أخاذة عن المشهد الشيعي بمؤسساته ومرجعياته، بشخزصه وأسره، وفئاته، وبأقتصاد الحياة الدينية، وحالات المد والجزر المالي فيها…ان وصف وتحليل الحركات السياسية الشيعية، زمنابعها الاجتماعية والفكرية هي بؤرة اهتمام الكتاب… ويحتل المؤلف موقعاً فريداً يؤهله للكتابة عن تاريخ العراق الحديث. فهو مشارك بارز في المشهد السياسي والثقافي، أولاً داخل بلاده، ثم شأن العديد من المثقفين الذين نجوا من التصفية، في المهجر. وأن معارفه وابحاثه علمية صارمة، لكنها لا تنبع من معطيات ارشيفية وثائقية فحسب، بل هي ثمرة ارتباط وثيق بالاحداث والشخوص والتيارات الفكرية، بل ان سردياته مشبعة بمعرفة حميمة بالتاريخ والسياسة في عموم المنطقة ما يضفي على البحث منظورا مقارنا، اما التحليل فانه ثري بالمعرفة النظرية الاجتماعية والسياسية. ان الكتاب أشبه بوليمة معرفية لكل دارس للعراق أو المنطقة، كما لكل قارىء عليم وفضولي.) العمامة والافندي. الترجمة العربية. ص 8
أما مضمون الكتاب فيناقش تاريخ شيعة العراق المعاصر، ودراسة ثقافة وحياة الشيعة ومركز ثقلهم في مدينة النجف، وتاريخهم الثقافي والسياسي والاجتماعي، أو بالاحرى تناول عبد الجبار الاسلام السياسي الشيعي وبيان مدى تقاربه مع حركات الاسلام السياسي عامة، والسني على وجه الخصوص، كما تعرض عبد الجبار لدراسة تاريخ الاحزاب الدينية الشيعية وشخصياتهم، امثال حزب الدعوة الاسلامية والمجلس الاعلى، ومنظمة العمل الاسلامي، وتعرض لدراسة بعض مراجع الدين المؤثرين في النجف والذين كان لهم الثقل في تاريخ شيعة العراق المعاصر، امثال السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد تقي المدرّسي والسيد محمد الحسيني الشيرازي، فقد درس فكرهم وونظرياتهم السياسية بالتفصيل. وعن هيكلية كتاب (العمامة والأفندي) فقد تكّون من خمسة أجزاء أو (أبواب) بفصول سبعة عشر، وقد ختم بخاتمة عرض فيها لأبرز النتائج التي خلص لها عبد الجبار من دراسته هذه.
وحين نأتي لتحليل عنوان الكتاب بنسخته العربية نجده يختلف تماماً عن عنوان النسخة الأنكليزية، ولم يشر الكاتب ولا المترجم لا من قريب ولا من بعيد لهذا الاختيار في العنوان العربي (العمامة والافندي)، ولماذا لم يبق المؤلف على العنوان الانكليزي (الحركات الشيعية في العراق) عنواناً للطبعة العربية دون تغيير؟
وأفترض أن هناك عدة أسباب وراء أختيار عنوان (العمامة والأفندي) للنسخة العربية للكتاب وأهمها هي :
1ـ جانب التسويق والتشويق للقارىء والمتلقي وفق هكذا عنوان، اذ لو بقي عنوان الأطروحة الأنكليزية كما هي عنواناً للكتاب العربي لكان قرّاء الكتاب والاعلام الثقافي له أقل شيوعاً وأنتشاراً، لأنه يتناول فئة وشريحة دينية واجتماعية وسياسية محددة وهم الشيعة، وقد يكون قرّاء الكتاب ومقتنيه مقتصراً أيضاً على فئة محددة بعكس العنوان العربي المثير والجذّاب للقاريء العربي، والذي يوحي بأنه يحلل قضية الصراع بين طبقة (العمائم) وطبقة (الأفندية)، أو الصراع الديني العلماني في الاسلام، ذلك الأمر الذي لم يتناوله الكتاب ولم يتطرق له عبد الجبار في أطروحته.
وما يؤيد كلامي هذا وجهة نظر الدكتور علي عبد الهادي المرهج، الذي كتب مقالاً عن كتاب ( الدولة : اللوثيان الجديد) لفالح عبد الجبار، فرأى أن هناك بوناً شاسعاً بين عنوان الكتاب ومضمونه، فـ(ما علاقة كاتب مثل فالح عبدالجبار هو في السياسة أقرب لما بيَنت و في علم اجتماع المعرفة هو أقرب لمدرسة (فرانكفورت النقدية) بآراء (توماس هوبز)؟. الجواب: هو أنه مُغرم باستعارة العنوان الأكثر جاذبية في عالم التسويق والبيع والشراء… تفحص الكتاب من ألفه إلى يائه وستجد أن هذه الاستعارة للعنوان مُقحمة على متن الكتاب، ولا تمهيد ولا مدخل يُبرر لنا من خلاله فالح عبدالجبار استعارته لرؤية فيلسوف يميل للدفاع عن التفرد في الحُكم.) د.علي المرهج. كتاب الدولة.. اللويثيان الجديد. موقع المثقف العربي. العدد: 4489 ـ 20/12/2018.
2ـ أرى أن عبد الجبار انما يريد الاشارة في عنوان كتابه الى وجود نمطين مختلفين من أنماط التفكير هما : التفكير الديني، والتفكير العلماني، طريقة تفكير (أهل العمائم) وطريقة تفكير (الافندية)، والديني والعلماني في الحركات الشيعية في العراق، والتي ساعدت على قيام الفكر الشيعي العراقي، وتأثيرهما في السياسة العراقية الحديثة، وهذا مالم يفصل به القول، عبد الجبار في كتابه، ولم يشر الا للحركات الدينية فقط، وأشار اشارة بسيطة في مقدمة الكتاب لمؤتمر لندن والشخصيات السياسية المساهمة في المؤتمر التي ساهمت في تغيير نظام الحكم في العراق ما بعد 2003.
3ـ عنوان الكتاب (العمامة والأفندي) أعم مما جاء فيه من مادة بحثية، اذ أن الكتاب يتناول بالبحث الحركات الشيعية في العراق المعاصر، أما العنوان فقد كان أكبر وأعم ويوحي لقارئه أنه يتناول حركات الاحتجاج في العراق بين طبقتي (المشايخ وأهل العمائم) و (طبقة المثقفين والأفندية)، بين أتباع (المد الديني) وأتباع (المد المدني)، وهذا مالم يأتي عليه عبد الجبار، وهو ما كنا نتمنى دراسته وتناوله كقرّاء من قبل فالح عبد الجبار، العالم والخبير والمثقف بهذا الخصوص.
4ـ هناك جهد كبير قد بذله عبد الجبار في دراسته هذه والتي أشاد بها مشرفها ومقدمها عالم الاجتماع العراقي الدكتور سامي زبيدة، والمطلّع على الكتاب يتلمس ذلك الجهد الكبير المبذول أيضاً، وقد أعتمد عبد الجبار على الدراسات السابقة له وأشار اليها في متن الكتاب، ولكن عنوان الكتاب قد مارس نوعاً من التعمية على القارىء، وأضاع على القارىء متعة القراءة والتخصص، وأوهم المتلقي أن الكتاب يناقش صراع (العمامة) و (الأفندي) في حركات الاحتجاج، ولكنه لا يناقش ذلك تماماً.
اذن ما جاء في عنوان الكتاب لا يتطابق تماماً وما جاء في مضمونه، وقد حضرت في الكتاب مناقشة أفكار وخطاب (العمامة) وغاب عنها بالكامل أفكار وخطاب (الأفندي)، وهذا مما يؤسف له ولم يتناوله عبد الجبار بالتفصيل، وكان الأولى بالمؤلف والمترجم أن يوضحا ذلك الاشكال في التسمية، ولماذا لم يتم اعتماد العنوان الأصلي بنسخته الانكليزية، وقد دفعتنا قراءة الكتاب لمحاكمة ونقد عبد الجبار على ما لم يقله في كتابه (العمامة والأفندي) من خلال العنوان، وليس على ما قاله وما قدمه من منجز بحثي وفكري مميز في دراسة تاريخ الحركات الشيعية في العراق. ولكنني أفترض ختاماً أن الدكتور فالح عبد الجبار قد أراد من دراسته هذه دراسة فكر (أهل العمائم) طبقة رجال الدين والمشايخ، من وجهة نظره كـ (أفندي)، علماني، ليبرالي، مثقف، يريد نقد المقدس الديني من خلال طروحاته المدنية.
د. رائد جبار كاظم. استاذ فلسفة. الجامعة المستنصرية. العراق.