البغداديات:
كثير من التشكيليين العراقيين والتشكيليات العراقيات الذين رسموا “البغداديات”، أو كانت “البغداديات” موضوعات لرسومهم ولوحاتهم. وكُثر من كانوا من السباقين في طرق أبواب هذه المدرسة أو هذا النوع من الفن؛ وسَالت على فُرَشهم الكثير من لوحات “البغداديات”. ولمن لايعرف هذا النوع من الفن، أو هذه المدرسة الفنية، فنعني بها كل مايخص الحياة البغدادية بشكل عام، والبيت البغدادي على وجه الخصوص، وبما أن المرأة هي سيدة البيت البغدادي، فقد كانت هي “الثيمة” الرئيسية والموضوع الأساسي الذي تتمحور حوله كثير من هذه اللوحات، التي تناولت حياة البغداديين وبيوتهم.
بدأ فنانو العراق الرسم في هذا المجال، وقد اعتبر الأوائل منهم هم من أسس لهذا الفن، ولهذه الطريقة في التعبير، ومنهم من كان من المتخصصين في مجال الفنون التشكيلية، وآخرون كانوا هواةً في البداية ثم أصبحوا محترفين. ومن رواد هذا الفن الرسام العراقي جواد سليم، ولن ندخل في موضوع التسمية -البغداديات-، ومن أطلقها؛ أهو الفنان جواد سليم نفسه، أم النقاد الذين قرأوا هذه اللوحات، وكتبوا عن تجربة الرسام العراقي في هذا المنحى! حيث كان هذا في منتصف خمسينيات القرن المنصرم.
الريادة لاتعني الأفضلية:
وكما أن الريادة أو الأسبقية لاتعني دوماً الأفضلية، فقد نجد من بين الذين رسموا “البغداديات”، من له (عمر) أقصر من الآخرين من الناحية الزمنية، وممارسة الرسم، لكنه تفوق على من سبقوه، أو على الأقل وجد له مكاناً في الصدارة، ومن هنا كان سطوع نجم الفنانة التشكيلية ميساء محمد السراي؛ ابنة بغداد، التي تختزن ذاكرتها بغداد بكل جوانبها وتفاصيلها منذ صغرها حينما كانت طفلة، إلى أن أصبحت فنانة ترسم بغداد كما تراها هي، بقلبها وعواطفها، وليس انعكاساً حرفياً لبغداد “الدربونات” الأزقة، أو الشوارع، أو الساحات والميادين، أو الخُضرة والماء، إنما بغداد من وجهة نظر التشكيلية ميساء السراي؛ أي مضاف لها عواطفها، ومواقفها من بغداد، وبما أن العواطف تتبدل، بل وأحياناً حتى المواقف تتباين جاءت لوحات ميساء السراي في هذا السياق، فهي قد تختلف في الموضوع، والزمان، والمكان، لكنها تتحد من حيث الروح؛ إذْ يعرف من يرى هذه اللوحات بأن هناك خيطاً خفيَّاً يربطها ببعضها، حتى وإنْ عُرضت هذه اللوحات في معرض أو متحف مع لوحات فنانين آخرين، تناولوا الموضوع عينه، وهذه برأيي بصمة تميّز وتفرّد تُحسب للتشكيلية ميساء السراي.
ميساء السراي لم تكن خريجة كلية الفنون، لكنها كانت ترسم منذ الصغر، وكان الرسم هوايتها الأولى، التي لم تنقطع عنها يوماً. لم تُصوّر السراي المرأة البغدادية في لوحاتها تصويراً حرفياً، لكن المتلقي والمتأمل لهذه اللوحات يسمع خشخشة الأقراط “التراجي”، أو الخلاخيل “الحجول”، أو الأساور والعقود المتدلية، أو قرقعة الصحون والأكواب والفناجين، بل وحتى صوت ماكينة الخياطة “السينجر”، وإبرتها تطرز طريقاً وسط القماش، ويستطيع أن يستشفَ متعة سيدة المنزل، أو المرأة التي تقوم بهذا العمل.
السراي رسمت المرأة العراقية البسيطة، وهي تقوم بأعمالها العادية، وتمارس حياتها الطبيعية في الأهوار -مثلاً-؛ عندما تعود إلى البيت حاملة إناء الماء على رأسها، أو القصب، ورسمت سيدة المنزل التي تقوم ببعض شؤونها المنزلية، رسمتها مترفة مُدللة، تفيض جمالاً وحيوية وحبَّاً بوجهها المستدير، ونظرتها المتفائلة التي تتطلع إلى البعيد، وفمها الذي يُخفي ابتسامة ربما لايستخرجها سوى من يقف متأملاً لتلك اللوحات طويلاً. كما رسمت المرأة البغدادية ذاهبة أو عائدة من السوق، وكانت العباءة ليلاً أسود، يُشكِّل تضادَّاً جميلاً مع سماء زرقاء صافية في معظم الأحوال، وكأن الفنانة تريد أن تعبر عن رغبة داخلية، وشعور دفين؛ بأن تكون سماء بغداد خالية من الدُخان والبارود. تظهر مقدمة شعر المرأة البغدادية بني اللون -في غالب الأحيان-، وجديلة تنسدل على الصدر، ربما أرادت السراي أن تخفف من حدّة السواد الذي غلف أجزاء كثيرة من لوحتها الصغيرة التي أبدعتها أناملها، أو اللوحة الكبيرة؛ وأعني مدينتها بغداد. لم ترسم المرأة البغدادية منكسرة مهزومة مهزوزة، بل رسمتها شامخة واثقة، ترتدي أقراطاً ذهبية كبيرة مزخرفة تزينها خرزات فيروزية اللون، تتماشى مع عقد ذهبي بنفس الزخرفة وبنفس لون الخرز. كما رسمت المرأة العراقية ملكة حاكمة، ترتدي أقراط الذهب، وعقود الذهب والياقوت الأحمر، تزين خوذتها الزرقاء وريقات من الذهب الأصفر، إنها الملكة “شَبْعَاد” ملكة أور.
معظم لوحاتها تحتوي على ألوان لها إيحاء خاص؛ البرتقالي والأحمر للملابس، أو شرائط ربط الشعر، والفيروزي الذي يلون السماء والماء، وهذا اللون يبعث الراحة والطمأنينة في النفس، ويرمز إلى التناغم بين العقل والعاطفة، كما نرى الكف الأزرق في معظم لوحاتها، والذي له دلالة ورمزية في حياة البيوت البغدادية، بل وحتى في ممتلكاتهم من الدكاكين والحوانيت، وفي مايركبون سابقاً من العربات والخيول، ونجده الآن في سياراتهم أيضاً. تتباين ألوان الخرزات الزرقاء في لوحاتها بين السماوي والفيروزي، فأحياناً نجد امرأة بغدادية بعيون جميلة ترنو إلى البعيد من خلف كف أزرق يغطي نصف وجهها وإحدى عينيها، ونصف فمها، وينتصب خلفها عدد من مآذن وقباب المساجد، وبذلك تجسد السراي بيئتها، ومحيطها، واللذان هما عالم لوحاتها الذي تسبح فيه وفلكها الذي تطوف في مساراته.
تحمل لوحاتها كثيراً من الرموز؛ بدءاً من مفتاح البيت الكبير، الذي نجده في كثير من لوحاتها، ومروراً بالهلال الذهبي أو الأزرق، وماكينة “سينجر” للخياطة، التي تستعملها المرأة البغدادية في بعض لوحات السراي، أو تحملها على رأسها، وفي كل الحالات هي رمز العطاء والمساهمة في حياة البيت البغدادي.
طريقة تناولها لـ”البغداديات”:
كثير من الفنانيين رسموا “البغداديات”، ولكل خطّه وبصمته -كما قالت السراي في إحدى مقابلاتها-؛ فهي لم ترسم النسوة البغداديات جواري يتحلقن حول من حكموا العراق في سالف الأزمان، يطعمنهم، أو يسقينهم، أو يرقصن في بلاطهم لإسعادهم، لم تهتك ستر المرأة العراقية وتصورها في خصوصيتها، مظهرة مفاتن جسدها، أو تضاريس تثير شهوة الرجل، بل استطاعت في كثير من الأحيان أن تجعل المرأة في لوحاتها تعلن وتعبر عن رغباتها صراحة، وخلف النظرات تختبيء آلاف الأمنيات والأحلام والرغبات. كأن السراي أدركت خيطاً مهما؛ وهو أن المباشرة تقتل الفن في كثير من الأحيان، والسهولة تجعل العمل الأدبي أو الفني سطحي الاكتشاف، أو رخو العنان. ترسم المرأة البغدادية جميلة كبغداد؛ بوجهها المستدير وحاجبيها المرسومين بعناية، وعينيها الواسعتين، وفمها الأحمر الصغير، وهذه كلها من معالم الجمال لدى البغدادين. وفي معظم الأحيان نجد أن المرأة “طويلة مهوى القِرط”؛ أي طويلة العنق، وهذه من سمات الجمال لدى العرب أيضاً.
المرأة البغدادية في لوحات ميساء السراي:
السراي رسمت المرأة البغدادية في حالات نفسية متغيرة، وانفعالات متباينة، فرسمتها متفكرة ساهمة، ومتأملة ممعنة، ومغمضة العينين حالمة، تحيط بها عدة أبواب، وكل باب له لونه الخاص، وكأنها أبواب بغداد، وعليها أن تختار من أي باب تدخل. في كثير من اللوحات جاءت المرأة البغدادية شامخة بين القباب والمآذن تنظر بعيداً وكأنها رأت مخطط بغداد عندما أضاء أبو جعفر المنصور النموذج المعماري للمدينة قبل البدء بإنشائها، فرسمت السراي ملايين القناديل في مخيلتها، أو على “الأكرليك” أو على الزجاج والأطباق. وكأنها من خلال رسمها على الأواني تقول للمتلقي تذوقك للفن الراقي وقراءتك له أهم بكثير من أكلك للطعام. كما رسمت المرأة البغدادية ذات الوجه الجميل المستدير، والفم الصغير ترنو بهدوءإلى القباب والمآذن؛ وكأنها تسمع وشوشاتها. بإمكان المتلقي معرفة موضوع اللوحة، لكن أحياناً يتملكه الفضول للغوص في ماوراء تفاصليها؛ مثل معرفة مايدور من أحاديث، في لوحة الفتاة البغدادية التي تمسك بالهاتف ذي السلك، وقد التمعت عيناها سروراً، وتكوَّر فمها كأنه يخبيء ابتسامة كي لاتطير، أو لاتريد لأحد أن يراها. هنا برعت السراي في تصوير الأحاسيس ورسمها، وهي مهارة يعجز عنها كثير من الفنانين، فلوحاتها من لحم ودم وعواطف، ربما تشببها معظم لوحاتها في الشكل والمضمون، ألا يرسم الفنان نفسه، أو جزءاً منها؟ إذْ يقال بأن دافنشي قد رسم ذاته في لوحته الشهيرة “الموناليزا”. الرسم كالأدب تماماً، اللوحة والقصيدة، والكتاب، متى ماخرج من المطبعة لم يعد ملكاً للكاتب، وللقارئ أو الناقد الحق في فهمه وقراءته كيف يشاء.. والفنان متى مارسم اللوحة وعرضها، للمتلقى حق فهمها بالطريقة التي يراها.