كثيراً ما نسمع بنعت ووصف الشخص النفعي، والمصلحي والأناني والانتهازي بأنه شخص (براجماتي)، بصيغة أقرب للسخرية والحط من قيمته وشخصه، وهذه صفات يقرنها الانسان البسيط بالشخص الذي هو أقرب للنفعية المصلحية السافرة والاستغلال الشخصي الاناني المقيت، الانسان الذي يقدم نفسه على الآخرين دائماً دون أن يعرف معنى للتضحية والايثار والقيم،أي الانسان الذي يذهب للقول (الغاية تبرر الوسيلة)، فنحن نطلق لفظ ووصف البراجماتي على من هب ودب، دون أن نعرف المعنى بصورته الحقيقية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى في أحسن الأحوال لمن يعرف (البراجماتية) كفكر وفلسفة فهو يحط من قيمتها وينتقدها نقداً سافراً وساخراً مقللاً من قيمتها ودورها في الحياة والمجتمع، وينتقد البراجماتية من وجهة نظره بما يتبناه من أفكار وأيديولوجيا دينية أو مثالية بعيدة عن الواقع تماماً، وهذا ما لمسناه في الكثير من الانتقادات الايديولوجية للافكار البراجماتية وفلاسفتها، متخذين من معتقداتهم وأفكارهم منطلقاً لذلك النقد، دون أن يفرقوا بين بيئة الفلسفة البراجماتية وفضائها الاجتماعي والزمكاني وبيئتهم الفكرية والثقافية الطوباوية التي نشأوا عليها، وتلك مفارقة في النقد يتجاوزها الكثير من الدارسين ولم يتقيد بها، تحت دعوى وذريعة أن أفكارهم الدينية والمثالية مطلقة وتصلح لكل زمان ومكان، ما دام الانسان هو الانسان نفسه في أي مجتمع وزمكان كان، وهذا ما لا تؤمن به البراجماتية كفلسفة ومنهج ونظام معرفي متكامل شأنه شأن الكثير من الفلسفات. اذن نحن أمام فهم بسيط وساذج ومحدود للفلسفة البراجماتية، يقلل من قيمتها ويبخس حقها بين الفلسفات، كفلسفة لها أثر كبير وواقعي وحي في العالم الجديد وحياتنا المعاصرة، يكفي هذه الفلسفة فخراً أنها أنتجت نمطاً علمياً وعملياً من الافكار ينسجم وحياتنا المعاصرة، فهي كما يصفها المفكر العربي زكي نجيب محمود (فلسفة جاءت بمثابة الثورة على التفكير المثالي الذي يباعد بين الفكر والعمل، فجعلت الفكر والعمل وجهين لحقيقة واحدة، اذ جعلت معنى الفكرة هو نجاح تطبيقها).(1)
الفلسفة البراجماتية هي أحدى الفلسفات المهمة في الفترة المعاصرة، حيث برزت في أميركا كفلسفة معبرة عن روح الأمة الأميركية وروح العصر، العصر الذي تميز بالتوجهات والثورات العلمية والمعرفية في الغرب، والتوجه نحو الواقعية في قبال الفلسفات المثالية التي طغت على الفلسفتين الالمانية والفرنسية، في مقابل الفلسفة الأنكليزية التي تميزت بنزعتها التجريبية والعلمية، وسيادة هاتين النزعتين هي الطاغية في الفلسفة الغربية (الأوربية)، الا أن ولادة أميركا الجديدة، وأقامة دعامة أسسها السياسية والفكرية والفلسفية على قواعد الفكر والفلسفة الأنكليزية ذات البعد التجريبي والعلمي، لم يحرم المجتمع الأميركي من فلسفات وأفكار مثالية (المانية وفرنسية) المشارب، أو فلسفات (شرقية) ببعدها المثالي (آسيوية أو أفريقية)، فأمريكا مجتمعاً ودولة، كما هو معروف أقيمت على أساس تعدد الهويات واللغات والثقافات، وهذا ما يجعلها ذات أفق رحب يتقبل جميع الافكار والثقافات، والتعددية الثقافية أهم ما يميزها عن غيرها من الدول، وهذا ما جعل مفكروها ينتبهون الى هذه النقطة لأنشاء فلسفة تليق بهذه الأمة وتؤمن بالأختلاف والتنوع الموجود على أرضها، وما الفلسفة البرجماتية الا تعبيراً صادقاً وحياً عن ذلك التعدد والاختلاف والتسامح في بنية الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي الأميريكي.
والبرجماتية (Pragmatism) أشتقت من الكلمة اليونانية (Pragma) والتي تعني العمل، والعمل هو الجانب الأساس في الفلسفة البرجماتية ولذلك فهي فلسفة عملية، تؤكد على قيمة الفكرة والعمل، والعلاقة بين النظرية والتطبيق، هي فلسفة عمل وحياة وواقع، لا فلسفة مثال وخيال وتجرد، ولكنها لا تحارب الخيال والمثال وترفضه تماماً ان كان يصب في صالح العمل وفائدته. والجميل في الفلسفة البرجماتية انها مثل النحلة تأخذ من جميع الفلسفات والافكار، وهي كما يصفها فيلسوفها وليم جيمس (1842ـ1910) بانها : ( الفلسفة العملية تتفق مع المذهب الأسمي، في أنها تتعلق دائماً بالجزئي، ومع المذهب النفعي، في أنها تؤكد دائماً قيمة الجانب العملي، ومع المذهب الوضعي، في أنها تحتقر دائماً سائر الحلول اللفظية الخالصة والمسائل التافهة غير المجدية والتجريدات الميتافيزيقة المجردة. فالفلسفة العملية هي في صميمها عبارة عن أنصراف عن المجرد وتعلق بالشخص)(2)
وعلى الرغم من الاختلاف في البراجماتية من فيلسوف الى آخر الا انه يمكن تحديد أهم السمات الأساسية للفلسفة البراجماتية وهي :
1ـ تأكيدها على أهمية الانسان والجانب الانساني والفردي وتقديم فلسفة للحياة تليق بها.
2ـ قولها بنسبية الحقيقة وعدم ثباتها ومطلقيتها لكل زمان ومكان، فالحقبقة مرهونة بالتحقق من صدقها وواقعيتها، وهي متغيرة حسب زمكانها وظرفها الاجتماعي والتاريخي، وأن الحقائق متعددة ومختلفة بتعدد البشر.
3ـ العلم والعمل هو مقياس الافكار وصدق تحققها مرهون بالتجربة، التجربة العلمية والعملية والاجتماعية.
4ـ العقل أداة لتحقق الافكار والحقائق ولكنه لا يعد أداة وحيدة مطلقة لكشف الحقائق، فهو مرهون بطبعيته البشرية وظروفه الطبيعية والاجتماعية والنفسية، والحقيقة ليست عقلية محضة، بل هناك عناصر أخرى تساهم في بناء الحقيقة.
5ـ الفلسفة ليست مجرد أدوات وآليات نظرية بحتة، وهي ليست تأمل عقلي مجرد خالص، بل يشترك العلم والحياة والواقع والعواطف في تكوينها.
6ـ لا تقلل البراجماتية ولا تقصي من دور الجانب الديني والوجداني والعاطفي في حياة الانسان، ولكنه مجال لا يليق بالبحث الفلسفي والعلمي، ومجاله النفس والخيال والمثال، وهي أفكار ذاتية فردية لا يمكن التحقق منها مختبرياً، وأن كانت هذه النقطة مثار جدل وأختلاف بين الفلاسفة البراجماتيين.
لقد لعبت الفلسفة البراجماتية دوراً كبيراً في الفلسفة المعاصرة، ببعدها العملي والعلمي والتربوي والفكري والسياسي، وما دعت له من أفكار واقعية بنزعة علمية ومنهج تحليلي للواقع والافكار ووالمنطق واللغة، ومن الفلاسفة البراجماتيين تشارلز بيرس (1839ـ1914م) الذي يعد المؤسس الأول لهذه الفلسفة، وتحديداً عندما تم تأسيس (النادي الميتافيزيقي) في بداية العام 1870م، الذي أدى الى ولادة البراجماتية كجماعة فلسفية تناقش قضايا فلسفية وعلمية، وقد تم جمع هذه الافكار والمحاورات في مقالات من قبل بيرس في عام 1878م، في مجلة العلوم تحت عنوان (كيف تكون أفكارنا واضحة)، وقد أخذ بيرس على عاتقه تحليل الافكار واللغة والمنطق، وهو يعد رائد البحث اللغوي والسيمائي وفلسفة العلم، وقد سبق الوضعية المنطقية في أفكاره في تحليل اللغة والمعرفة، الا أنه لم يقاطع الميتافيزيقا ولم يرفضها، كما فعلت الوضعية المنطقية، والشيء الملفت للنظر في فلسفة بيرس هو أهتمامه الكبير بفلسفة الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت ونزعته التوفيقية، اذ يؤكد بيرس أن الفلسفة البراجماتية قد تحددت وتشكلت معمارياً وفقاً لفلسفة كانت، ويقول بيرس أنه الوحيد من بين البراجماتيين الذي دخل الفلسفة من باب كانت، الا أن فلسفته ذات طابع أنكليزي، أي أنه أنتصر للفلسفة الانكليزية وأنحاز لها ولم يستطع التوفيق بين فلسفة كانت والتجريبية الانكليزية كما يرى الدكتورعلى عبد الهادي المرهج.(3)
والفيلسوف البراجماتي الثاني هو وليم جيمس، الطبيب والنفساني الأبرز في الفلسفة البراجماتية، والذي كانت لأفكاره دوراً أساسياً في علم النفس وفلسفة الاخلاق وفلسفة الدين وغيرها من المباحث الفلسفية والموضوعات الفكرية، وقد آمن وليم جيمس بالبراجماتية كفلسفة علم وعمل، بل أعطى في فلسفته مساحة للجوانب الشعورية واللاشعورية، ولأرادة الاعتقاد، فأن كان بيرس قد أكد على صدق الفكرة عن طريق تحققها الواقعي الخارجي، الذي أقترب فيه من وجهة نظر جورج باركلي (1685ـ 1753م) التي تقول : (الوجود هو الادراك) أي الادراك الحسي المشخص، فأن جيمس قد أعطى مساحة حرة للاشياء التي ندركها باطنياً وليس ظاهرياً ومادياً، وما أرداة الاعتقاد الا كفكرة براجماتية تصب في هذا المجال، فـ ( “الاعتقاد” نفسه عاملاً فعالاً من عوامل “تحقق” ما نؤمن بهأو ما نعتقده؟ ان اعتقادك بأمانة شخص قد يكون هو الكفيل ببث روح الامانة في نفسه، كما أن ثقتك به قد تجعل منه شخصاً جديراً بالثقة حقاً، فلماذا لا نقول ان هناك حلات فيها يخلق “الايمان” نفسه وسائل تحققه، بحيث يصح القول بأن الفكرة تولد الواقعة، كما أن الرغبة تولد الفكرة. ان البعض ليظن أن كل ما لدينا من معتقدات يقوم على بداهة موضوعية قوامها المنطق والنظر المجرد، ولكن الواقع أن للارادة دخلاً كبيراً في معظم ما ندين به من معتقدات. فنحن لسنا موجودات عقلية محضة تتولد كل معتقداتها عن اقتناع عقلي وبداهة منطقية، بل ان عامل “الاختيار” هو الذي يحدد اعتقادنا الى حد كبير. ومعنى هذا أن طبيعتنا غير العقلية تؤثر بشكل واضح في معظم آرائنا ومعتقداتنا، بل اننا حتى اذا اعتقدنا أن هناك حقاً، وأن عقلنا ميسر لأدراك هذا الحق، فان هذا الاعتقاد نفسه ان هو الا تعبير عن رغبة وجدانية تدخل فيها بعض عناصر ارادية وأخرى اجتماعية.)(4)
نحن نجد هنا انتقالة كبيرة ما بين فكر وبراجماتية جيمس وفكر وبراجماتية بيرس، وهذا ما جعل بيرس يصف فلسفته بـ (البراجماتيكية) تمييزاً لها عن (براجماتية) جيمس، وهناك مجموعة من الاسباب دفعت الأول لتمييز براجماتيته عن الثاني، وأهمها أن برجماتية بيرس تعتمد على الرياضيات والمنطق واللغة، بينما غابت تلك عن فلسفة جيمس، وأهتم بالمجال النفسي والانساني، (ولذلك دخل “جيمس” الفلسفة من علم النفس، بينما دخلها “بيرس” من المنطق والرياضيات).(5)
وأجد أن أقرب وأبسط تفريق بين البرجماتيتين هو أن برجماتية بيرس تجريبية ظاهرية حسية، بينما برجماتية جيمس تجريبية جوانية نفسية، وهناك فرق كبير بين الأثنين من حيث المجال الفلسفي والاشتغال الفكري، ولكننا سنجد الفيلسوف البرجماتي الثالث وهو جون ديوي (1859ـ 1952م) سيقدم برجماتية مزجت بين فلسفة بيرس من جهة وفلسفة جيمس من جهة أخرى، وكما قال المفكر العربي زكريا ابراهيم : (وعلى حين أن “برجماتية” بيرس قد ظلت برجماتية الرجل المنطقي، في حين بقيت “برجماتية” جيمس برجماتية عالم الانسانيات، نجد أن “برجماتية” ديوي قد أتخذت طابعاً مزدوجاً بوصفها “نظرية في المنطق” و “مبدأ مرشداً للتحليل الأخلاقي” )(6)
وقد سميت برجماتية ديوي بـ (الاداتية) (Instrumentalism) تمييزاً لها عن فلسفة كلاً من بيرس وجيمس، وقد وظف ديوي فلسفته في الجانبين العلمي والاجتماعي، بصورة عملية، وهو يعد رائد فلسفة التربية والفلسفة السياسية في اميركا والفلسفة المعاصرة، فضلاً عن اشتغالاته الكبيرة في الجانب النفسي والاصلاح الفكري وتجديد الفلسفة، فقد ترك مؤلفات كثيرة في هذا المجال، وهو قد ملّ الفلسفة التقليدية الغارقة في المثاليات والاطلاق والابتعاد عن الواقع، وقد آن الأوان لولادة فلسفة علمية عملية تقترب من الانسان والمجتمع، وتدمج بين الفكرة والعمل، والنظرية والتطبيق. وديوي عرف بقوة بفيلسوف الخبرة والتربية بلا منازع، فقد أكد على الخبرة ودورها الكبير في بناء الافكار وصياغة النظريات، فالخبرة هي المختبر الحقيقي الذي نكتشف من خلاله صدق أفكارنا وكذبها.
ويكفي الفلسفة البراجماتية فخراً أنها فلسفة تمجد الحياة والانسان ولا تهمش الميتافيزيقا ولكنها تحصرها في مجال آخر غير المجال الفلسفي والعلمي، وتأكيد الفلسفة البراجماتية على أهمية الديمقراطية في بناء الفرد والمجتمع والدولة، الديمقراطية كسلوك وعمل وليس كنظرية وأفكار، وقد صنعت الفلسفة البراجماتية الحضارة الامريكية المعاصرة، تلك الحضارة التي تمجد العلم والعمل، ولا نلقي باللوم على الفلسفة البراجماتية أن فشلت جماعة أو أشخاص في تحوير تلك الافكار والممارسات أو توظيفها بصورة سيئة، فأمريكا الهيمنة والتسلط والمركزية ليست من بناة أفكار الفلسفة البراجماتية، ولكنها هجين لأفكار متعددة ومنها البراجماتية، ولكن تلك الفلسفة ترفض تماماً تلك العناصر المتوحشة في بنية الحضارة الأمريكية الجديدة، وهي ليست مسؤولة عن ذلك الجانب المشوه في بنية أميركا الجديدة، وهذا ما نتمنى أن يتم تصحيحه من قبل الكثير من النقاد والدارسين، فالفلسفة البراجماتية فلسفة انسانية لا تحمل من الأرهاب والتكفير والاقصاء شيئاً يذكر، وهذا ليس دفاعاً عنها، ولكنني هذا ما أتملسه من خلال أفكار تلك الفلسفة ومنجزات فلاسفتها الكبار. وما أحوجنا نحن العرب لفلسفة عملية وعلمية تزاوج بين النظرية والتطبيق، فلسفة واقعية تهتم بحياتنا ووجودنا وتقدسه، فلسفة تبني المؤسسات وتقدس الانسان والمجتمع وتعمل على ترقيته وتقدمه تربوياً وأجتماعياً وفكرياً وأقتصادياً وسياسياً، وتفصل بين مجالي الدين والدنيا وتحترمهما، وتقدس كلا المجالين وتحفظ حق كل منهما في حياة الانسان، دون أحتراب أو عنف أو تطرف أو توحش مقيت يهدد مجتمعاتنا المعاصرة ويكرس الكراهية والاصولية بين شعوبالعالم الواحد.
د. رائد جبار كاظم. استاذ فلسفة. الجامعة المستنصرية. العراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) زكي نجيب محمود. حياة الفكر في العالم الجديد. ط2. 1982.دار الشروق. ص 8.
(2) زكريا ابراهيم. دراسات في الفلسفة المعاصرة. مكتبة مصر. ص 28.
(3) ينظر: علي المرهج. الفلسفة البراجماتية. أصولها ومبادئها، مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بيرس. ط1. دار الكتب العلمية. 2008. بيروت ـ لبنان. ص46.
(4) زكريا ابراهيم. المصدر السابق. ص 40.
(5) علي المرهج. المصدر السابق. ص 158.
(6) زكريا أبراهيم. المصدر السابق. ص 62