في ضوء كل المعطيات والإفرازات التي تمخضت عنها تجربة الحكم في العراق منذ عام ٢٠٠٣ ولحد الآن ، وما رافقها من تغيرات جوهرية في الصراعات السياسية بين مختلف الأحزاب والكيانات أو في تصدع العلاقات الإجتماعية بين مختلف شرائح المجتمع العراقي عموماً ، يمكن التكهن ببساطة بما سيكون عليه الوضع العراقي خلال السنوات القليلة القادمة . وبساطة التكهن بالنتيجة الحتمية لمستقبل العراق تستند على الحقائق التالية والتي لا تقبل الشك :
أولاً : إن الدستور العراقي ينص في المادة (١) : جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني ) . ويعترف الدستور بالأقاليم كمكون جغرافي / إداري للعراق وتكوين الأقاليم الجديدة وتنظيمها كما نصت عليه المواد ( ١١٦ ، ١١٧ ، ١١٨ ، ١١٩ ) . وهذا يعني إن تشكيل الأقاليم مسألة غير معقدة وينص عليها الدستور صراحةً.
ثانياً : أفرزت تجربة سيطرة أحزاب الإسلام السياسي ، بموجب ” نظام ديموقراطي مشوه ” في إدارة شؤون البلد ، بالأساس فشلاً ذريعاً في جميع المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية . فالفساد المالي والإداري وفي جميع مفاصل الدولة هو الظاهرة المميزة للنظام وعلى مختلف المستويات بحيث يصعب ، بل يستحيل ، معالجتها . وكذلك الفشل الواضح في المجال الإقتصادي سواء في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة أو القطاعات الخدمية كالصحة والتعليم والنقل والاتصالات والإسكان وألماء والكهرباء والصرف الصحي وغيرها من البنى التحتية . أما الفشل في الجانب الإجتماعي فهو واضح من خلال تفكك النسيج المجتمعي وتعميق الكراهية ( غير المعلنة أو الكامنة ) بين مختلف فئات المجتمع العراقي دينياً أو مذهبياً أو قومياً أو مناطقياً الى جانب المشاكل المترتبة عن التهجير والمخيمات ومشاكل أخرى عديدة منها انتشار المخدرات والجريمة المنظمة . أما في الجانب الأمني فليس هناك حاجة لتوضيح ذلك فقط للتذكير بالحرب الأهلية الطائفية خلال الأعوام ٢٠٠٧ و ٢٠٠٨ والتفجيرات والإغتيالات والإختطافات لمختلف الأسباب والتي راح ضحيتها أعداد كبيرة من المواطنين ثم توجت كل هذه المآسي بسقوط عدة محافظات بغزو داعش للعراق وما نتج عنه من قتل وتشريد وإبادة وتدمير كامل للمحافظات كالموصل والأنبار وغيرها . كل ذلك ولٌدٓ حالة من الإرتباك والتعقيد والنفور وحتى الكراهية ( غير المعلنة ) بين شرائح المجتمع العراقي .
ثالثاً : ضعف الحكومة المركزية الواضح في إدارة شؤون البلد على عموم محافظات العراق خصوصاً ما يتعلق بالملفات الأمنية من جانب أو الملفات الإقتصادية من جانب آخر . وهذا الضعف ناتج بالأساس من وجود وسيطرة أحزاب الإسلام السياسي على مقاليد الحكم بأجنحتها ومليشياتها المسلحة والتي تسيطر في الحقيقة على معظم مقدرات البلد بحيث أن تلك القوى المليشياوية المسلحة هي المتحكمة بشؤون البلد وليس الحكومة المركزية ( الرمزية أو الشكلية ) المتمثّلة بمجلس الوزراء ، أي السلطة التنفيذية .
رابعاً : العراق ، من الناحية الأمنية والدفاعية ، لا يمتلك مؤسسة مهنية واضحة يمكن الأعتماد عليها في تنظيم الجوانب الأمنية كما هو معمول به في دول العالم المتقدم أو المتحضر . فإلى جانب وجود المؤسسات العسكرية المتعارف عليها هناك في العراق مؤسسة عسكرية موازية لها تحت تسمية هيئة الحشد الشعبي . وهذه الهيئة الحشدية العسكرية تخضع ( شكلياً ) للقائد العام للقوات المسلحة ولكنها ، بتشكيلاتها وإنتمائاتها ، تخضع لمراجعها الأصولية داخلياً أو خارجياً . لذلك فإن المؤسسة العسكرية في الدول التي تحترم نفسها هي مؤسسة مهنية حيادية واجبها حماية الوطن من التهديدات الخارجية . أما في العراق فإن المؤسسة العسكرية تتكون من فصيلين متناقضين : مؤسسة عسكرية مهنية ( أو بالأحرى شبه مهنية ) ومؤسسة عسكرية عقائدية بأسم الحشد الشعبي معضمها من طائفة معينة هدفها حماية نظام الطائفة الحاكم من أعداء الداخل أو الخارج وليس حماية الوطن . فالمشكلة الفريدة في العراق هي وجود مؤسسة عسكرية مهنية نوعاً ما ومؤسسة عسكرية حشدوية عقائدية منظوية شكلياً تحت مظلتها ، وكلاهما على درجة متساوية تقريباً من ناحية التدريب والتسليح والأداء .
رابعاً : تجهيل المجتمع وتغييبه فكرياً وثقافياً عن كل مظاهر التقدم والتحضر والتفكير ابتداءاً من مراحل الطفولة وخلال كافة مراحل تعليمه وتثقيفه . الكثيرون لا يعلمون أبسط البديهيات ألا وهو أن حكم الإسلام السياسي ،لكي ينجح في الحكم ، لا بد من وجود مجتمع جاهل وغير متعلم وغير واعي وغير مثقف وغير متحضر ومغيّب تحت تأثير الغيبيات المتنوعة ، وهذا ما هو سائد في المجتمع العراقي المغيب عن واقع الحياة . وبذلك من السهولة السيطرة عليه كأي قطيع من الكائنات الحية . وإلا كيف نفسر صعود أحزاب الإسلام السياسي الى السلطة لولا هذا التخلف في المجتمع .
رابعاً : انتشار وتعميق بعض العادات والتقاليد البدوية والعشائرية في العراق والتي لا تنسجم مع تكوين الأمم المتقدمة والمتحضرة . العراق تاريخياً وما زال يخضع للنظام العشائري في الوقت الذي إنتقل العالم الى مراحل متقدمة لا وجود لمثل هذا النظم أو القيم أي وجود في الوجدان الإنساني .
أمام كل ما ورد أعلاه فأن العراق بظروفه الحالية وبعقلية سياسييه ، المحدودة مع الأسف ، سوف يواجه تحديات كبيرة ومصيرية خصوصاً أمام الظروف المحلية والإقليمية والدولية المعقدة ، ولكنها واضحة . ولذلك فإن العراق سوف يذهب بالتأكيد ، وبدون محالة ، الى الهاوية ما لم تتخذ قرارات وطنية دون إملاءات خارجية بإتجاه إقامة أقاليم إحداها يخص تكوين الإقليم السني الذي يضم محافظات الموصل والأنبار وصلاح الدين وإقليم ، كإقليم البصرة ، أو أقاليم الجنوب . وبهذا الأسلوب سوف يتجاوز العراق كل مشاكله بوقت قصير ، وإلا سوف يدخل العراق في نفق مؤلم لا مخرج منه . ملاحظة : لتتوقف أصوات الجهله والمغيبين ومن الذين إنتماءاتهم لغير الوطن فكرياً وعقائدياً ، وأن يكون هاجس المجتمع هو العيش بحرية وسلام وانسجام ضمن أقاليم تحرص كل فئة على حمايتها وتطويرها ضمن منظومة الدولة الإتحادية . هذا هو الحل الوحيد لخلق عراق واعد مستند على قواعد التقدم والتحضر في الحكم .