خاص: حاورته- سماح عادل
“محمد لغويبي” روائي وقاص مغربي، من مواليد سنة 1972 بمدينة وزان، بدايته في الكتابة كانت 1995 عبر مجموعة قصصية بعنوان “نبوءة”، وصدرت سنة 2007، ثم صدر له “سيف من خشب” سنة 2009 و”شيء من حتى” 2014 و”كلمات شتى” 2016، و رواية “ممشى الياسمين” 2016 وكتاب مقالات بعنوان “كرونولوجيا سياسية”، و”الملكوت”، سنة 2017.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- بدأت الكتابة و أنا تلميذ في الثانوي إعدادي، كنت أحاكي المقروء الذي انبهرت به فكانت الكتب عالمي الجميل الذي يمدني بالمعرفة و بالخيال. وكنت أصنع ما يشبه الكتب بالورق الذي يتبقى لي من الدفاتر المستعملة وأعد لها أغلفة من الورق المقوى الذي كان خالي يساعدني برسم لوحات لها ويخط لها العناوين بخطه الجميل فتبدو كتبا حقيقية!.
جربت في هذه الأثناء كتابة قصص بوليسية وأخرى رومانسية، ما زلت أحتفظ بها إلى اليوم.. تذكرني بالطفل في داخلي، والعمر الذي يمضي أمامي و أنا ألهث وراءه. واكتشفت أني أحب أكثر كتابة قصص قصيرة، في الثانوي التأهيلي فواظبت على ذلك إلى الآن. و إلى الآن مازلت في الورشة أتعلم. أنا بصدق أتعلم الكتابة كل يوم،و إلى الآن و مع كل محاولة و كل جديد و كل المقروء الذي أتلقاه نقديا و إبداعيا و حياتيا.
(كتابات) في المجموعة القصصية (ملكوت) قصة (كان ما كان) تتناول ذلك الصراع النفسي داخل البطل حول ثنائية الشرق والغرب، والأغنياء المستعمرين والفقراء ضحيتهم.. حدثنا عن ذلك؟
- أعتبر “كان ما كان” قصة قصيرة، وهي من مجموعتي الأخيرة “الملكوت”، نصا مخاتلا يقوم على طبقات نصية متوارية لذلك فهو من النماذج القصصية التي تستدعي حفرا اركيولوجيا، إنه أليغوري ربما، فهناك البطل الذي يحمل أبعادا نفسية واجتماعية وثقافية وحضارية.. ينكشف ذلك في تمزقه وعند الوقوف على المشاهد الدراماتيكية التي تقدم فيه شخصية البطل في علاقته بالشخصية الأنثى السلطوية التي تعكس أشكالا من السلطة المبهمة والغامضة.
لقد اتكأت هذه القصة على المحكي التراثي لليالي وكان الهدف فنيا كما كان لتكثيف الدلالة وهو يغوص في أجواء التاريخ من خلال شبكة رمزية.. وهو نص يحمل وعيا معينا تجاه الشرق والغرب، الشمال والجنوب،.إنه لعب سردي يفضح السلطة ويعري التاريخ ويشرح الشخصية بطريقة تترك للمتلقي إمكانات هائلة للتأويل، إنه نص يوهم بتجليه لكنه لديه ما يخفيه أيضا، وهذا ما يخدم أفق القراءة.
(كتابات) في المجموعة القصصية (ملكوت) قصة (العرض) تناولت فيها الجلاد وكيف أنه هاجس يؤرق ذات البطل.. حدثنا عن ذلك؟
- في قصة “العرض” استثمار للمسرحة، أعتقد أن المسرح والسينما والشعر.. فنون تليق بالقصة القصيرة المعاصرة وتعطي إمكانات هائلة للكتابة والتجريب. قصة “العرض” تحكي عن شخصية تمثل، تنتقد الجماعة والذات وتكتشف عن أكثر من دور للشخصية الواحدة في المسرح و الحياة.
إن لعبة المرآة تجعل الشخصية أمام الجمهور وأمام نفسها شخصيات متعددة، فلا تبقى الشخصية ثابتة بل هي انعكاس بمعنى ما لواقع منزاح ومنفلت، ينفضح ليعري الفرد/البطل كما تعرت الجماعة والسلطة. إن القصة هنا دائرة مغلقة تبحث لها عن كوة تطل منها على العالم، تحاول أن تقول أن لا أحد يهرب من المسؤولية. نحن نمثل والتمثيل يفضحنا جميعا ويفضح واقعنا. إنها قصة قصيرة تستفيد من العرضية لتحقيق النصية/القصصية، والعكس صحيح، فهي تنكتب أمام قارئ موهوب لا يقبل بقصة تقليدية.
(كتابات) تكتب القصة القصيرة والرواية.. ماذا تحقق لك الرواية ولم تحققه القصة القصيرة؟
- أعتقد أن القصة القصيرة خير تعبيرعن مجتمعنا العربي، إني أراها مثل الكثيرين أكثر فنية وإجرائية و صدقا وإيجازا وبلاغة واختزالا. وهي تصيب الهدف بطريقة أفضل لو أمكن لها أن تكتب بحرفية وصنعة على نار هادئة. إنها معجزة سردية علينا ككتاب قصة قصيرة أن نومن بها وأن نكون رسلا لها إلى القراء وهذا يحتاج إلى الكثير.
(كتابات) هل نحن في زمن الرواية وأفول نجم القصة القصيرة ولما في رأيك؟
- أنا كاتب قصة قصيرة، وعندما أحس بالعجز أحيانا عن كتابتها ألجأ إلى الرواية القصيرة أيضا. لست روائيا، أنا كاتب يشتغل على السرد الوجيز، والرواية هنا محض تجنيس على محك النقد والتجريب. لا أنكر أن روايتي “ممشى الياسمين”و “مشي أقل ” سمحتا لي بالتغيير في المساحة والشكل والموضوع، وقدمتا لي إمكانات فنية مغايرة خاصة أسلوب الحكي، أعتبرهما تجسيدا لما قلته بوعي أن الشعر دهشتنا ومن لا شعر له لا حكي له. أريد أن أكتب بطريقتي الخاصة أو لا أكتب، وهذا رأيي منذ البداية. و لهذا فالتفسير الممكن هو أن الكاتب باحث ومبدع طرائق للتعبير عن المجتمع و قضاياه.. ولذلك أنا أبحث في الأشكال.
(كتابات) قلت في أحد الحوارات “الفن أو الأدب رافد من روافد الصراع الطبقي الذي يجب أن يوظف حسب اللحظة التاريخية التي عنوانها الأزمة” اشرح لنا ذلك؟
- أعتقد أن الحديث عن الأدب والطبقية في الحوار الذي أشرت إليه يحتاج توضيحا. أظن أن المقصود بالجملة أن الأدب ليس ترفا ولا جمالا خالصا، إنه شكل من أشكال السلطة! وقد يكون نقيضها. إنه طرف في الصراع والأدب تعبير عن احتياجات مجتمعية إنسانية، تتعلق بالتصدي للقبح و للقهر، للحصار ولقيم السوق التي تطحن الإنسان وتحوله إلى سلعة وإلى مستهلك لا حول له ولا قوة ويتحول معها إلى آلة كسولة. الأدب لا يقبل بذلك وإن قبل بذلك كثيرون، الأدب باب من أبواب الجنة على الأرض.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في المغرب؟
- المشهد الثقافي بالمغرب منتفض، مبادر وممانع لكنه تعب، تعبه إحدى خصائصه الراهنة، إنه متشظي، يحتاج إلى اللحمة تجمعه حتى تتحول المبادرات الفردية والجماعية إلى مشروع حقيقي. هذا ينقصنا حقيقة، نحتاج إلى بناء مؤسسات ثقافية قوية تقبل الاختلاف وتدافع عن التنوع والانفتاح ولا تسقط في الولاءات و الزعامات والادعاءات.
(كتابات) هل انحسار دول الدولة في دعم الثقافة يؤثر بشكل مباشر عليها خاصة في مجال النشر؟
- النشر والتوزيع كلاهما صعب والثاني أصعب. الكتاب لا يصل إلى نقط البيع بطريقة ملائمة والقراءة في انحسار والنقد لا يواكب كل الأعمال الأدبية، كثيرة هي الإبداعات الجميلة التي لا يكتب عنها وهناك أشياء تحدث خارج الأدب. وأعتقد أن الدولة بمؤسساتها والقطاع الخاص والمجتمع برمته يجب أن يتحمل مسؤولية الكتاب، ورغم الثورة التكنولوجية والرقمية ما زالت مجتمعاتنا في حاجة إلى الكتاب الورقي وتشجيعه ودعمه وحمايته وإيصاله إلى بر الأمان بعيدا عن الابتذال والتمييع والتبخيس والارتزاق.
(كتابات) في رأيك هل تحولت الثقافة والأدب لسلعة في أيدي بعض تجار النشر؟
- ككل كاتب لدي هواجس ترتبط بالإبداع وبالفكر وبالمجتمع، بالسلطة وبالسياسة.. ولهذا أكتب. لا بد من وعي متقدم يصحح الأوضاع ويجعل العلم والمعرفة والأدب والفن قاطرات حقيقية للتنمية والتقدم والتغيير والنهضة والخروج من الخوف والاستكانة والرضى بالضعف والتبعية. لابد من إرادة قوية من الدولة والمجتمع.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب وما هو جديدك؟
- أنا أكتب، وهذا مشروعي.. أشتغل على مجموعة قصصية قصيرة جدا وأخرى عبارة عن قصص قصيرة.. أحلم برواية ثالثة قصيرة ورحلة طويلة جدا أتفرغ خلالها للقراءة.. أقرأ و أقرأ فقط.
قصتين لمحمد لغويبي..
الــــورق
“أعقاب سجائر مطفأة بعصبية اليد اليسرى المرتعشة، كأس ماء فارغة، تعلوها بصمات اليد اليمنى المترددة، بقايا أنفاس لاهثة تحول خواء الكأس إلى ضباب آدمي يفكر في الوجود واللاوجود، كرسيان متحاذيان متجاوران في الشكل واللون، قطعة سكر وصحن صغير أبيض ممتلئ قليلا برغوة فنجان قهوة بالحليب، وملعقة صغرى للتحريك المؤقت، طاولة حمراء مربعة تقف على أربعة أرجل، وكرسي أبيض من البلاستيك، مريح حيث أجلس الآن منهكا أنصت إلى تمزقي الخاص الذي اكتسبته مع الوقت، وأنا أقف وأنا أمضي وأنا أعمل أو أنام أو أجلس هناك أو هنا أو هنالك حيث هنا هـناك، وهنالك هناك وهنا… كنت هنا أجلس منهكا وقد ورثت للتو حمل الراحل عن المكان الذي استوطنته صدفة ذات مساء أبريلي متقلب يفيض بكذبات الربيع الإنساني المحتضر. لا أثر لأي عطر نسائي يلهيك عن حموضة الساعات الطويلة من الانتظار الممل… لا نصر في حرب خاسرة من البداية، ترك قبلي المكان ومضى، لم يعدم أدلة تشهد على خسارته في موقعة الربيع الأخير.
كنت هنا مكانه أشتم الرائحة من أعقاب السجائر المطفأة في نـهاية الـحوار، كان عنيفا، قطعة السكر على جانب الطاولة الأيمن، كانت على جانب الطاولة الأيسر، الكأس الفارغة من الماء لم تطفئ عطشه، آثارها على الطاولة، دوائر صغيرة تتكرر مرسومة على الصفحة الحمراء، بقايا رماد السجائر المتساقط أعلنت احتراقه الـمتـكرر، لا يأبه أبـدا للذين يصطادون فـي الـماء العـكر. صرخ في الداخل قبل أن يـرحل حاملا بقسوة محفظته المليئة بالأقلام والأوراق والشخصيات الغامضة والحكايات المبتورة والجمل المتشذرة…
خاض حروبا كثيرة خسرها كلها بسبب الإدمان، أدمن الورق، كان ورقه أبيض، وصار أزرق وانتهى رماديا كجذع شجرة يحترق هنا لك حيث لا أحد يقتطع من الوقت دمعة أو نفسا.
هنا أنتظر عودته كل يوم تقريبا، لا أستطيع تغيير الكرسي الذي كان يجلس عليه، أجلس أنا مضطرا على غير عادتي ومعي محفظتي التي أحن عليها فلا أكثر، أقل متحايلا على الوقت، أجادل وأدفع بالتي هي أحسن وأنا أقلب صفحات التاريخ علي أعثر على العثرات التي صاحبت موقعة الربيع كان هنالك يلعب الورق والقلم الأزرق في يدي، يدك، في يدي”..
المرآة..
بين نوم متعسر وصحو متلهف فضحتها غيمة متدلية من سقف حلم متبقي منتفض على كابوسها الأول… واجهتها المرآة بما يشبه المفاجأة الأولى، كانت بعض شعراتها تتراءى بيضاء كهمزة وصل بين الواقع والحلم… كم مرت من السنين على ذلك النعاس الذي حطبها كشجرة منذورة لشركة الأفران الحارقة؟ غطت رأسها خوفا من المرآة بما يشبه الضربة القاضية التي يتبعها ترنح فسقوط ثم غيبوبة… لم تكمل تمثيل الدور الساقط مع مرآة تنتحل شخصية نمطية مستباحة بالألغاز المحدثة بدينامية الوقائع الغريبـة الــمهجنة بكوكتيل الـمشاعر الحلوة والمرة إلى درجة الاحتباس الحامل للغثيان.
ألفت وجهها على قطعة الزجاج، أخيرا، مازالت بقية من مكر متعفن صالحة للجولة الثانية، بدت حقيقية وواقعية، لا أثر للسينما والأضواء، إنها فقط امرأة حذرة من تربص مرآة مشتعلة تخفي الذكريات وتحتـفظ بـها وعند الرهان أو لعب الورق تشهر السيف الحاد في وجه شيخ الطريقة أو شيخة القبيلة، ودون استئذان تستدعي بقية الجند لاستكمال الحصار ودك الأسوار فيأتي اقتحام القلعة على صخب وقص مجنون يبارك اللحظة بجنون أيضا… هنا أدركت اللعبة هي الأخرى، قفزت من مكانها كقطة هرمة متوحشة. وأصبحت أبعد ما يكون عن خط النار وقد أوشك على الانغلاق فيما يشبه الدائرة المحكومة وقد انزاحت المرآة في غفلة عن عيني المرأة التي أحست أن شيئا آخر يحل محل الزجاج… عندها فطنت إلى اللعبة الفنية المبتكرة، فجلست عند الباب المفتوح مانعة إياه من الانغلاق، ولم تعد تواجه بقية المرآة، أصبحت على تماس معها، وعلى نفس مستوى الخط. ربحت الجولة وخسرت المواجهة، وهي اللحظة التي ابتسمت فيها بعناد وهي تستعيد اسمها الذي كانت قد يئست من تذكره، فهي عائشة التي أمضت أربعين عاما متوجة على عرش الشاشة الفنية… إلى هنا كانت الساعة الحائطية تزف دقاتها، الواحدة تلو الأخرى حتى عدت اثنتي عشرة دقة… وعند الدقة الأخيرة كانت السيدة قد أغمضت عينيها نهائيا، أما المرآة فعادة مرة أخرى لتحتل المكان في انتظار زوار الليل والنهار.