رسالة إلى المغرضين وأصحاب الشبهات
وردت أخبارٌ كثيرةٌ وأقاويل عديدة من طوائف المشككين والمغرضين في شأن تأخُّر عليٍّ بن أبي طالب عن مبايعة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهما ـ وكذا تأخَّر الزُّبير بن العوَّام، وكان همهم الأول هو الطعن في خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه، وتشويه الصورة الجميلة للجيل الإسلامي الصحابيّ الأول، وتحقيق أهداف أخرى كثيرة، ولكن جُلُّ هذه الأخبار ليست بصحيحة إلا ما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: إنَّ عليّاً، والزُّبير، ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله (ص)، فقد كان انشغال جماعةٍ من المهاجرين، وعلى رأسهم عليُّ بن أبي طالبٍ بأمر جهاز رسول الله (ص) من تغسيلٍ، وتكفينٍ، ويبدو ذلك واضحاً فيما رواه الصحابيُّ سالم بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ من أنَّ أبا بكرٍ قال لأهل بيت النَّبي، وعلى رأسهم عليٌّ: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه.
وقد بايع الزُّبير بن العوَّام، وعليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنهما ـ أبا بكرٍ في اليوم التالي لوفاة الرَّسول (ص)، وهو يوم الثلاثاء، وقال أبو سعيد الخدريُّ: لمّا صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزُّبير بن العوَّام، فدعا بالزُّبير، فجاء، فقال له أبو بكرٍ: يا ابن عمَّة رسول الله (ص)، وحواريَّه، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟! فقال الزُّبير: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله! فقام الزُّبير، فبايع أبا بكر. ثم نظر أبو بكرٍ في وجوه القوم، فلم ير عليَّ بن أبي طالبٍ، فدعا بعليٍّ، فجاء، فقال له أبو بكرٍ: يا ابن عمِّ رسول الله (ص)، وختنه على ابنته، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟! فقال عليٌّ: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله (ص)! فقام عليٌّ، فبايع أبا بكرٍ.
وممَّا يدلُّ على أهمِّيَّة حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ الصَّحيح: أن الإمام (مسلم بن الحجا) صاحب كتاب «الجامع الصحيح » ـ الذي هو أصحُّ الكتب الحديثيَّة بعد « صحيح البخاريِّ » ـ ذهب إلى شيخه الحافظ محمَّد بن إسحاق بن خزيمة ـ صاحب صحيح ابن خزيمة ـ فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنةً، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بَدَنَةً فقط، إنَّه يساوي بدرة مالٍ .
وعلَّق على هذا الحديث ابن كثير ـ رحمه الله ـ فقال: هذا إسنادٌ صحيحٌ محفوظٌ، وفيه فائدةٌ جليلةٌ، وهي مبايعة علي بن أبي طالبٍ إمّا في أوَّل يومٍ، أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حقٌّ، فإنَّ علي بن أبي طالب لم يفارق الصِّدِّيق في وقتٍ من الأوقات، ولم ينقطع في صلاةٍ من الصلوات خلفه. وفي رواية حبيب ابن أبي ثابتٍ، حيث قال: كان عليُّ بن أبي طالبٍ في بيته، فأتاه رجلٌ، فقال له: قد جلس أبو بكرٍ للبيعة، فخرج عليٌّ إلى المسجد في قميصٍ له، ما عليه إزارٌ، ولا رداءٌ، وهو متعجِّل، كراهة أن يبطأ عن البيعة. فبايع أبا بكرٍ، ثمَّ جلس، وبعث في ردائه، فجاءوه به، فلبسه فوق قميصه.
وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فقال له: أشهِدْتَ وفاة رسول الله (ص)؟ قال: نعم. قال له: متى بويع أبو بكرٍ؟ قال سعيدٌ: يوم مات رسول الله (ص) كره المسلمون أن يبقوا بعض يومٍ، وليسوا في جماعةٍ. قال: هل خالف أحدٌ أبا بكرٍ؟ قال سعيد: لا. لم يخالفه إلا مرتدٌّ، أو كاد أن يرتدَّ، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه، وبايعوه. قال: هل قعد أحدٌ من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا. لقد تتابع المهاجرون على بيعته.
وأمّا عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ فلم يفارق الصِّدِّيق في وقتٍ من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعةٍ من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين.
ويرى ابن كثيرٍ، وكثيرٌ من أهل العلم: أنَّ عليّاً جدَّد بيعته بعد ستَّة أشهرٍ من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ وجاءت في هذه البيعة رواياتٌ صحيحةٌ.
أما الدعوى بأن بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت إكراهاً فهي دعوى زائفة باطلة ، صادرة عن مكابرة ظاهرة ، وعماية بالغة عن الحقائق المروية بالأسانيد الصحيحة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته – يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه – إلا سعد بن عبادة ، وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس ، لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له ، لكن قيل : علي تأخرت بيعته ستة أشهر ، وقيل : بل بايعه ثاني يوم ، وبكل حال ، فقد بايعوه من غير إكراه “.
وكان عليٌّ في خلافة أبي بكرٍ عيبة نصحٍ له، مرجِّحاً لما فيه مصلحةٌ للإسلام، والمسلمين على أيِّ شيءٍ آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكرٍ، ونصحه للإسلام، والمسلمين، وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة، واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجُّه أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بنفسه إلى ذي القصَّة، وعزمه على محاربة المرتدِّين، وقيادته للتحرُّكات العسكرية ضدَّهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرةٍ وخطرٍ على الوجود الإسلاميِّ، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لمّا برز أبو بكرٍ إلى ذي القصَّة، واستوى على راحلته؛ أخذ عليُّ بن أبي طالبٍ بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله (ص) ؟! أقول لك ما قال رسول الله (ص) يوم أحدٍ: لمَّ سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فو الله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظامٌ أبداً! فرجع.
فلو كان عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ أعاده الله من ذلك ـ لم ينشرح صدره لأبي بكرٍ، وقد بايعه علي رغماً من نفسه، فقد كانت هذه فرصةً ذهبيَّةً ينتهزها عليٌّ، فيترك أبا بكرٍ وشأنه، لعلَّه يحدث به حدثٌ، فيستريح منه، ويصفو الجوُّ له، وإذا كان فوق ذلك ـ حاشاه عنه ـ من كراهته له، وحرصه على التخلُّص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعله الرِّجال السياسيون بمنافسيهم، وأعدائهم.
مراجع:
علي محمّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص. ص (154 -157).
ابن تيميَّة، منهاج السُّنة، تحقيق محمَّد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، (8/232).
أبو الحسن النَّدوي، المرتضى سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الثانية 1419هـ 1998م، ص 97
صلاح عبد الفتاح الخالدي، الخلفاء الرَّاشدون بين الاستخلاف والاستشهاد، دار القلم، دمشق، الدَّار الشَّامية، بيروت، الطَّبعة الأولى 1416هـ/ 1995م ، ص 56
ابن كثير، البداية والنِّهاية، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ/ 1988م، (5/249)، (6/314، 315)
مجدي فتحي السيّد، صحيح التوثيق في سيرة وحياة الصدِّيق، دار الصحابة للتراث الإسلامي، طنطا، مصر ، ص 98
منصور الحرابي، الدَّولة العربيَّة الإِسلاميَّة، منشورات جمعية الدَّعوة الإِسلاميَّة اللِّيبيَّة، الطَّبعة الثانية 1396هـ 1987م ، ص (96، 97).