23 ديسمبر، 2024 9:57 م

لكي لا تصادر العصرنة تراثنا الشعبي

لكي لا تصادر العصرنة تراثنا الشعبي

لعل من قبيل التوافيق الإيقاعية أن تردني قبل فترة رسالة خدمة قصيرة في وقت متأخر نسبيا من مساءات احد الايام، من (الشيخ الدكتور حسين اليوسف المحيميد الزويد)، تحمل ابياتا جزلة من العتابة ، وأنا مضطجع في فراشي على قفاي، مطرق رأسي، ومغمض عيني في لحظة تأمل متمعنة لمشاهد ممجة من حياتنا المعاصرة، لا تمت بصلة الى تراثنا الشعبي الريفي،الامر الذي اقلقني كثيرا ساعتها على مستقبل تعاطينا مع التراث. لكن تلك العتابة بمضمونها الزاخر بالمعاني، بددت تلك الهواجس السوداوية من خاطري،ورسخت قناعتي بان التراث مازال له اهله. ونص العتابة يقول:

هلي لهيب العطية وجبر جدهم

أصايل من نسل كحطان جدهم

يلايم  بالعلا  موسوم  جيدهم

هلي عز المضايف والاحباب…..

 
ولما علمت ان هذا البيت الرائع من العتابة كان من نظمه،فقد  حفزني اعجابي بجزالته، للاستفسار منه عن الاسباب التي حملته لنظمه، والتغني بمكارم اهله بهذه الطريقة المؤثرة،لاسيما وانه من اعمدة القوم،وعلى درجة عالية من الثقافة بشقيها التراثي والمعاصر، ويحمل شهادة شهادة عليا،ومن ثم فهو ليس بحاجة للبوح بجاه أهله الوافر، والفخر بمكارمهم السخية، بعتابة جزلة السبك على هذا النحو المؤثر،مع ان في الشعر العربي الفصيح،وفي تراثنا الشعبي، فضاءا واسعا للتغني بمكارم الاهل،والفخر بمناقبهم.وقد استفز مخيالي سرده  الحكاية التي اوحت له نظم البيت،عندما روى لي ان احد زملائهم قد ارسل له عتابة في سياق الشكوى من توعك صحي، وتعب البال،الامر الذي هيج لواعجه،وأثار عاطفته في فترة متأخرة من هزيع ذلك الليل،فانثالت قريحته بهذا البيت من العتابة البليغة ردا على شكوى زميله، كمواساة وجدانية، لها اكثر من دلالة، عند كل قراءة لاحقة لها.

عندها فقط ادركت لماذا كنا يوما ما ،نتلمس في ما يرويه السمار لنا في المجالس العامة، من مأثورات تراث الراحل الاديب التراثي الحويحي، والملا ضيف الأحميد المصطفى،والأديب عبدالله الحسين الفرج،وشيخ الحمد،وحسين الغرب،وحمد الزخم،وغيرهم من ادباء الديرة، ممن لم تسعفنا الذاكرة بذكرهم..الكثير من المرموزات فيما تركوه من ثراث في نفحات التغني بمكارم الاهل،وحمولات الديرة، من عتابة، وزهيري، وكصيد، وحداء،زاخرة بمناقب الكرم،والشجاعة، والمروءة، وغيرها من تقاليد الديرة الحميدة، مما يستحق ألالتفات، ويقتضي التوثيق حقا، كي يبقى عالقا في الذاكرة الجمعية الشعبية للديرة ، اذ لاشك ان الاكتفاء بالاتكاء على مجرد تداول ذلك الموروث عنهم بالمشافهة، سيعرضه للاندثار، والنسيان بالتقادم مع مرور الزمن..وخاصة بعد رحيل الرواة العمالقة،مثل الاديب المعروف ابراهيم الحميد،والأديب ابو احمد (محمد حميد)،ومحمد العبيد الضاحي، وغيرهم من الرواة، وخفوت وهج التعاطي معه بسبب العصرنة، وتفشي وسائل الاتصال السريع، وشيوع الفضائيات،وانبهار البعض بمعطيات الحداثة،في حين ينبغي ان يظل التراث بما هو تراكمات (حسية واعتبارية)متواترة،من أبرز ملامح هوية الكيان الاجتماعي، الحاضن له، قبيلة كان هذا الكيان،أم شعبا أم أمة، بما يجعله بمثل هذه المقاربة، لوحة فنية، رسمت الأجيال المتتالية ملامح هويتها عليها،لكي تعرض للجيل المعاصر صورة حال الأجداد بكل أبعادها، الاجتماعية، والثقافية ، والمعيشية،وتحفزهم للتواصل معها.

ولأن حركة الحياة قائمة على قانون حتمية التطور المستمر، فإن الموروث الشعبي كان لابد أن تطاله آثار هذا التطور، وتنعكس عليه ملامح التغيير بمفاعيل الزمن، والسياق الحضاري،شأنه شأن بقية مظاهر الحياة،حيث يتشكل فضاء معاصرة اللحظة التالية للتغيير، بحيث تكون لكل عصر بالضرورة ملامحه الاجتماعية، وإذا كان من الصعب منع تأثير عوادي الزمن على التراث، لأنه انسياب فيزيائي موضوعي خارج السيطرة المجتمعية، إلا أن التأثير فيه إيجابيا ضمن سياق حضاري معين، لصالح الحفاظ الوقائي على بصمات التراث، ينبغي أن يظل نزوعا انسانيا حضاريا هادفا، يؤصل للخصوصيات الشعبية عند كل من يعنيهم الأمر، لان التراكم التراثي لأي مجموعة كانت، يواجه تحديات الاختراق بزحف العصرنة للأسباب المذكورة، إضافة إلى تحديات المسخ بالغزو الأجنبي، عبر ثقافة الهيمنة المعولمة.

ولكي يبقى الموروث التراثي منسجما مع الذات الشعبية الجمعية التي أبدعته، في تراتبية توافقية مع الجيل الصاعد، ويبقى متوازنا مع العصرنة في ذات الوقت دون ان ينسلخ عنه، ولاسيما في حركة انسياب منتجاته المادية من التراث المعماري،والأكلات التقليدية،والحرف الموازية، والأزياء الشعبية، وادوات العزف، بالإضافة للصور الاخرى المرافقة لها من العتابة ،والكصيد، والزهيري، وغيرها، فإن عليه أن يتشبث بخصوصية التراث في اطار سياقه الحضاري عند استخدامه معطيات العصرنة، وبأعلى درجات الانتفاع الواعي بها، لكي يتمكن من اختزال تأثيرات الضياع، وتداعيات الاستلاب المتوقعة على موروثات التراث الى اقصى حد ممكن، بحيث لا يسمح ان تسلبه العصرنة شخصيته، وتنتزع منه هويته تحت اية ذريعة.

لذلك يتطلب الأمر ألانتباه إلى مخاطر المسخ بتحديات العصرنة، الذي ما انفكت تتركه على هوية التراث، بتسفيه العادات،والتقاليد الحميدة، بقصد مسخ صورتها الإيجابية من خلال ألادوات المعاصرة للهيمنة، لاسيما بعد أن فتح الفضاء المعلوماتي بقنواته الفضائية، وشبكة الإنترنت، والهاتف النقال، الباب على مصراعيه، أمام الغزو الأجنبي للدخول إلى البيوت بدون استئذان، ليؤسس لثقافة جديدة، وعادات جديدة، ومصطلحات جديدة غير مألوفة باتت محل تداول عام، سيكون لها بالطبع أثر كبير على تغيير سلوك الجيل، الذي بدأنا نلمس جنوحه صوب الانسلاخ التدريجي من سيطرة البيت،والتفلت من ضوابط المجتمع بشكل واضح، والانزياح في نفس الوقت خارج حدود فضاءات سيطرة الأب والأم، بمسارات غريبة عن المألوف من الموروث الاجتماعي، حيث تفاقمت فجوة الجيل مع غزو العصرنة بشكل مقلق، يهدد بتفكك قيمي واجتماعي، يقود إلى الضياع والاستلاب المحقق في الأفق المنظور، مما يؤدي بالمحصلة إلى مسخ الهوية، وقطع التواصل الحركي مع التراث.

فعلى سبيل المثال لا الحصر،خفت وهج التعاطي مع القهوة العربية في واقعنا الراهن،واضمحلت مجالس السمر في الدواوين،وشاع هوس البعض بثقافة العصرنة،وساد التبجح بمعطيات الحداثة،واندثرت روحية الفزعة، وأوشكت الربابة الالة الموسيقية التراثية بما هي موروث شعبي عريق على الانقراض تماما، حيث كانت حتى فترة تمتد الى بداية الستينات من القرن الماضي  حاضرة بشكل بائن في الغناء الشعبي الريفي،وخاصة عند اداء العتابة،اذ اضفت عليها طابعا مؤثرا بنغمها الحزين، الذي غالبا ما يحرك العواطف الشعبية،ويثير الاشجان،فكانت علامة فارقة في مسيرة التراث الغنائي الشعبي،الى غير ذلك من التداعيات التي يطول سردها في هذا المجال. 

لذلك فان الدعوة الى حماية التراث الشعبي الريفي، ورصد تاريخه، وتتبع اثاره، والمحافظة على ما تبقى منه،ينبغي ان تكون صرخة مخلصة لكل من يعنيه امر الحفاظ على التراث،من اعمدة القوم،والكتاب، والمفكرين، والمربين،وغيرهم، لغرض العمل بشكل جاد ،لحماية موروثنا الشعبي بكل الوانه،من مخاطر الضياع،والانقراض،والمسارعة الى تدوينه،وتوثيق ما تبقى منه من اثار،وتشجيع الجيل على استلهام ملامحه المتاحة، قبل ان تأتي عليه عوادي الزمن،وتداهمه ايقاعات التغيير، بفعل عوامل ومتغيرات الحداثة، وتحديات العصرنة، وأعاصير العولمة الجارفة،بما تمتلكه من عناصر تأثير فعالة تهدد هذا الموروث بالإقصاء عاجلا ام اجلا.