17 نوفمبر، 2024 2:30 م
Search
Close this search box.

التجذر بدل الاقتلاع عند سيمون فايل

التجذر بدل الاقتلاع عند سيمون فايل

“لا معنى للقول بان للبشر حقوقا من جهة وواجبات من جهة أخرى فهذه الكلمات لا تعبر سوى عن فروقات في زاوية الرؤية”1[1]

يبحث الاجتماع البشري اليوم أكثر من الأمس عن تدبير أوجه الاختلاف والتنوع وتروي للقيم والأدوات وتطبيق للفضائل على الصعيد الكوني وتنقية للرذائل وتطهير من الشرور وعلاج من الأسقام ويمسك نفسه عن مواصلة الفكر الانغماس في التأمل النظري والجدل العقيم حول الغايات المطلقة والأهداف الكلية.

في هذا السياق تضع الفلسفة المعاصرة الواجب والطاعة والنظام والأمن في سلم أولوياتها بالمقارنة مع الحق والحرية والحقيقة والتملك وتبحث في الأسباب التي دفعت العولمة الاختراقية إلى ممارسة الاقتلاع وتحاول إيجاد أرضية من أجل التجذر وتمهد لإعلان الواجبات تجاه الكائن والمسؤولية عن مستقبل الحياة بدل الدوران حول مدونة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن وإهمال التزامات البشر الأساسية.

لقد تفطنت سيمون فايل1909 -1943 إلى أهمية دراسة الوضع البشري زمن الاجتياح النازي للعالم أثناء الحرب العالمية الثانية وطورت نظرتها النقدية للراهن إلى اعتراض على الاستعمار الغربي للشعوب الضعيفة ونددت بممارسات الاقتلاع التي انتهجتها في البلدان المستباحة وللأراضي التي استغلت ثرواتها وأعلنت أن: الإنسان حينما يكون وحيدا في العالم لن يحوز على أي حق وإنما تُفرَضُ عليه مجموعة من الواجبات وينبغي عليه أن يبادر بتحمل المسؤولية وأداء جملة من المهام قصد الدفاع عن سيادة وطنه2[2].

فماهي الدواعي التي دفعت إلى تفشي مرض الاقتلاع؟ وماهي عناصره ومكوناته؟ وهل يمكن معالجته والرد عليه؟ وكيف يمثل التجذر الحل الجذري على هذه الآفة؟ وماهي الشروط التي تساعد على تمتين عملية التجذر؟ كيف يمثل إعلان الواجبات تجاه البشر خطوة هامة؟ والى أي حد يقدر الكائن على تحمل واجباته ومسؤوليته تجاه ذاته؟ ولماذا يطلب من الإنسانية تقديم النظام والأمن على الحرية والحقوق؟

إذا كانت الحقوق والواجبات تعد من ضمن حاجات النفس البشرية فإن تلبيتها وتحقيقها لا يمكن التخلي عنها للدولة من جهة عقلها السياسي وممارستها للسلطة عبر أجهزتها التشريعية ومؤسساتها التنفيذية وإنما تظل من مشمولات الكائن البشري في وجوده الفردي وفي وجود الجماعي ومطالب بالجد للحصول عليها.

1- عوامل الاقتلاع ومخاطره:

” الاقتلاع مرض من أمراض المجتمعات البشرية اخطر بكثير لأنه يزداد من تلقاء نفسه”3[3]

الاقتلاع ضد التجذر ويتم عند الغزو والاجتياح والاستعمار والتهجير والاحتلال والاختلاط والخضوع والاعتقال والسجن والهرب والضياع ويبلغ درجته القصوى لما يصير إلغاء وحشيا لجميع المقومات.

إن الاقتلاع مرض يصيب الكائن البشري وينتج عنه ضياع البوصلة وفقدان المنابت والانقطاع عن الجذور والحياد عن المبادئ والطمع في المال والجاه والسلطة والشهرة والسيطرة والتأثر بالأجنبي4[4].

يصيب هذا المرض الفتاك طبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والسياسيين وقد يصل إلى حد الفتك بالأمة بأسرها ويهدد مستقبل التعايش بين البشر والسلم الأهلي ويقضي على قيم التعاون والألفة والمحبة بينهم.

الاغتراب الذي يحدث للطبقة العاملة هو شكل من أشكال الاقتلاع ويظهر ذلك في ابتعادها عن تحقيق أهدافها وبروز النزعات الأنانية والمصالح الضيقة وانغماسها في تلبية حاجياتها الجزئية وإهمالها الكليات والحقوق الأساسية وتغاضيها عن الشأن العام وابتعادها عن ممارسة دورها الطليعي في قيادة المجتمع.

إن عوامل اقتلاع الطبقة العاملة من محيطهم الاجتماعي عديدة ويذكر نظام الأجرة وشراء الذمم بالمال بوصفه منظومة مراقبة وتحكم والتهديد بالطرد والتسريح كشكل من أشكال المعاقبة والإحالة على البطالة.

زد على ذلك تخضع الطبقة العاملة أثناء أوقات الفراغ والترفيه والتسلية وعن طريق وسائل الإعلام إلى عملية توجيه وتحكم تسمى التثقيف العمالي وتكون وظيفتها التنميط والدمغجة بغية قبول بروباغاندا السلطة والامتثال لسياسة الأمر الواقع والاستهلاك وتقليل أفعال الرفض والتمرد والإضراب والمطالبة بالحقوق.

إن تثقيف الجماهير هو نوع من التعميم الذي تخضع له المبادئ وتبسيط الأفكار الجيدة وتسطيح الوعي ودفع الناس إلى ترديد مقولات فارغة وتكرار عبارات جوفاء وترغيبهم في التقليد وتنفيرهم من الإبداع.

السبب الثالث الذي يؤدي إلى الاقتلاع هو الاستعباد الذي تتعرض له الطبقة العاملة من طرف مالكي وسائل الإنتاج وذلك عن طريق شراء الزمن وإطالة فترة الشغل وتوريط العمال في فخ الملكية الخاصة عن طريق الاقتراع وتيسير شراء بعض الأشياء الفاخرة مثل المنازل والسيارات والرحلات والملابس.

لذا يعطل الاقتلاع لدى العامل كل رغبة في الإصلاح ويشل كل إرادة نحو التغيير ويحبط كل حركة إعادة بناء ويختزل حياته في سلسلة مقيدة من الواجبات والفروض التي يؤديها تجاه السادة بتفاني وإخلاص.

كما يتحول العامل بسبب الاقتلاع إلى مستهلك يرى في الاقتناء مصلحة فريدة ولا يشعر بكرامته إلا عند التسوق ويجعل من المتعة المادية عند الأكل والشرب والملبس والتنزه وسائل تحقيق السعادة الدنيوية.

اقتلاع الفلاحين من حقولهم وإجبارهم على ترك أراضهم تحت مسميات إقامة السدود على الأنهار وتشييد البحيرات والانتزاع للمصلحة المشتركة من أجل شق الطرق الحديدية وبناء الجسور والمحولات وإحداث الأحياء الراقية والمناطق الحضرية وتجهيز العمارات الشاهقة هو شكل مهين من الاحتقار وإلقاء بهم إلى المجهول وتركهم يكابدون البؤس والشقاء ولا تكفي التعويضات المالية التي تمنح لهم لكي ترمم معنوياتهم المنهارة وتجبر خواطرهم المجروحة ولا تمثل المقابل المعنوي الذي يمكن أن يضمن لهم حياة كريمة.

بيد أن أخطر أنواع الاقتلاع هو ذلك الذي يقوم به الاستعمار أو الاستبداد مع الأمة حينما تتعرض دولة معينة إلى اعتداء همجي على أراضيها والى عدوان سافر على مجالها الحيوي ويتم التنكيل بمواطنيها والسطو على ثرواتها وتفكيك أجهزتها السيادية وتهجير سكانها وتدمير الإنتاج وتعطيل استقرار الوطن.

يؤدي الاقتلاع الجغرافي للجماعات من الأقاليم التي كانت تسكن فيها وترحيلها إلى أقاليم جديدة إلى انتزاع الناس من بيئتهم الجغرافية الطبيعية وقطعهم عن ذاكرتهم وإخفاء المعنى المشترك الذي كان يجمعهم في قراهم ومدنهم وحقولهم ومعاملهم وإضعاف الروابط الأسرية التي كانت تشدهم وتحويلهم إلى غرباء جدد.

لعل الخطورة الكبيرة من الاقتلاع الجغرافي تكمن في إضعاف الشعور بالانتماء للوطن والأمة وانقطاع التسلسل الزمني بين الماضي والحاضر وصعوبة الاستمرار في الزمن في اتجاه المستقبل بنفس الكيفية.

إذا كان علاقة المرء بالدولة باردة بسبب الإقصاء الذي يتعرض له من أجهزتها والاستبداد الذي تمارسه عليه فإن ضعف مشاعر الانتماء ناتج عن فقدان الثقة في مفهوم الوطن والتلاعب بالتضحية الطوعية في سبيل بقائه واستمراره واستغلال الشعور الوطني في اتجاه تكريس الحكم المطلق ومطالبة الناس بالاستلام والإخلاص المطلق للحكام والكف عن المقاومة والسعي المستمر نحو التحرر والتشبث بالسيادة الوطنية. يصعب أن يظل المرء مخلصا دوما “والدولة شيء بارد لا يمكن أن يُحب لكنه يقتل كل ما يمكن أن يُحب ويلغيه، وهكذا نحن مجبورون على حبها، لأنه ليس هناك غيرها. هذا هو العذاب النفسي لمعاصرينا”5[5].

والحق أن العرق الأبيض يعاني من عيب رباعي يتكون من مفهوم خاطئ عن العظمة وانحطاط الشعور بالعدالة وعبادة المال وغياب الإلهام الديني ولا يمكنه النجاة من هذا العيب مادام يختبئ ولا يعترف به[6].

كما يعد مفهوم الشعور بالعظمة من أخطر العيوب على البشرية ويمثل صدمة مدوية وينطوي على الكثير من الكذب على الذات والحكم المتحيز والاستعلاء ويؤدي إلى الوقوع في التعصب ويتعمد ارتكاب الجرائم ويخلف عدة ضحايا ويتيح السقوط وتأنيب الضمير ويتبني رؤية فاشية للتاريخ تكرس فوقية وسيادة شعب ودونية شعوب أخرى وممارسة السخرية والتهكم من المجتمعات المحافظة والشعوب التراثية المهزومة. قد يترتب عن الاقتلاع فقدان الذاكرة الفردية وترك الماضي الجمعي وضياع التراث الرمزي وحصول مأساة إنسانية كبرى بخسارة النقاط النيرة والمكاسب المدنية التي راكمتها البشرية من خلال مثابرة عملية.

لقد تفشى تحقير الحياة الحزبية وعمل المؤسسات ولقد “كانت كل لعبة المؤسسات السياسية محط كراهية وسخرية وازدراء. حتى إن كلمة سياسة نفسها قد أثقلت وشحنت بمعنى تحقيري شديد لا يصدق على الديمقراطية. أنه متعاطي السياسة، كل هذا من قبيل السياسة، كانت هذه الجمل تعبر عن إدانات قطعية.”6[7]

إن غزو السلطة المطلقة للشعوب يشكل الظاهرة الشمولية للدولة ويلحق الضرر بالناس وينتج المصائب ويضع الناس في حالة الوهن والحاجة ويتآكل الجوهر الأخلاقي للبلد وتضعف مدخراته المادية والرمزية.

زد على ذلك تزيد التطبيقات التقنية للعلوم في مجال الصناعة في درجة الاقتلاع ويتجلى ذلك في الإضرار التي تحدث للطبيعة نتيجة الإفراط في الاستغلال وتغليب المنطق العقيم للتخصص على الإلمام بالكليات وممارسة التجريب على الجسد الإنساني وانتهاك الكرامة والاعتداء على الحياة في مستواها العضوي.

” بصورة عامة فإن الأخطاء الأخطر، الأخطاء التي تشوه كل الفكر والتي تهلك النفس وتضعها خارج الحق والخير هي أخطاء لا يمكن تمييزها لأن سببها هي بعض الأمور تستعصي على الانتباه”7[8]. لقد أدى الاقتلاع إلى الهجوم على العمل وتخريب نظام الإنتاج وإفساد المشاعر الإنسانية وتحطيم العقل وإفقار الأفكار من قدرتها التغييرية وتلويث قيم النزاهة والتضحية والإخلاص وتعطيل الانتماء والتجذر والانحياز والاندراج والتناغم والتسبب في حدوث إخفاقات وتصدعات في العالم وتمزيق للروابط التي كانت تشد الإنسان إلى طبقته ومجتمعه وتراثه ودولته ووطنه وأمته وعالمه والإكثار من الخداع والاحتيال والانحطاط والاستبداد والوحشية وإفراغ الوجود الاجتماعي من القيم الأصيلة ومضاعفة البؤس المادي والاختناق الروحي والخنوع والاستسلام، وإفساد الحياة السياسية وشيطنة الدولة واتهام القوانين بالجور.

لقد بلغ مرض الاقتلاع في الوضع البشري بفعل الحرب الاستعمارية من الشدة والتأزم بحيث جعل كل كائن انساني يخاف على مستقبله وكل شعب معين يخشى من النفق المظلم الذي يهدد مصيره ويزعزع نسيجه المجتمعي وقضم جذوره الروحية وجعل التعلق بالوطن يضعف ويقل الأمل في التحرر من الشر.

بطبيعة الحال ضاعف الاقتلاع من معاناة الطبقة العاملة وبؤس الشعوب المهزومة وزادت الدعاية في الاغتراب وفقدان الهوية والانشغال عن الجوهري والعاجل في ترتيب الأوضاع وصار يلزم الكف عن معاقبة الآخرين بالزيادة في حركة الاقتلاع وإجراء تسويات تتيح لهم إمكانية التحرر باستعادة جذورهم.

غاية المراد أن ” الاقتلاع هو مرض من أمراض المجتمعات البشرية أخطر بكثير، لأنه يزداد من تلقاء نفسه. وليس للكائنات المقتلعة اقتلاعا حقيقيا سوى سلوكين ممكنين، إلا ما ندر: إما أن تسقط في عطالة نفسية معادلة تقريبا للموت مثل غالبية العبيد في عصر الإمبراطورية. وإما أن تندفع في نشاط ينزع دائما إلى أن يقتلع، بالطرق الأعنف غالبا، أولئك الذين لم يقتلعوا بعد أو اقتلعوا جزئيا”8[9]. فما المطلوب من الفلسفة القيام به بصورة عاجلة من أجل إيقاف حركة الاقتلاع ؟ وكيف يمكن الاتحاد حول حب الوطن وتأسيس شروط اندماج متناغم للإنسان في كلية متوازنة تحقق التجذر وتصون السيادة والكرامة ؟

2- شروط التجذر ومزاياه الإيتيقية:

” إذا كانت العدالة راسخة في قلب الإنسان فإن لها حقيقة في هذا العالم”9[10]

يمكن مساعدة الناس على الاعتزاز بدوائر الهوية ومنابت الذات وتقوية مشاعر الوطنية واحترام سيادة الدولة والشعور القومي والإخلاص للأمة بنبذ الدعاية والتعصب وإلقاء الهام في الشعب عبر دفع الفلسفة نحو شحذ العزائم وترك منافذ يمر منها هذا الإلهام واعتماد وسائل متاحة وصياغة حلول جزئية خاصة بالمشاكل العملية لوضعنا وليس حلا عاما يكون بعيدا المنال وإعادة تشغيل آلات العمل ضمن النشاط العالم وإقامة شكل من السلطة يظل مرغوبا فيه وتعتمد على إدارة منظمة للمجتمع وتشجع على التربية الوطنية.

تحاول فايل إلقاء الهام في الشعب يؤسس لمقاومة بطولية للمهزومين عبر إعادة تعريف السياسة الواقعية ويبني شكلا من السلطة المقبولة تعتمد على تربية هادفة تسعى إلى تغيير ظروف العمل المنتج وتجدد روح الإيمان وتنظم المجتمع بصورة محكمة وتطلق حركة فنية إبداعية تعمل على إشعال قناديل أخلاقية راقية.

يمكن المراهنة إذن على التربية والعمل والثقافة والفن والإيمان والحياة من أجل زرع قيم الحقيقة والعدالة والمحبة والعفو والتسامح والتحضر في الوجود الاجتماعي وبلوغ النماء الروحي والتقدم المادي ورفع التناقض في الفلسفة بين المقاربة العلمية والمذهب الإنساني والجمع في السياسة بين العلمانية والراديكالية.

لا يمكن التخلص بالأقوال والحدود الدنيا من الفضائل من هول الفظاعة وظلامية التعصب والعبودية وكل الأعمال الوحشية التي تشير إلى عودة عصر اللاإنسانية على غرار الكراهية والتعسف والقتل والإساءة التي تدمر الكنوز الروحية للذات وتخترق اللامبالاة وتدنس الخيرات وتزرع الشرور وإنما بالقيام بالأفعال البطولية التي تجهز على خرافة التقدم لكونها كذبة كبرى أخفت الدوافع الحقيقية للتحضر والأنسنة والنماء.

لا يتم الإخلاص للدولة باقتلاع الأقاليم وتحطيم الحياة المحلية وتفجير الحرب المدمرة تحت حماسة السيادة القومية بل يكون بالوفاء للثورة وإيجاد شيء حقيقي في مسيرة الوحدة وإضفاء النور والسكينة على الحياة.

يتم التعويل على التربية والتعليم عند كل توتر روحي تعرفه الشعوب وأزمة أخلاقية تمر بها المجتمعات وذلك بحكم الدور التثقيفي الذي يمثله هذا القطاع في مجال تهذيب الإنسان وتنمية الملكات الروحية للكائن.

اذا كانت التربية تهتم بإثارة الدوافع من اجل تزويد الفعل بالطاقة اللازمة وتوجيه الآخرين نحو التطبيق فإن التعليم يحدد الأشياء المفيدة والأدوات اللازمة والفضائل الخيرة التي ينبغي استخدامها واستهدافها.

بيد أن الوسائل التربوية مطالبة بتفادي الوعد والوعيد وما ينتج عنهما من تخويف وترهيب وممارسة اللين والنصيحة والتعبير والتنظيم والترغيب والاحتذاء بالقدوة والانقطاع عن الزجر والتأديب والسيطرة والقوة والمراهنة على المجادلة الحسنة واللغة البليغة والخطاب الواضح والكلمة العلنية والاتصال المباشر. أما شروط تخليص العمال من المخاطر المنجرة عن إدخال الآلات إلى الحياة المهنية فتقتضي القيام بالتأهيل الفني بغية المواكبة والرفع من قيمة المهارة واستعمال الآلات دون إنهاك وتخليف أضرار بدنية ونفسية.

لكن ما الطريق لتمتين العلاقة بين الإنسان وبيئته الاجتماعية ومحيطه الثقافي وتقوية المشاعر الوطنية؟

3- إعلان الواجبات تجاه الحاجات:

” ليس هناك من طريقة أخرى لمعرفة القلب البشري غير دراسة التاريخ مضافا اليها خبرة الحياة بحيث تضيء كل منهما الأخرى”10[11]

إن للنفس حاجات ينبغي تحقيقها مثلما للجسد رغبات يسعى لتلبيتها، وتتوزع هذه الحاجات بين المطالب الحيوية والمعنوية بين الحياة الفردية والاجتماعية وبين العالم الباطني والخارجي وبين الواجبات والحقوق.

في هذا الإطار تقوم سيمون فايل بترتيب الأوليات أثناء دراسة الحاجات النفسية وتقدم بالواجبات على الحقوق وتخلص الحاجات من النقائص والأهواء والنزوات لأنها رغبات عرضية وتركز على الجوهري.

– يحتاج الإنسان أولا إلى النظام بغية القضاء على الفوضى والتعارض والعنف وتبسيط المشاكل وتحقيق الانسجام. “هذا النظام هو أولى الحاجات بل هو فوق الحاجات بكل معنى الكلمة”11[12].

– يحتاج الإنسان ثانيا إلى الحرية كإمكانية حقيقية للاختيار الفردي ضمن الحياة الجماعية وفق قواعد المنفعة العامة وتشترط العزيمة الصادقة وتوقي الطيش واللامبالاة واللاّمسؤولية والإمساك عن إيذاء الآخرين والإضرار بالمصلحة العامة. ” الحرية غذاء لا غنى عنه للنفس البشرية”12[13].

– يحتاج الإنسان ثالثا إلى الطاعة من حيث تعبر عن موافقة واعتراف دون أن تتحول إلى خضوع واستسلام وعبودية وتفترض احترام القوانين القائمة والقادة والمسؤولين والحكام. “الموافقة وليس الخوف من العقاب والطمع في الثواب تشكل في الواقع الحافز الرئيسي للطاعة”13[14].

– يحتاج الإنسان رابعا إلى المبادرة وتحمل المسؤولية والالتزام التام بها وبذل الجهد قصد تخطي حالة العطالة واتخاذ القرارات المناسبة في المشاكل وجلب المصالح لكي يشعر بالفائدة من وجوده وبالقيمة. ” تصل حاجة المبادرة عند أية شخصية قوية قليلا إلى درجة حاجة القيادة”14[15].

– يحتاج الإنسان خامسا إلى المساواة التي تقوم على الاحترام والتقدير الذي يمنح من خلال الاعتراف العلني والعام والفعلي بقدره الذاتي ويتم التعبير عنه من طرف المؤسسات والأعراف. إن المساواة ليست التكافؤ في الفرص ولا التناسب والتوازن ولا تتوافق مع الاختلاف بل تقتضي توفر مؤشرات خاصة بكل ظرف و”المقدار نفسه من الاحترام والتقدير لكل كائن إنساني”15[16].

– يحتاج الانسان الى احترام التراتبية والاعتراف بالدرجات الوظيفية وإخلاص المرؤوسين الى الرؤساء والشعور بالواجب تجاه المسؤولين بغية تحقيق الاستقرار وطاعة رموز السلطة دون الوقوع في تقديس الأشخاص والرهبة من سلطتهم. لكن ” تقتضي التراتبية الحقيقية أن يعي الرؤساء هذه الوظيفة الرمزية ويعلموا أنها الموضوع الشرعي الوحيد لإخلاص مرؤوسيهم”16[17].

– الشعور بالشرف حاجة إنسانية والشرف أمر حيوي في الحياة يمنح الكائن البشري الشهامة والهيبة والاحترام لمجرد كونه إنسان ولأنه له علاقة باعتبارية الكائن البشري ويستمد المرء شرفه من تراثه المتضمن في الماضي ومن الاعتراف العلني بقيمته ويحميه من الاضطهاد الاجتماعي والحرمان الكامل من التقدير ويبطل اكتسابه الازدراء والتمييز والاستعمار. ” يجب على الجريمة وحدها أن تضع الكائن الذي يرتكبها خارج الاحترام الاجتماعي ويجب على العقاب أن يعيده إليه”17[18].

– يحتاج الإنسان إلى العقاب مثل حاجة المريض إلى الدواء. يكون العقاب أولا تأديبيا يمثل ضمانا ضد حالات الضعف ويتطلب دعما خارجيا من أجل مقاومتها ويتجلى ذلك في النظام التربوي.لكن يوجد نوع ثان من العقاب هو العقاب الجزائي الذي يناله المرء على جرائمه وتعديه على حقوق الناس وإخلاله بالواجب ووضع نفسه خارج شبكة المعايير التي تنظم الحياة الاجتماعية. “لا يكون هناك عقاب إلا إذا رافق الألم في لحظة ما في الذاكرة وحتى بعد فوات الأوان شعور بالعدل”18[19].

– يحتاج الإنسان إلى حرية الرأي لتلبية حاجة النفس السليمة ولا ليشبع فقط العقل وليفرق بين حرية التعبير وحرية المشاركة. فإذا مثلت حرية التعبير الكاملة واللاّمحدودة عن أي رأي كان وبدون قيد أو شرط أو تحفظ فإن حرية المشاركة ليست حاجة بل وسيلة للممارسة الحياة اليومية19[20].

– يحتاج الإنسان إلى الأمن بغية التخلص من العديد من الأمراض والصعوبات التي تهدد حياته مثل العبودية والاجتياح والقمع وكل بلاء لا تتحمله الطاقة البشرية. “ويعني الأمن عدم وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب، إلا إثر اتفاق ظروف عرضية ولفترات نادرة وقصيرة”20[21].

– يحتاج الإنسان إلى المجازفة بغية التخلص من الضجر الذي يشل إرادته وتشكل حافزا على الفعل وتتضمن جانب من اللعب والواجب يحميه من الخوف والرعب وتتيح له تجاوز ضعف الإرادة وذلك بالانتصار على الخوف والمخاطرة. إن”المجازفة هي خطر يثير رد فعل مدروس”21[22].

– يحتاج الانسان الى التملك بصورة خاصة وأيضا الى تقاسم بعض الممتلكات العامة مع غيره من الناس: تشعر النفس بالعزلة والضياع اذا لم تشعر بأنها محاطة باشياء تضع عليها يدها ولذلك فإن كل إنسان ميال إلى أن يمتلك بالفكر ما يستخدمه في العمل وما يتمتع به من ضرورات الحياة اليومية. “فإذا كانت الملكية الخاصة معترفا بها فهذا يعني إمكانية جميع الناس في امتلاك شيء آخر غير أشياء الاستهلاك اليومي”22[23] وتشمل المسكن والأرض وأدوات العمل، فإن الإنسان يحتاج إلى الشعور بالملكية من خلال المشاركة في الممتلكات الجماعية وفق حالة ذهنية وليس عن طريق أحكام قانونية في التملك. ” حيثما تكون هناك حياة مواطنية حقيقية يشعر كل فرد بأنه يمتلك شخصيا الصروح العامة”23[24].غير أن الملكية المشتركة لا تمنحها الدولة فقط للأفراد ضمن الوجود السياسي وإنما تؤمنها أيضا الجماعة البشرية التي ينتمي إليها المرء ضمن الوجود الاجتماعي والمهني. “إن المعيار الحقيقي للملكية هو أنها شرعية بمقدار ما تكون حقيقية”24[25].

– يعتبر حب الحقيقة من أقدس الحاجات التي يلتزم بها الإنسان يبقى وفيا لها وترتبط بالصدق في القول والإخلاص في العمل أثناء التثقيف الذاتي والإنتاج الصحفي والعمل القضائي والشغل المهني وتتجنب فداحة الأخطاء سواء في كتابة المؤلفين أو أثناء قراءة المتلقين ويطلب من العامل التفاني ومن الكاتب الأمانة ومن القاضي الاستقلالية ومن المثقف الالتزام ومن الصحفي النزاهة. ضمان تعود الناس على حب الحقيقة يتم بالتربية الروحية.إذ “ليس هناك من إمكانية لتلبية حاجة الحقيقة عند شعب إذا لم نتمكن من العثور لأجل تلبية هذه الغاية على أناس يحبون الحقيقة”25[26].

جملة القول أن الشروط اللازمة للتجذر هي إتباع النظام في الحياة الاجتماعية وقاية من الفوضى ودون الوقوع في التعارض مع العالم الخارجي والتبعية التامة لقيود المجتمع، ثم تمتع الكائن البشري بإمكانية الاختيار الحر دون الإضرار بالمصلحة المشتركة وبلا تعد على حرية الآخرين، بعد ذلك تأتي طاعة القوانين دون الوقوع في العبودية وبالموافقة الداخلية على القيادة عن طريق الضمير، ثم يتم الربط بين تحمل المرء المسؤولية وروح المبادرة في اتخاذ القرارات والتوجه نحو العمل، زد على ذلك يطلب التخلص من مرض التفاوت وأشكال اللاّمساواة بالحصول على مؤشرا اعتراف بالقيمة المتساوية من التقدير والاحترام وتحقيق التوازن الاجتماعي بالتأليف بين الاختلاف والمساواة، على إثر ذلك يشبع الشرف الحاجة في الانتماء والاعتبار بالمشاركة والحفاظ على الذكريات الجماعية، بعد ذلك يقبل الناس المعاقبة التي يحددها القانون على الجرائم المقترفة بالشعور بالألم بغية إدخال العدل في النفس وإعادة الاندماج في المجتمع، ثم يأتي الدور الذي تقوم به حرية الرأي في تفعيل حرية التعبير وتخطي حرية المشاركة التي ترضي ملكة العقل نحو حرية الكينونة التي ترضي النفس، ثم تفتش النفس عن الأمن قصد تفادي الخوف والألم والرعب والقمع والعذاب وتحقيق السلام الذاتي، علاوة على ذلك تلتزم النفس بالمغامرة والمجازفة والمخاطرة للتعبير عن الشجاعة من جهة وتتسلح بالتملك على الصعيد الشخصي وبالمشاركة في الممتلكات العامة التي تتقاسمها مع المجموعة والدولة. بيد أن الوفاء للحقيقة هي الشرط الأبرز والضمان الوحيد لكي يتم تحقيق التجذر والاندماج والتناغم. في نفس الاتجاه اشتغلت سيمون فايل على بناء فلسفة في الشغل تؤلف بين المنهج الفلسفي والتمشي التطهري وتسدد الفعل السياسي نحو مقاومة الاضطهاد الاجتماعي وتوفير عناصر الحرية ومنظومة من الواجبات تعتني بالذات وتستثمر تجارب الرحمة وتعتقد أن العالم زمن الاستعمار والشمولية في حاجة ماسة لانبعاث دين جديد وقديسين مصلحين26[27]. لكن كيف يؤثر حب الحقيقة في حرية الرأي ومطلب المساواة التامة على مستوى الملكية الفكرية؟

خاتمة:

” إن جميع الواجبات بلا استثناء تجاه الأمور الإنسانية تنجم عن الحاجات الحيوية للكائن الإنساني”27[28]

صفوة القول أن دراسة العلاقة بين الفرد والحياة الجماعية تقتضي تحليل مظاهر التقسيم والتجزئة التي تعرض المجتمع المعاصر والبحث عن إقامة جسور للاتصال وتمتين الروابط بين الذوات والمجموعات وتخطي الفوارق والاختلافات وعبور الحواجز والحدود التي تفصل بين الثقافات والأديان وتوفير شروط الاندماج المتناغم للكائن البشري ضمن محيطه الجغرافي ومجاله السياسي وتحمل الذات الواعية واجباتها تجاه غد البشرية والاشتغال على مطلب الاعتراف بالفئات الهشة ومنحها التقدير. من هذا المنطلق عوض أن يهتم الإنسان بالمطالبة بحقوقه يجدر به أن يعمل قبل ذلك على تحمل واجباته تجاه الكائن الإنساني وأن يحقق حاجات النفس إذا ما أراد أن يقاوم الاقتلاع الذي تعرض له ويقوي شروط التجذر.

لقد غاب عن الإنسان في الفترة الراهنة التعلم من أجل التعلم وحضر التكسب والانتفاع واقترن تثقيف الجماهير بالتبسيط والتعميم ومزج الأفكار الخاطئة والآراء الغامضة وتقديمها طعاما ضارا للبسطاء.

من جهة أخرى يمكن توظيف حرية الرأي في التشجيع على حرية التفكير وتلبية رغبة العقل في المعرفة والاستطلاع وذلك بتنسيب الاثباتات ومراجعة التوكيدات وإدخال عناصر تجريبية للنظريات وإيجاد تداول حقيقي للأفكار وإجراء نقاش عمومي حول القضايا الساخنة التي تثير مشكلات المصير. وبالتالي”عندما يضع كائن أنساني ما نفسه خارج الخير بارتكابه جريمة فإن العقاب الحقيقي يشكل إعادة دمجه في الخير بكامله بواسطة الألم…الرضا بهذا التحول هو بالنسبة للإنسان الفعل الأسمى لطاعة تامة”28[29]. مقاومة الإعلام المنحاز والدعاية الموجهة التي تشتغل عليها الصحف ووسائل الاتصال الحديثة هو طريقة جيدة لمقاومة الاقتلاع الرمزي وتفادي الإشاعة والبيانات الخاطئة والمغالطات والهفوات المتعمدة والتوقف عن التشويه المتكرر للحقيقة وإرهاق الفكر وإفساد المعلومة وتوفير الحماية للكائن الإنساني من الخطأ والحث على التفكير النقدي والوعي التاريخي والالتزام بالواجبات تجاه الإنسانية. فبأي معنى يشكل التجذر طريقة في معالجة المقتلعين وأفق لارتقاء اجتماعي متوازن وغير محدود؟

الإحالات والهوامش:

[1] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، دمشق، سورية، طبعة أولى، 2010ـ ص11

[2] Simone Weil, l’enracinement, Prélude à une déclaration des devoirs envers l’être humain, 1949, éditions Flammarion, Paris, 2014.p77.

[3] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص59.

[4] Voir Hochart Patrick, Enracinement – Déracinement chez Simone Weil, conférence du 27 Janvier 2016, éditions de la Bibliothèque nationale de la France. Lien : http://www.bnf.fr/fr/evenements_et_culture/anx_conferences_2016/a.c_160127_philo.html

[5] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص116.

[6] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص204.

[7] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، صص 123-124.

[8] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص207.

[9] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص59.

[10] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص229.

[11] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص217.

[12] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص19.

[13] فايل سيمون، التجذر، تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن البشري، مصدر مذكور، ص21.

[14]<span dir=”LTR” style=”font-size:

أحدث المقالات