18 ديسمبر، 2024 10:41 م

الإمام علي (ع) بين ثورة الجياع ومواجهة متمردي السلطة بالحزم والعدل

الإمام علي (ع) بين ثورة الجياع ومواجهة متمردي السلطة بالحزم والعدل

سألني أحد الأصدقاء : لماذا لم يكن هنالك متمردين على السلطة والخلافة وحروب طاحنة بمعنى أصح كان الوضع مستقر, قبل مجيء الإمام علي (ع) للخلافة ؟
فأجبته : أيها الصديق العزيز حدث هذا التمرد مع تسنم الإمام مقاليد زمام الدولة وألأمور على الرغم من مبايعة المسلمين له بالأجماع في المسجد, وقَبِلَ البيعة أعلنوا رضاهم بسياساته، وتعهدوا بنصرته ومعونته ، فقامت الحجة عليه بذلك ، وكان لا بد من القبول, ولذلك قال ( ع): « لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها».
قبل مجيء الإمام للسلطة كان هنالك علي المعروف بحكمته وصبره وعلمه وحلمه , ينصح الناس ويوعظهم ويرشدهم لفعل الخير, ولم يؤلب الرأي العام ضد الدولة أو يتآمر عليها, أو يفكر بروح التسقيط والتشهير,أو يأتي بمجموعة معينة ويعطيهم المال ليقوموا بعمليات اغتيالات ليشيع حالة من الفوضى والخراب,أو يستأجر أشخاص ليقوموا بقطع الطرق وسلب ونهب القوافل في محاولة للحصول على مكاسب , ترفع عن جميع هذه الممارسات ,لأن مصلحة الأمة الإسلامية عنده فوق كل هذه المسميات والعناوين الجزئية والفرعية ,وأن أخلاقه تأبى له النزول بهذا الممسلك الهابط الدنيء .
سعى جاهداً لإعادة الإمام الأمور لنصابها الصحيح على أثر ثورة الجياع المطالبين بحقوقهم التي أجتزأت بأشخاص معدودين حتى وصلت بطونهم مرحلة التخمة ,حتم عليه ذلك نقض الكثير من السياسات التي تستبطن الظلم والتعدي ، وقد اعتاد عليها الناس ، ومنها السياسات المالية ، والطبقية والفوقية التي تسيدت على المجتمع , وتحولت لثقافة العبودية , تصدى لذلك ولو كلفه خوض اللجج وبذل المهج , وأما ما كان حقاً لله تعالى ، فعليه أن يرشد الناس إلى الصواب فيه ، وعليهم أن يستجيبوا لنداء الله , وجد أولئك المتمردين الناقمين عليه : أن علياً « ع» سينتهج سياسة تضر بطموحاتهم ، فإنهم سيواجهونه بالرفض ، وسيتداعون لمقاومته . . وسيؤدي ذلك إلى كارثة حقيقية تحل بمصائر الناس ، فكان لا بد من إفهامهم قبل أن يستجيب لهم , أنهم إن كانوا يريدون حاكماً يسير فيهم بالسياسات التي ترضي طموحاتهم ، وتجلب لهم الأموال والمناصب من دون مراعاة أحكام الشرع ، فإن ما أرادوه لن يحصلوا عليه منه . . كما أن بيعتهم له ، وهم يفكرون بهذه الطريقة ، ويسعون إلى هذا الأمر ، لن تمكنه من إجراء سنة العدل فيهم ,وليس هؤلاء ممن يمكن أن ينتصر بهم ، أو أن يعينوه على إقامة الحق . . وكبح جماح الباطل , وعلى هذا ستكون وزارته لهم خير من إمارته عليهم ، ما داموا لا يريدون الانصياع للحق الذي سيلتزم وسيلزمهم به في إمارته ، لأن إمارته ستتصادم مع أهوائهم ، وسيؤدي ذلك إلى الدمار والبوار لهم في الدنيا والآخرة , الخلافة بالنسبة لهم جسر لأطماعهم ، وبلوغ غاياتهم واهوائهم , وقد أوضح « ع » في نفس هذا الموضع هذه الحقيقة بأتم ما يكون ، فقد قال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان . لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول, وإن الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت »
إن إقرارالإمام، مبدأ تحقيق المساواة في العطاء، يُعد انقلاباً اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات، وهو الذي عاد بالمجتمع والأمة إلى النظام الأصيل في الإسلام الذي ألغى الفوارق الطبقية, وهذه السياسة كانت كفيلة بإنهاء جوع الفقير وسد حاجة المحروم الذي سببه احتكار الأغنياء للثروة، فقد أعلن، عليه السلام:«إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني».
كما كان له موقف حاسم وحازم من الأملاك والأموال التي اقتطعها عثمان لأهل بيته وأعوانه وولاته فأعلن، ردها إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال مستخدما أسلوب الحداثة الذي نعيشه اليوم المسمى من هيئة النزاهة (استمارات كشف ذمة المصالح المالية ) التي تجرد ممتلكات وأموال المسؤولين وصناع القرار لمعرفة من أين جاءت ؟ وهو القائل : «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه العدل فالجور عليه أضيق» هذا المبدأ لم يرق لحاشية عثمان وأقاربه الذين كان بيت المال تحت أيديهم، وهم مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة وأمثالهم، فتكلم عنهم الوليد وطلب من أمير المؤمنين من جملة كلامه أن يضع عنهم ما أصابوه من الأموال الطائلة من بيت المال في عهد عثمان فقال، عليه السلام لهم:«ليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم» ثم أخذ مسحاته ومكتله ليعمل في حفر بئر وهو يردد الآية الكريمة: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» وفي اليوم الثاني أعطى، لكل من حضر دون استثناء ثلاثة دنانير وأخذ هو، عليه السلام، ثلاثة دنانير ايضاً، فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين.. هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال، عليه السلام:«نعطيه كما نعطيك»
كان يعلم جيداً الإمام أن إزالة الفوارق الإجتماعية، ستجابه بمعارضة الأغنياء الذين اتخذوا انتماءاتهم القبلية وقرابتهم من عثمان سبيلاً لاحتكار الثروات والأموال، فبدأت محاولاتهم لإستعادة مكانتهم، ومن ألف أمرا شق عليه فراقه، فشق عليهم ذلك وأنكروه، حتى صاح الزبير في مجتمع المدينة معلناً بداية شرارة التمرد: هذا جزاؤنا من علي..! قمنا له في أمر عثمان حتى قتل، فلما بلغ منا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه..!فكانت النتيجة نقضوا البيعة وفارقوا الطاعة وشقوا الصفوف بعصا الخلاف، لكن علياً لم يثنه عن موقفه المبدئي شن الحروب عليه وبقي متمسكاً به بقوله لهم : «مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم».