17 نوفمبر، 2024 8:29 ص
Search
Close this search box.

رؤية تحليلية حول إعادة اعمار سوريا وتمويله ومعوقاته

رؤية تحليلية حول إعادة اعمار سوريا وتمويله ومعوقاته

إعداد/ جمال قارصلي نائب ألماني سابق من أصل سوري
وطلال عبد الله جاسم باحث وسياسي سوري
هذه دراسة جديدة حول إعادة إعمار سوريا والتي نعمل عليها منذ السنة الماضية، حيث ركزنا على الإمكانيات والقدرات التي نمتلكها نحن كسوريين من أجل إعادة بناء وطننا، وسلطنا الضوء على واقعنا الراهن، لتحديد العقبات والصعوبات التي ستواجهنا أثناء هذه العملية. نهدف من وراء هذه الدراسة إلى المساعدة في الوصول إلى الحلول المناسبة، حيث أننا لم نغفل التعقيدات الدولية والمحلية في هذا الأمر.
عندما تنتهي الحروب المدمرة، تاركة خلفها الكثير من الخراب والجروح الغائرة في ضمائر ونفوس البشر، تبدو للوهلة الأولى أنه لا توجد فرصة للبدء في اعادة بناء أي شيء كان، ولكن الامم العريقة سرعان ما تنبعث من جديد من تحت الركام لتبدأ بحقبة جديدة، ساعية إلى مستقبل أفضل، متجاوزة كل مآسيها، ومتحاشية كل أسباب ما حلّ بها من خراب ودمار.
الأمم الحية تسعى من خلال مفكريها وخبرائها وعلمائها إلى وضع خطط صحيحة ودراسات بناءة من أجل مستقبل جديد متجاوزة لماضيها الأليم. أول ما يجب بناؤه في المجتمع هو الانسان، وذلك على مبدأ المثل الصيني القائل: “إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحا، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا”, لأن الانسان هو أغلى ثروة وهو العنصر الأهم في دعم عجلة التطور والتقدم، وهو الذي يقع على عاتقه وضع الخطط وتنفيذها ودفع تكاليفها من جهده وعمله.
نحن نعلم بأن الأزمة السورية ليست مشكلة اقتصادية وانما هي سياسية بامتياز. وأول ما يحتاجه بلد منكوب مثل سوريا هو الاستقرار السياسي، والذي يشكل القاعدة الأساسية لإعادة الإعمار وللانتعاش الاقتصادي الذي يحتاج إلى قوانين واضحة وهيكلية تنظيمية صحيحة، ولو في أُطر متواضعة مبدئيا، وكذلك قضاء نزيه تلجأ اليه الشركات والمستثمرين ورجال الأعمال والعاملين في مجال اعادة البناء او في القطاع المالي والاقتصادي واللذان يشكلان العماد الاساسي لإعادة البناء. ولا بد من أن يتوفر مناخ آمن يشجع على القيام بهكذا اعمال، وإلا ستكون كل الأعمال والجهود في مهب الريح.
إن تجارب الأمم في اعادة البناء تشير بوضوح إلى اننا كسوريين سنتحمل كل اعباء اعادة بناء وطننا وسندفع تكاليفه، وربما لبعض الدول التي دمرت بلدنا، وستظل هذه الدول تملي علينا ما تريده لسنين طويلة، وذلك من خلال اتفاقات وقعت معها واعطتها امتيازات لا يمكن التراجع عنها بسهولة. ولكن ورغم ذلك، نرى انه يتوجب علينا العمل الجاد والصادق من أجل إعادة إعمار بلدنا، وأن يقوم كلا منا بواجبة، حتى لا تفرض علينا مشاريع وأجندات خارجية لا تراعي مصالح شعبنا ولا تسمح بتحقيق آماله حتى مستقبلاً.
إن إعادة إعمار كل ما أصابه الضرر بسبب الكارثة التي حلت على سوريا يحتاج إلى تظافر جهود وخبرات وتقنيات وطنية وإقليمية ودولية ما حصل في سوريا خلال السنوات الثمانية الماضية من دمار وخراب ومآسي إنسانية واقتصادية تجاوز كل التصورات. فالدولار في عام 2011 كان يساوي تقريبا 50 ليرة سورية، أما الآن فهو بحدود ال 500 ليرة ويصل الى 600 في بعض الأحيان. وميزانية الدولة تدهورت مما يقارب 18 مليار دولار الى ما يقل عن 4 مليار دولار في السنوات الاخيرة. والناتج المحلي الآن، وفي أحسن الاحوال، لا يتجاوز 5 مليار دولار، بعد ان كان قد وصل الى حدود 60 مليار دولار. وتشير الأرقام الدولية الى أن أكثر من 80% من شبكات المياه والكهرباء مدمرة، اضافة الى البنى التحتية، أما الدمار الكبير فقد لحق بقطاع التعليم والصحة. وأخطر ما حصل في سوريا هو في “قطاع الإنسان”, حيث هاجرت أكثر من 70% من العقول والكفاءات إلى خارج البلاد، إضافة إلى مقتل مئات الآلاف من الشباب، والملايين منهم غادر البلاد وربما بلا رجعة تصعب عودتهم ولأسباب عديدة ومن اهمها الخوف من تجنيدهم بشكل اجباري من قبل القوى المسيطرة.
إن أردنا ان نعرف فقط حجم الكارثة الاقتصادية التي حلّت على سوريا، علينا ان لا ننسى تكاليف ازالة الآثار البيئية لتكرير النفط بالطرق البدائية وازالة آثار المواد المستخدمة في الحرب وتأثيرها الكارثي على الصحة والزراعة والبيئة. إضافة إلى ذلك لو اخذنا بعين الاعتبار تكاليف اصلاح البنى الاساسية لصناعة النفط والغاز والتي تضررت بشكل كبير، وكذلك ضرر الاستجرار الجائر لحقول النفط والذي سيؤدي إلى انخفاض حاد في انتاج اغلب الحقول.
أما الكارثة التي حلّت على المساكن والبنية التحية فهي كبيرة جدا، وهي تشكل عائقا كبيرا لرجوع الكثير من اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية، لأنهم فقدوا مساكنهم ولم يبق لديهم أي مكان يمكنهم اللجوء اليه، إضافة إلى الأضرار الجسيمة التي أصابت النظم وشبكات الطرق والمدارس والمستشفيات وكل المرافق الاقتصادية، ومنها النفطية والسياحية والصحية والزراعية، حيث أن البنية التحية في بعض المحافظات تدمرت بشكل كامل وفي محافظات أخرى بشكل جزئي. إن أردنا فقط ازالة الكمية الهائلة من الأنقاض والركام التي تشكلت بسبب الحرب فأننا سنحتاج الى معدات خاصة لا يمكن الحصول عليها إلا إذا تم رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا والسماح باستيراد هكذا أجهزة ومعدات متطورة.
ما ذكرناه يشكل جزءا بسيطا من الأضرار المادية، أما إذا أخذنا الاضرار البشرية بعين الاعتبار ومنها القتل والإعاقات الجسدية والتهجير والتعذيب والإهانة، وما يتبع ذلك من معاناة نفسية واجتماعية وغيرها، او تكاليف العلاج والرعاية الصحية لمصابي الحرب، لوصلنا إلى مبالغ تتجاوز كل التوقعات. إن بعض الأطراف المختصة تقدر فقط الأضرار المادية التي لحقت في البنية التحية بحوالي 250 مليار دولار ومنها من يصل إلى أكثر من 500 مليار دولار. كما ان الناتج القومي السوري انخفض بشكل مرعب، وتشكلت تشوهات اقتصادية عميقة من الصعب التغلب عليها أو التعايش معها.
بنطرة واقعية وحيادية نرى بأنه من الصعب جدا إحلال السلام في سوريا, إن لم تؤخذ بعين الاعتبار الاتفاقات الاقتصادية مع الدول المتدخلة في الشأن السوري ولو الى حين, وهذا يعني بأن العقود التي تم إبرامها والأفضليات التي أعطيت لروسيا في مجالات اقتصادية واستثمارية عديدة, ستظل سوريا ملتزمة بها مستقبلا على الاقل في المدى القريب, وهذا الامر ينسحب كذلك على مصالح إيران الاقتصادية والاستثمارية في سوريا, حيث يمكن التفاوض مع هذه الدول من أجل إحلال الافضليات الاقتصادية بدلا عن التدخل العسكري السافر المباشر وغير المباشر عبر مليشيات تابعه لها. ولتركيا كذلك اتفاقات تفضيلية مع سوريا مما هو قبل عام 2011 , اضافة لما استجد لها من مصالح في السنوات الثمانية الأخيرة، فهي لابد من أن تحافظ على مصالحها، وهي تملك اطول حدود مع سوريا، وأمنها القومي يتأثر كثيرا في الاستقرار في سوريا، وإضافة إلى ذلك احتضانها لأكثر من 3,5 مليون لاجئ سوري، بينما الدول الأخرى بعيدة جغرافيا عن سوريا.
ان كل هذه الاتفاقيات قد لا تنسجم مع مصالح الشعب السوري، ومنها ما سيتم تطبيقه مع دول سببت الأذى الكثير والبالغ للشعب السوري، ولكن القبول بها امر لا مفر منه، وهذا بالتأكيد لا يعني عدم محاولة تحسينها او الغائها حينما تتهيأ الظروف التي تمكّن السوريين من ذلك.
ويجب على السوريين ان يعلموا بان تكاليف إعادة الاعمار هم وابنائهم واحفادهم من سيدفع ثمنها، لان آليات الدعم وتقديم القروض والمنحات من الدول، في غالبيتها تعود بالفائدة على مانحيها وتحقق مصالحهم، وطبعا هذا لا يعني انها لن تكون في صالح السوريين في اجزاء منها. فلذلك ليس امام السوريين الا العمل الجاد ووضع الخطط الصحيحة والطويلة الأمد والتي تراعي مصالح السوريين وتعطيهم الفرصة في المستقبل لامتلاك زمام المبادرة. الوضع الراهن لا يبشر بالخير ولا يشير إلى تغير جوهري يؤدي إلى تحقيق اهداف السوريين في الاستقلالية والسيادة. فمن أجل تغيير ذلك يجب أن تجتمع كل القوى الوطنية السورية وتوحد عملها وتنظمه على مستوى عالي من أجل تحقيق مستقبل مشرق لبلدهم.
الدعوة للتعامل مع الواقع بعقلانية ليس هزيمة، وكذلك الاعتراف بخسارة جولة او جولات ليس هزيمة، وانما الهزيمة الحقيقية هي عدم الاعتراف بالواقع وترك السوريين للمجهول دون حماية. وانطلاقا من هذا علينا العمل على مساريين.
المسار الأول: العمل على حماية السوريين في كل مكان، وابعادهم عن التجاذبات السياسية والمحصصات وعن المتاجرة بهم بين الاطراف المتنازعة والدول المتدخلة، لأنهم يعيشون مأساة كبيرة ولا يملكون رفاهية الانتظار.
المسار الثاني: العمل المنظم والجاد على تحقيق الحرية والكرامة للشعب السوري في مجتمع تسوده الديمقراطية والمساواة ولو بخطوات صغيرة وبسيطة، لكنها تأخذنا إلى هدف واضح وجلي يقرره الشعب السوري بنفسه.
ومن هنا ندعو كل المختصين والخبراء السوريين على العمل الجاد من أجل إنجاز دراسات متخصصة في هذا الشأن خدمة لبلدهم ومجتمعهم.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة