تأخذ ظاهرة الغزو الغربي وتداعياتها وإفرازاتها، على مستوى الفرد والمجتمع الشرقي، مساحات واسعة من اهتمام الكتاب والمثقفين في بلداننا الإسلامية. وقد يسلك بعضهم سبيل الإفراط في تعليق كافة الأزمات والمشكلات التي يعيشها المسلمون في العصر الراهن على مشجب الاستعمار لتفسير حالات التخلف الحضاري والتبعية الاقتصادية والسياسية للبلدان الغربية.
وأرى أن هذه الظاهرة أو الانتكاسة، التي ما زال المسلمون يعيشون آثارها وتداعياتها السلبية على كافة الصعد والمستويات، تخفي في طياتها ظاهرة أعمق واخطر. ويمكن القول بأنها تمثل الأساس التحتاني لنجاح الغزو الغربي، ألا وهي ظاهرة الغزو السماوي أي الغزو الذي تعرضت له عقول المسلمين ونفوسهم من قبل وهم أفضلية السماء على الأرض، لأنها حسب تعبيرهم موطن الله ومصدر الرزق والمطر والمكان الذي ترتفع اليه الأرواح بعد الموت، وان الجنة والملائكة والعرش واللوح والقضاء والقدر ووو… كلها هناك، فنشأ من هذا التوهم الأخطر على الإطلاق؛ كتاب سماوي وتعاليم سماوية ودين سماوي وغير ذلك مما نقرأه ونسمعه دائما في كتابات علماء ومشايخ الدين. والمفارقة ان جميع علماء الدين وعقلاء المسلمين يذعنون لحقيقة أن الله ليس في السماء بل في كل مكان، وان المطر مصدره البحار في الأرض، وان الأرض هي موطن الخليفة الإلهي أي الإنسان وموطن تربية الإنسان ومهبط الوحي والنبوات فكيف تكون السماء أفضل من الأرض؟
الخطر في الغزو السماوي لا يتحدد في نهب ثروات المسلمين واستنزاف طاقاتهم المادية والفكرية في موارد موهومة كالحج والزيارات والطقوس الخاوية وتأليف الكتب الدينية وإنفاق الملايين على بناء الجوامع والحسينيات والفضائيات، بل يمتد إلى عقول الناس ونفوسهم فيما يعيشونه من حالات الخوف من النار والطمع في الجنة، وفيما ينتج من سلوكيات عصابية كان آخرها ظاهرة الإرهاب والطائفية وبث الكراهية والأحقاد بين المسلمين، اي ان هذا الغزو يتحرك في العمق ليكبل عقول الناس ويشل إرادة الحياة فيهم ويسهم في مسخ الانسان المسلم وتحوير القيم الأخلاقية وقلب الرذائل الى فضائل وقتل روح الابداع والحيوية فيه، بينما يقتصر تأثير الغزو الغربي أو الاستعمار على البعد المادي والاقتصادي والسياسي ولا ينفذ الى الأعماق ولا يرتدي مسوح القداسة والاحترام ولا يستطيع التأثير في نفوس الناس وتسخير عقولهم وإرادتهم. والأنكى من ذلك؛ يمهد هذا الغزو السماوي لعبودية الناس إلى مراجع الدين والمشايخ الذين يعيشون روح الطائفية والماضوية والدوغمائية والتعصب ويجرون الناس إلى الماضي ويهتمون بشكل سافر لحفظ امتيازاتهم ومكاسبهم الاجتماعية من خلال الحجر على عقول الناس ومحاربة العقلانية وكل فكر جديد على أساس أنه بدعة وحرام ولابد من العودة إلى الماضي وإنكار كل ما أنتجته البشرية من حضارة وحقوق الإنسان وحريات مدنية، ويتحركون على صعيد تشويه الديمقراطية والحرية بدعوى أنها حرية حيوانية وتجر الى الفساد والتحلل الأخلاقي. وللخلاص من هذا الغزو الخطير لابد من استخدام العقلانية والتحرك على صعيد إعادة الإنسان إلى وضعه الطبيعي والدفاع عن كرامته وحريته الإنسانية كأصل ثابت، ورفض كل حكم فقهي يتعارض مع هذا الأصل، أي أن الدراسات الدينية التي كانت في الماضي تبدأ من الله واثبات وجوده والتوحيد ثم النبوة والمعاد وأخيرا تصل إلى الإنسان وحقوقه، يجب أن تنطلق أولا من الإنسان وحقوقه لتصل إلى الله ودينه، وهذا هو ما بدأه رجال الكنيسة في الآونة الأخيرة حيث بدأوا يعيدون النظر في دراساتهم اللاهوتية والانطلاق من الإنسان وكرامته وحقوقه.. والله الموفق.