ما جدوى الكتابة؟
وهل تفلح لغة ما ان تعبر عن قهر الانسان؟
هل تفلح هذه اللغة مهما بلغت قدراتها ان تعبر عن لحظة استشهاد واحدة؟
من يصف لي لحظة اغتيال مشاعر انسان، ومن يجرؤ ان يدعي القدرة على قراءة صمت عراقي مقهور تحت ظل الاضطهاد؟
ما جدوى الحديث عن العراقي؟
وماذا سيحدث لو انني واصلت الكتابة عنه او توقفت عن ذلك؟
لن يقول لي أحد استمر، ولن يشعر احد بتوقفي؟
تعصرني، انا العراقي، الكاتب…، حالة من التغييب القسري من قبل السلطة، المؤسسة، المجتمع… هل أكتب لمجرد اريد، ام لمجرد انني اريد الجاه، ام ماذا؟
تتعالى الاصوات، وتتبارى الاقلام، وتتسابق الصحف، يكتب الكّتاب، يصرخ الفنانون، يخطب الساسة والمسؤولون… عاصفة من الموجات الصوتية والحروف المبعثرة، تضربنا، تضرب العراق من الجبل الى الماء. زوبعة من التخديرات والتنظيرات تنطلق من مستديرات الخناجر وفوهات الاقلام.. ولكن نسمع جعجعة ولا نرى طحناً.
الكل يمارس القول ويجافي الفعل!!
انها ازمة عزم لا ازمة فهم.
يطحنني هذا الاحساس وانا ارقب اوضاعنا البائسة، وانا ارقب آخر ورقة توت تنتزع بقوة لنصبح عرايا تماما، ومكشوفين للعالم وجهاً وظهراً.
ما جدوى الثقافة المهمشة المسترخية على الارائك الوثيرة ذات الطروحات المفتعلة عن القديم والحديث، والشكل والمضمون، وذلك الانقسام العجيب الذي نحياه بين ان نكون او لا نكون.
في الماضي، كان الاستعمار القديم يخفي مخططاته في سراديب السرية واقبية الظلام، بعيداً عن عيوننا. هذه الايام انقلبت الآية وانعكست الحكاية، فالتحالف الامبريالي- الصهيوني- الفارسي يعمل علناً على رؤوس الاشهاد. يضع كل اوراقه على الطاولة تحت ضوء قوي وهاج.
هل يخفي (صهيون) ما يريد؟
هل ينكر (فارس) حقيقة اطماعه في عراقنا؟
هل يبخل (امبريال) بتقديم الدعم المادي والمعنوي والسياسي والاقتصادي والعسكري (للصهيوفارسي)؟!!
كل هذه المآسي تتم فوق صفحة الوضوح بلا مواربة وبغير خجل. كل هذه المآسي تقع في نطاق معرفتنا، واطار ادراكنا، وحيز وعينا، فماذا فعلنا؟ ماذا فعلنا وليس ماذا قلنا. هذا هو السؤال بل هذه هي المسألة؟!
ماذا نقول؟
وهل بقي للقول مكاناً؟
لا سميع ولا مجيب، فالكل في حالة ذهول وغياب حتى كأن الناس سكارى وما هم بسكارى، بين المطرقة والسندان، ننسى انفسنا لتكرار الألم والقهر اللذين اصبحنا عادة يومية نتقاسمها على الموائد ونحتسيها مع شاي الصباح وتحية المساء المفتعلة.
مزيداً من الكتابات عن الوطن… لست ضد ان نكتب، ولست ضد ان لا نكتب. فأنا ايضاً لا اعرف اين اقف او اين اتوقف، اين اكون او اين لا اكون، فليس في الوقفة ثبتاً ولا محواً ولا قولاً ولا فعلاً ولا علماً ولا جهلاً.
لست ضد الحلم، ولست ضد العقل. ولكن كيف نحلم وتلك الكوابيس اليومية تطاردنا من لحظة الى لحظة. تحاصرنا اينما كنا، وكيف نفعل وتلك القيود لا تغمض عينيها. انها اشد قسوة من الموت.
ما جدوى الكتابة ونحن لا نجيد القراءة ولا نجيد قراءة ما يدور بنا وما يدور حولنا وما يبقينا في الاسفل، وما يشدنا الى اسفل الأسفل.
متى تكون صحوتنا.. اذا لم تكن اليوم؟
ومتى تستيقظ النخوة.. اذا لم تستيقظ اليوم؟
ومتى يتمرد العزم العراقي.. اذا لم يتمرد الآن؟
ومتى تمارس الجماهير العراقية دورها.. اذا لم تمارسه حالياً؟
تساوى القلم والسيف، عادا الى متحف التاريخ، حيث المجد الاول والحرف الاول، ووقفنا ننظر الى الخلف بفخر مقهور، والحاضر يشتعل.
ما جدوى الثقافة والدم العراقي يهرق، وآخر معاقل الكرامة العراقية تهوى. هل ارتفعت اصوات مثقفينا من هم في لندن وباريس و…. او من هم في ارجاء الوطن ومحيطه الذين ينعمون بالصمت الرهيب!!
هل توحدت تلك الاصوات لتعلن غضبها، لتعلن رفضها؟
لم يحدث، ومتأكد انه لن يحدث….
اسئلة وعلامات استفهام مسنونة تدمي الخاطر، وتمزق الوجدان، وتكاد تبعث اليأس في اكثر القلوب ايماناً بعزيمة مجتمعنا، وثقة برحابة غده، وعظمة مستقبله.
اسئلة وعلامات استفهام تلاحق المواطن العراقي شرقاً وغرباً، صغيراً وكبيراً، في الصحو وخلال النوم، وفي كل ساعات النهار.
ماذا جرى لنا؟
ماذا جرى لهذا الشعب الذي كان مارداً جباراً، كتب بالمجد والدم والاستشهاد اروع الصفحات في دفاتر التاريخ؟
يحار المراقب، وهو يراقب هذا الشعب العملاق، مهدور الكرامة والطاقة.. بلا طائل، مشلول بغير داع، مهزوم بدون مبرر عقلي او عملي.
يحار المراقب، وهو يرى الارادة العراقية نازفة تسيل في بحار العدم، وتتبدد في وديان الضياع.
من المسؤول عن كل ما لحقنا من هوان وانقسام واستكانة لم يعرفها عنا التاريخ؟
ومن المسؤول عن النهوض والاستيقاظ والعودة الوطنية الى دائرة الفعالية والاقتدار؟
ما هو دور السياسي والمثقف والاقتصادي والعسكري او المقاتل…؟
الى متى يظل هذا الليل؟
ومتى تحين ساعة العمل الثوري الوطني فوق العراق؟
متى يأخذ القول صيغة الفعل؟
متى يتحول نور الفهم الى شلال عزم؟
متى يحقق العراقي ذاته الاصيلة الطالعة من امجاد التاريخ؟
سأصرخ ما اشاء، فالفضاء متسع ومملوء بصرخات الثكالى والايتام والمشردين والمقهورين والمندبين والمطحونين وغيرهم…
ساصرخ، وليعانق صراخي صراخهم، فلربما يفعل الصراخ ما لم تفعله الكتابة؟!
[email protected]