خاص: قراءة- سماح عادل
هناك روايات تظل خالدة مهما مر عليها من زمن، وذلك بسبب أنها تتسم بالعظمة، ليس في طريقة سردها وإنما في الأفكار التي تطرحها، ورواية (الساعة الخامسة والعشرون) للكاتب الرّوماني “قسطنطين جيورجيو”، ترجمة “فائز كم نقش” عن دار نشر “مسكيلياني”، تعد واحدة من الروايات الخالدة، لما تحويه من أفكار إنسانية عميقة وتحليل رائع لما حدث للعالم الغربي وقت الحرب العالمية الثانية.
الشخصيات..
إيوهان موريتز: البطل، شاب يعيش في رومانيا في قرية “فانتانا”، كان يعمل أجيرا لدى كاهن الكنيسة وينتمي لأبوين فقريين، أحب ابنة رجل ألماني غني في القرية وحين انكشف أمر الحب هرب بها وبنى بيتا بمساعدة الكاهن وولده، واستقر وعاش فيه إلى أن اقتيد إلى معسكر اعتقال في ،1938 وظل رهن الاعتقال يتنقل بين المعتقلات في بلدان أوروبا لمدة 13 عاما.
الكاهن الكسندر كوروغا: يعيش في رومانيا، وكان كاهن لكنيسة قرية “فانتانا”، فيها عمل معه “موريتز” وكان أبا حنونا معه، وحين اعتقل ظل يبحث عنه أعواما طويلة إلى أن دخل الروس القرية وقام أعوان الروس بضربه بالرصاص، لكنه ينجو وتعطيه زوجة “موريتز” إلى الألمان ليعالجوه، فيسجن هو أيضا ويموت في احد المعتقلات بعد أن تقطع ساقيه جراء المرض.
سوزانا: الفتاة التي أحبها “موريتز”، فتاة شقراء جميلة سيكون جمالها وابلا عليه لأن أحد الضباط سيحاول التودد لها ويزج ب”موريتز” في معسكر اعتقال، وتكون هذه البداية لشقائه سنوات طوال، لكنها تظل مخلصة لزوجها طوال تلك السنوات، رغم اغتصاب الروس لها بشكل وحشي ومتكرر حتى أنها تنجب طفلا منذ ذلك الاغتصاب.
ايوروغو ايوردان: والد سوزانا، رجل ألماني ثري يعيش في رومانيا، وبعد اكتشاف أمر ابنته وحبها لأحد الشبان الفقراء يقتل زوجته بعد ضربها ضربا مبرحا، ثم يتم سجنه ويتحرر من سجنه بناء على توصية من الألمان، فيعود إلى بلده ويعمل هناك تحت أمرة جيش بلاده، إل أن يهزم الألمان من الروس فينتحر ويطلب من أحد الفتيات حرق جثته.
اريستيتزا: والدة “موريتز”، سيدة فقيرة وحادة المزاج، عند دخول الروس يعيونها قاضية بسبب أنها أفقر سيدة بالقرية ثم ترفض وحشية الروس وأتباعهم من أهل القرية فيتم إعدامها.
نيكولاي دوبريسكو رئيس مخفر الدرك: هو ذلك الرجل الذي حاول التودد ل”سوزانا” وقام بوضع اسم “موريتز” باعتباره رجل غير مرغوب فيه ليتم اعتقاله مع اليهود.
ماركو غولدنبرغ: فتى يهودي، تعلم في جامعة في أوروبا، وهو من نفس القرية، يقتاد إلى معسكر اعتقال لأنه يهودي ويرفض العمل بسبب انتماءه الشيوعي، وحين يدخل الروس القرية يكون أول أعوانهم ويتعامل بوحشية مع أهالي قريته، ويحكم عليهم بالإعدام ويقتلهم بنفسه بالرصاص.
تريان كوروغا: بطل ثان، وهو روائي شهير في رومانيا وابن الكاهن الكسندر، يقول داخل الرواية أنه يكتبها، فهو يمثل بمعنى ما شخصية كاتب الرواية، يتم اعتقاله هو أيضا وزوجته وبعد سنوات يقرر إنهاء حياته بعد ما أضرب عن الطعام واعتبروه مجنونا، لذا يقرر أن يدخل المنطقة المحرمة على السجناء ليتم قتله بالرصاص، بعد أن شاهد موت أبيه وحرم من المشاركة في دفنه.
أليونورا وست: فتاة يهودية تعيش في رومانيا في العاصمة، وتدير صحيفة شهيرة لكنها تخفى أصولها اليهودية حتى لا تتعرض للاضطهاد، وتتم مصادرة أموالها، تتزوج من “تريان” بعد قصة حب في محاولة منها للتحايل على اضطهادها، لكنها في النهاية تعتقل هي وزوجها وتخرج بعد عدة سنوات، ثم تقاد إلى معتقل آخر وتعمل هناك موظفة رغم كونها سجينة، وتعلم بموت “تريان” وتقابل في آخر الرواية “مورتيز” كما وتكمل رواية زوجها.
الراوي..
الراوي عليم، يحكي عن الشخصيات ودواخلهم، ويكز بشكل أساسي على البطلين “إيوهان موريتز”، و”تريان كوروغا” لكنه يحكي عن دواخل شخصيات أخرى وانفعالاتهم، معظم الشخصيات ضحايا للمجتمع الغربي وللحرب العالمية الثانية، أما الشخصيات التي تمثل الجلادين لا يهتم الراوي بتقديمهم بشكل أعمق وإنما يقدمهم من خلال البطلين.
السرد..
الرواية محكمة البناء، والسرد مميز، ورغم أنها كتبت في الأربعينات من القرن الفائت إلا أن بنائها السردي مميز، تنقسم إلى ستة أقسام، ويقول “تريان” أنه يكتبها لكن لا يمكن القول أنها رواية داخل رواية، كما أنها تحوي على عرض لأفكار “تريان”، والذي يحتل جزء لا بأس به من الرواية، لكن هذه الأفكار جزء لا يتجزأ من الرواية، فلا يشعر القارئ بالملل منها وإنما تكشف لديه سريان الأحداث، وتساعده على فهمهما وفهم الشخصيات، فالأفكار جزء هام من كلية الرواية، كما أن السرد يتخلله عرائض وشكاوى كتبها “تريان” للسلطات المسئولة عن معسكرات الاعتقال، وهي تدعم أفكاره وتكملها، تقع الرواية في حوالي 506 صفحة ورغم أنها لا تعتمد على التشويق إلا أنها تغري القارئ بتكملتها لمعرفة كيف تسير الأحداث.
مجتمع الآلة الغربي والتنكر لفردية الإنسان..
الرواية خالدة بما تحويه من أفكار هامة، فهي تقوم على أفكار نظرية هامة حول المجتمع الغربي الذي تحول في نظر الكاتب ونظر البطل “تريان”، والذي ربما يمثل الكاتب في الرواية، تحول إلى مجتمع آلة كبير، ففي نظر الكاتب أن التطور التقني الآلي الذي شهده المجتمع الغربي باكتشاف الكهرباء وبتطوير الآلات بعد الثورة الصناعية، حول المجتمع الغربي إلى الالتزام بقوانين الآلة، التي أصبحت قوانينها هي السائدة، مجتمع يعتمد على قوانين الآلة التي تتطور وأصبحت هي السيد، وقوانين الآلة تلك أصبحت تقضي بأن يتم حصر كل شيء في أرقام وإحصاءات، فيما يعرف ب”البيروقراطية الآلية” وهذا التوصيف جاء في الرواية، وأصبح الإنسان مجرد رقم ضمن مجموعة أرقام، وأصبحت الأوراق والمعاملات الإدارية التابعة للسلطة هي التي تتمتع بالمصداقية، أما ما خارج ذلك فلا قيمة له.
وانتفت مع الوقت فردية الإنسان أصبح الإنسان مجرد رقم في مجموع، رقم خالي من أية معاني إنسانية، لذا قامت الحروب العالمية بعد أن أصبحت المجمعات آلية، تبحث عن الأموال فقط، وتحولت مساحات شاسعة من الأراضي إلى معسكرات لاستعباد الإنسان، لكنه استعباد متطور لا يشبه ذلك الاستعباد في حقبة المجتمع العبودي القديم، وإنما استعباد لا يتم فيه تكبيل أقدام وأيدي العبيد بالقيود، وإنما يتم تكبيلهم بالمعاملات الإدارية، فالطعام والملبس والمأكل يصرف من خلال بطاقات من قبل السلطة، ووفقا لتراتب طبقي حاد، كما أن الإنتاج في المجتمعات الأوربية والغربية يقوم على قوة عمل هؤلاء المحتجزون في معسكرات الاعتقال، لا فرق بين ألمانيا وبين روسيا وبين أية دولة أوربية أخرى، وبين أمريكا، ورغم أن المعتقلون– المستعبدون الجدد يوفرون قوة عملهم في معظم ساعات اليوم إلا أنهم لا يتحصلون إلا على نسبة ضئيلة جدا من الغذاء، عبارة عن خبز وحساء، حتى أنهم يفقدون أوزانهم باطراد في حين أن الثروات الناتجة عن الإنتاج الآلي الكبير المتطور تذهب لسادة المجتمع الطبقي وأذيالهم من الطبقات الأقل.
نهاية المجتمع الغربي..
كما يطرح الكاتب فكرة هامة أخرى، وهي أن المجتمع الغربي بتوحشه وتحوله إلى الآلية المحضة قد سعى نحو نهايته وفناءه، وما الحرب العالمية الثانية إلا بداية تلك النهاية، مشبها ذلك بغواصة في البحر ليس فيها جهاز لتحديد مقدار الأكسجين، فكانوا يستعينون قديما بأرانب بيضاء ليعرفوا من خلاله الوقت الذي ينتهي فيه الأكسجين، وحين تموت الأرانب يعرف من في الغواصة أنه تبقى لديهم ست ساعات على الموت، ويطبق الكاتب هذا التشبيه على المجتمع الغربي موضحا أن الأرانب البيضاء قد ماتت وأصبح المجتمع الغربي يتخبط في ساعات قليلة قبل فنائه، ورغم أن نبوءة الكاتب لم تتحقق ولم يفن المجتمع الغربي بل ازداد توحشا، وأصبحت الرأسمالية التي تحكمه أكثر تغولا، حتى أنها نقلت الحرب العالمية خارج أراضيها وأصبحت تديرها من بعيد في البلدان الأخرى البعيدة، إلا أن أهمية الرواية تكمن في التحليل الدقيق لوحشية المجتمع الغربي ولاإنسانيته.
كما شددت الرواية على أهمية الاعتراف بفردية الإنسان وبقيمته الإنسان الفرد لا المجموع، حيث أن تمجيد المجموع وإلغاء فردية الإنسان تؤدي إلى نتائج وحشية، بعد أن تنتفي النظرة الإنسانية لكل فرد والمراعاة.
وأهم ما يميز الرواية أنها رصدت بدقة أجواء الحرب العالمية الثانية، ولم تظهر فقط اضطهاد اليهود رغم كونهم كانوا مضطهدين في تلك الحرب في بلدان أوروبا، إلا أنها بينت أن الإنسان في المجمل تم انتهاك إنسانيته سواء أكان مسيحيا أو يهوديا، أو رومانيا أو هنغاريا أو ألمانيا، تم انتهاك الجميع ممن لا ينتمون للسلطة والذي أسماهم الكاتب ب”المواطنون” الذين يديرون المجتمع الآلي.
الكاتب..
“قسطنطين فرجل جيورجيو” ولد سنة 1916 ب”مولدافيا” شمال رومانيا، من أسرة أغلب رجالها رهبان وهو المصير الذي كان مقررا له لكن بسبب ظروف الأسرة المالية تعذر عليه ذلك, من سنة 1928 إلى سنة 1936 درس بالمدرسة العسكرية وأثناء هذه الفترة كتب أولى أشعاره ونشر بعضها في الصحف, انتقل بعدها سنة 1939 إلى “بوخارست” ليشتغل ويدرس الفلسفة، وسنة 1939 تزوج ب”أكتارينا بوربيا” وحصل سنة 1940 على الجائزة الملكية للشعر عن ديوان “خطوط فوق الثلج”, اشتغل لفترة قصيرة بوزارة الخارجية لينتقل سنة 1943 إلى “زغرب” كملحق ثقافي بالسفارة الرومانية, سنة 1944 يختار المنفى بعد دخول القوات السوفيتية لرومانيا فيسجن من طرف الأمريكيين هو وزوجته باعتباره رومانيا حليفا للنازية، وبعد عدة محاولات للهجرة استطاع هو وزوجته عبور الحدود لفرنسا سنة 1945، وبقي فيها لغاية مماته وفضل أن يدفن فيها.
حين عبر “جيورجيو” الحدود لفرنسا كان يحمل معه مخطوطة “الساعة الخامسة والعشرون”, التقى بباريس بلاجئة رومانية تدعى “مونيكا لوفينسكو” التي حسب إحدى رسائلها إليه تبقى من أوائل القراء لهذا المخطوط, وجدت “مونيكا” أن المخطوط بهذا العدد الكبير من الصفحات التي بلغت 800 صفحة من الصعب نشره فنصحته بإعادة صياغته, سمع بالمخطوط الفيلسوف الفرنسي “غابريل مارسيل” المدير الأدبي لدار “بلون” فطالب بنشره واضعا له مقدمة أثارت اهتمام القارئ الفرنسي, نشرت الرواية سنة 1949 وسرعان ما ترجمت لعدة لغات باستثناء تلك المنتمية للمعسكر الشرقي.
في حين تلقى الوسط الباريسي هذه الرواية بحفاوة, تلقاها الرومانيون بنوع من التحفظ إلى أن قرأت بشكل مغاير ابتداء من سنة 1989 لتنشر برومانيا سنة 1991 أي قبل وفاة “جيورجيو” بقليل, في حين تلقاها اليهود بنوع من التذمر, واعتبره بعضهم معاديا للسامية لأسباب كثيرة منها اعتبار “موريتز” ضحية عوقب بعقاب خاص باليهود وهذا أعطى انطباعا أن اليهود يستحقون فعلا ما حدث لهم وأن الخطأ الوحيد في الموضوع أن يُؤخذ “موريتز” على أنه يهوديا و هو ليس كذلك, هذا بالإضافة لكتابات سابقة ل”جيورجيو” اعتبرت معادية للسامية مما اضطر “جيورجيو” للاختفاء بعيدا في الأرجنتين هربا من هذه الحملة الإعلامية التي كلفته خسارة صديقه “مارسيل غابريل”.
في إحدى حواراته يؤكد “فرجيل جيورجيو” أن “كل صفحة من كتابي كتبت بالدم, دمي, دم أصدقائي, دم أولئك الذين عانوا والذين ما زالوا يعانون في المعتقلات, أجل كل ما كتبه “تريان” عن المجتمع التقني, حول تحويل الإنسان إلى آلة أفكر فيه فعلا”.