تمثل التفاعلات الاخيرة التي شهدها قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك تطوراً ينطوي على مخاطر غير قليلة تهدد العملية السياسية في العراق، إذ ان اقحام الجيش، أو بعبارة اخرى السعي لجره إلى صراع داخلي بعناوين طائفية يعني اتجاهاً لخلط الأوراق، وبالتالي تحويل الصراع من طابعه السياسي الى طابع عسكري مسلح، كما هو حاصل في سوريا حاليا!
وعملية اقتحام ساحة الاعتصام من قبل تشكيلات من الجيش العراقي والقوات الأمنية أماطت اللثام عن جانب من تلك المخاطر. فهي اثبتت ان تنظيم القاعدة كان يمثل المحور والموجه للاحداث، ولعل ضبط 127 استمارة انتماء لما يسمى بـ”لواء التأميم” التابع للطريقة النقشبندية الذي يديره نائب رئيس النظام السابق عزت الدوري دليل واضح وقوي على وجود تنظيم القاعدة.
ومن ثم فإن العثور على كميات غير قليلة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في ساحة الاعتصام، يعني وجود نوايا مبيتة لدى الجهات المسؤولة والمشرفة على الاعتصام لارتكاب أعمال ارهابية.
اضافة الى ذلك، فإن استخدام الناس، لا سيما الأطفال كدروع بشرية من خلال احتجازهم رغما عنهم، يعزز القناعات المسبقة بأن القضية تتجاوز كثيراً مطالب تتعلق بإطلاق سراح سجناء، وإلغاء قانون المساءلة والعدالة ومنح حقوق تقاعدية لذوي المشمولين بهذا القانون.
وإذا عدنا قليلا الى الوراء فيمكن القول أنه في حال كانت الاستفزازات التي حصلت قبل عدة أسابيع قرب ساحة اعتصام المتظاهرين في مدينة الفلوجة التابعة لمحافظة الأنبار قد تم احتواؤها بأقل قدر من الخسائر والاستحقاقات، فإن محاولة بعض الأطراف تكرار التجربة في مكان آخر أشارت بوضوح إلى أن أجندات خلط الأوراق مازالت قائمة وستبقى قائمة ما دام هناك من يشجع ويدعم ويوجه، وما تبين صباح الثلاثاء لا يحتاج الى المزيد من الأدلة والحجج والبراهين.
كيف بدأت أزمة ساحة اعتصام الحويجة؟..
ماحصل هناك ابتداء هو إندلاع اشتباكات قرب نقطة تفتيش مشتركة لقوات الجيش والشركة تقع على مقربة من ساحة الاعتصام وذلك يوم الجمعة الماضي، الموافق التاسع عشر من شهر نيسان/ابريل الجاري، حينما اعتدى بعض المتظاهرين المسلحين على عناصر نقطة التفتيش وقتلوا واحداً منهم وأصابوا آخرين، والجندي الذي قتل هو سعد ابراهيم محمد الجبوري ابن شقيقة عضو البرلمان العراقي الشيخ ابراهيم نايف المهيري.
والقضية الاخرى التي ذكرها قائد الفرقة الثانية عشرة التابعة لعمليات قوات دجلة اللواء الركن محمد خلف الدليمي، وهي ان المسؤولين عن الاعتصام احتجزوا مئة وخمسين شاباً ومنعوهم من مغادرة ساحة الاعتصام، الامر الذي دفع عوائلهم الى الاستنجاد بقوات الجيش لتخليص ابنائهم.
ويقول اللواء الدليمي “ان مناشدات وصلت إلينا من أهالي قرية المدينة وجميلة والعاكولة الذين يشارك أبناؤهم بتظاهرة الحويجة التي جرت عقب صلاة الجمعة الماضية في ساحة الاعتصام وتدعو هذه المناشدات إلى التدخل وانقاذ أبنائهم، حيث ان 150 شابا أرادوا الخروج من ساحة الاعتصام لكن قياديين في ساحة الاعتصام هما خالد صبار العبز والناطق باسم معتصمي الحويجة حامد الجبوري هددوهم بالقتل”.
ولا شك ان عملية احتجاز عشرات الاشخاص واستخدامهم “دروعا بشرية” يعد اسلوباً جديداً قررت الجماعات المناهضة للحكومة اتباعه من أجل الحصول على التنازلات، وتحقيق انتصار على الحكومة، والانتصار على الحكومة يعني إلغاء الدستور وافشال العملية السياسية، وفرض لغة القوة والعنف والإرهاب في الشارع العراقي!.
وفي الوقت الذي اكتفت القوات الحكومية بمحاصرة ساحة الاعتصام وقطع المؤن والإمدادات عن المعتصمين لارغامهم على اخلاء سبيل المحتجزين وانهاء الاعتصام، وأجلت خيار استخدام القوة العسكرية ضدهم، وجعله بمثابة (اخر الدواء الكي)، راح المسؤولون عن الاعتصام والمؤيدون لهم يتحدثون عن كارثة انسانية يتعرض لها المعتصمون وبينهم اطفال وشيوخ، جراء الحصار المفروض من قبل قوات الجيش، ويتحدثون عن اعتقالات عشوائية.
وقد دخل على خط الحملات ضد الحكومة وزير المالية المستقيل رافع العيساوي، ورجل الأعمال والممول الرئيسي للقائمة العراقية خميس الخنجر ومفتي الديار العراقية الشيخ رافع العامري، والملفت أن الاخير صوّر ما يجري في الحويجة بأنه شبيه بحصار جيش عمر بن زياد لجيش الامام الحسين في كربلاء!.
وجاءت تطورات الأحداث في مدينة الحويجة على خلفية تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في تجمع انتخابي الاسبوع الماضي في محافظة ذي قار(الناصرية) جنوب البلاد هاجم فيها المتظاهرين والمعتصمين بشدة، واصفا اياهم بـالمتمردين، ومحذرهم من موقف آخر إذا لم يعودوا إلى التفاهم على أساس الدستور والوحدة الوطنية، بدلاً من التهديد من القوة، قائلا لقد “صبرنا عليهم كثيراً لأنهم أخوة لنا ولكن عليهم أن يعتقدوا إن جد الجد وانتهت الفرصة ولم تعد الحكمة تنفع مع هؤلاء المتمردين فسيكون لنا حديث آخر وللشعب العراقي موقف لن يكون بعيدا، وأن الحرص على دماء العراقيين ربما يقتضي منا موقفاً مسؤولاً في محاسبة كل الذين يخرجون عن القانون”.
وهذه التصريحات خلقت ردود فعل حادة في الوسط السني، وحتى من شخصيات تبنت مؤخراً مواقف قريبة من مواقف الحكومة مثل رئيس جبهة الحوار الوطني صالح المطلك، الذي انتقد المالكي على تصريحاته الاستفزازية.
وترى بعض الاوساط السياسية ان التصعيد في الحويجة جاء لتلافي الضعف والتفكك الحاصل في صفوف المتظاهرين بالأنبار، والذي وصل الى حد حصول مصادمات بين فريق يدعو الى التهدئة والتفاوض مع الحكومة، وفريق أخر يصر على مواصلة التظاهرات رافعا شعار الزحف الى بغداد واسقاط الحكومة الطائفية وانهاء العملية السياسية برمتها.
ومن زاوية أخرى ربما أريد من ورائها التغطية على أي نجاح يمكن ان يتحقق في انتخابات مجالس المحافظات، وهذه الرؤية فيها قدر كبير من الواقعية، لا سيما وان افتعال الأزمة حصل قبل يوم واحد من موعد الانتخابات.
وبما ان الاوضاع في مدينة كركوك تمتاز بقدر أكبر من الحساسية والخطورة بسبب التركيبة السكانية المتداخلة قوميا ومذهبيا، ووجود نوع من الشد والجذب فيما بين بعض المكونات، ناهيك عن كون كركوك تعد من أبرز المناطق المتنازع عليها، فإن الحكومة ربما ترى لهذه الاسباب ولغيرها أنها ملزمة ان تتخذ إجراءات حازمة ومدروسة، وعدم ترك الأمور تفلت من عقالها.
وما فعلته الحكومة العراقية صباح يوم الثلاثاء، حينما قررت اللجوء الى خيار (اخر الدواء الكي) ، مع ما يمكن ان يترتب عليه من تبعات سلبية كان لابد منه، وربما يكون ضروريا اللجوء اليه في أماكن اخرى اذا تطلب الأمر.
[email protected]