خاص: إعداد- سماح عادل
“محمود السعيد”، كاتب مصري شاب، من مواليد المنصورة، كان يعمل طبيبا صيدليا، توفى فجأة وهو في السادسة والعشرين من عمره، وبعد وفاته اكتشف أهله أن له كتابات أدبية مميزة، وتخليدا لذكراه طبعوا نصوصه في كتابين هما (عزف على ناي حزين، وحلم لم يكتمل).
جيل ثورة 25 يناير..
في مقالة بعنوان (وداعاً دكتور محمود السعيد) يقول المؤلف والمخرج “فارس البحيري”: “هو وأنا ننتمي إلى جيل واحد، وجيل واحد تأخذ أكثر من معني. وسآخذ المعني الأوسع، الذي يشير إلي الحياة تحت سقف عصر بأكمله. وبهذا المعني فإننا ننتمي إلي جيل ثورة 25 يناير. وهذا الجيل الذي وضع أهدافه ومبادئ مرحلته، ضد الحرب النفسية والإعلامية التي شنها عليه الجيل القديم الذي ينتمي إلى عصر مبارك البائد. وهذا الجيل، جيل ثورة يناير العظيمة، حملت عنه الثورة، ” المجد والأخطاء ” بتعبير الجوهري في رثائه واكتفي هو بالتأييد والفخر بالمنجزات، التي كان بعضها حقيقياً وباقيا، وكثير منها لم يصمد لاختبار الزمن. نحن جيل أعظم ثورة في تاريخ مصر حملنا كل قسمات هذا الجيل، وأهمها الإخفاق في تحقيق الإنجاز حتى نهايته، وترجمة المطلوب كاملاً في أرض الواقع. قد لا ينطبق هذا على الجميع. ولكنه يشير إلى الملمح الأكثر عمومية.. بدأ الدكتور محمود السعيد، في مطلع الألفنيات، مبشراً ببزوغ نجم في سماء الكتابة النثرية أو القصة القصيرة. لفت إليه الأنظار، من خلال كتاباته علي صفحته الشخصية علي موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” وعندما قرأت له أكثر من موضوع، أصبحنا أصدقاء. عبر “فيس بوك” ومن حينها وأنا شخصياً أعتبر الدكتور “محمود السعيد” كاتب مهم جداً بل يكاد يكون من أهم الأدباء الراسخين من أدباء القمة. ورغم أن كتاباته كانت معظمها من خلال صفحته الشخصية فقط. ولكنه لم يتوقف عن الإبداع الأدبي، واختار لنشرها، المجلات الإلكترونية غير الورقية، والنشرات التي يصدرها أدباء شباب، بجهودههم الخاصة، وأحيانا مجلات الأقاليم، في مسقط رأسه محافظة المنصورة”.
نسمة صافية..
ويضيف: “في هذه المنطقة البعيدة عن الأضواء، وجد نفسه، يبث من خلال صفحاتها أشواقه ورؤاه، لم يتزحزح عنها، لا يريد أن يكون نجماً، ولا يسعي للوقوف تحت أي أضواء، قانعاً بجمهوره من خلال صفحته، أحبه الذين قرأوا له، وأحسوا بما تنطوي عليه جوانحه، من طيبة، ونفور من التزاحم والعراك علي المغانم. كانت مطالبه في الحياة قليلة، جميعها للإنسانية بشكل عام ولم يحس أن الحياة ضنت عليه بشيء، لم يطمع إلا في أكثر من أجازة صيف، في (جنته الصغيرة) في إحدى قرى محافظة المنصورة، والتي تقوم أسرته الآن ببناء مسجد ومكتبه تحمل اسمه في نفس المكان لتصبح جنة حقيقة كما تمنى كانت قرية الأحلام بالنسبة له. كانت متعته أن يرى أفراد أسرته مستمتعين بالحياة والنسمات والانطلاق. وكان هو يكفيه كوب الشاي الذي يتناوله مع كتاب أو رواية يستمتع بقراءتها في الهواء الطلق. ثم يعود بعده سعيدا للتمتع بالجلوس على كرسي غير بعيد من الكاونتر داخل إحدى الصيدليات حيث كان يعمل دكتور صيدلي مستريحا في بالطوه الأبيض الفضفاض حيث كان يرسل لنا يوماً بعد يوم صوره من دخل تلك الصيدلية.. وعلي ذكر الأجيال، فنحن اليوم من جيل الشباب بعد فشل ثورتنا هذا الجيل تدب في أوصاله الشيخوخة. ويقترب أفراده من الثمانين من عمرهم دون أن يصل أحدهم إلى الثلاثون من السن الحقيقي. شيخوخة تدفعهم إلى الاعتكاف ومغالبة الأمراض النفسية وأسوار العزلة. ومن الغريب، أنه من بيننا، لم يكن يعاني من أي مرض، أو يتناول أي أدوية، ولكن فجأة سمعنا خبر وفاة الدكتور محمود السعيد، وأطبقت عليه علامات النهاية. ليسدل الستار عن حكاية شاب كان يحمل بين ضلوعه حب وأمل وسعادة وبهجة لجيل كامل كان قد فقد الأمل في الغد.كان إنساناً طيباً ذا قلب سليم. ( رحمه الله ) فقد مر في حياتنا كنسمة صافية .. بابتسامة زاهدة في كل المغريات”..
براعة الرقصة..
وفي مقالة أخرى بعنوان: (أغنية غير مكتملة) تقول الكاتبة “مريم الساعدي”: ” ما الذي يمنعنا من المضي قُدماً بمشاريعنا الناقصة غير تصديقنا أنها ناقصة وفقاً لمعايير الرأي العام الذي تربى على فكرة الاكتمال المكون من تمهيد ومتن وصراع وشخصيات وحوار وخاتمة، وكأن الجميع يحظى برفاهية الوقت ذاته، وكأن قيمة الوقت في امتداده وليس كثافته، وكأن الأشخاص الذين غادروا الحياة باكراً لم يحظوا بحصتهم العادلة من الحياة، وهل يقاس العمر بالسنين؟ «محمود السعيد» شاب مصري عرفه الكثير من الناس عبر صفحته في “الفيسبوك” شاب عبقري واسع المعرفة والاطلاع، إنسان بقلب واسع بحجم العالم، تحدث كثيراً حول الحب والفرح والتسامح وحللّ بخبرة حكيم أسباب بؤس العالم ومنسوب التعاسة الذي يزيد أو يقل في كل تجربة فردية، محمود مات فجأة في السادسة والعشرين من عمره مخلّفاً هوة فراغ عميقة في كل من عرفه ولامس شعلة روحه، هل نقول عنه تجربة لم تكتمل؟ وهو الذي تأمل في الحياة كمن عاش مئة عام؟ ربما نحتاج أن نؤمن أن الاكتمال مجرد مفهوم، وأن العبرة في براعة الرقصة، وإن لم تدم سوى لحظة، وكم من لحظات دامت ذكراها في القلب سنين”.
نصوص لمحمود السعيد..
إحدي عشر مشهداً للقاهِرة
لا أخاف من شيء
لا أريد شيئاً.. لا أفكر
لا أتردد
فقط: أدع الأشياء تكون
و ببساطةِ, معها أنساب
و لا أعرف الفرق ما بين حدود جسديّ
و آخر السماء..
وجنتيّ الفتاة ذات الثمانيّة عشر عاماً
الخطوط المُتناهيّة النعومة في انسيابِها
على عينيّ..
بياضُها يشحذُنيّ بذكريّات لا أعرفُها,
لذيذة..
و امرأةُ قد نضجت حتى مرّ بِها أربعون خريفاً
زاد من جاذبيتها لأن تكون في جلال الآلهة
حين مرّت على يديّ..
قتلتنيّ,
كأني كنتُ فيها, و انسللتُ ليّ,
فجأةَ..
لا أخاف من شيء
لا أريد شيئاً.. لا أفكر
لا أتردد
فقط: أدع الأشياء تكون
مُتشردُ بسيط, بملابس باليّه, على طرف الطريق, في إحدى شوارع القاهِرة, يجلس متكئاً على الحائِط: كأريكة الملك, يرتب حاجياته: علبة سجائر رخيصة, زجاجة من الصودا, و بعض الماء في كوِب مُتسخ: الملك يبوّخ حاشيته, وجهه بسيط.. لا سعيد, لا حزين.. والناس من حولِه تهرع في خطوط مُستقيمة, معوجّة, ليسوا هُنا.. هو هُنا, قد انحني الزمان وقبّل وجنته, والمدينة كُلها تجلسُ كالطِفل تحت قدميّه.. وهو من ينثر في السماء ضوئها في الصباح, نحنُ لا نعلم بعد.. لكن هو, وحده, من يفعل ذلك.
و ببساطةِ, معها أنساب
و لا أعرف الفرق ما بين حدود جسديّ
و بين آخر السماء ..
أنا لا أعرف حقاً إن كُنت أحبكِ أم لا
أنتِ فتاة رائعةُ حقاً: لأن لا أعرف أي شيء
صغيران كُنا حين غنينا سوياً
لحناً للحُب..
و ها نحن, بعد أكثر من مائِة عام
قد رجع صدى اللّحن القديم لقلبينا,
و لو كانت المدينة ترحم:
لاستنبتكِ أطفالاً ها هنا!
الآن!
البوابة المنحوتة بالنقش الإلهيّ
الفارسيّ القديم
و الرجل العجوز.. صاحب الحانوت,
حيث.. ينحتُ, بفنِه
تذكاراتِ صغيرة للموّت,
للمقابِر خلّفه..
العمود المطليّ بالقار
نُهبت أسلاكه الكهربائيّة,
و عششت على أطرافِه
المُنهكّة..
العصافير, وصُلبت أحلام
الدوّلة..
لا أخاف من شيء
لا أريد شيئاً.. لا أفكر
لا أتردد
فقط: أدع الأشياء تكون
و ببساطةِ, معها أنساب
هل تدركون ما في جسد المرأةِ من بهاء؟ أنا لا أتحدث عن إمكانيات الشهوّة, أنا أتحدث هنا, و بإيجاز, عن الفنّ.. نعم الفنّ, خطوط أجسادهِن حينما تتحركُ تُأتي بالمعجزات.. تنير المشهد الإنسانيّ الكئيب بالحيويّة, والرغبة.
الأشياء الجميلة كُلها تحدث بالقرب من امرأة..
و لا أعرف الفرق ما بين حدود جسديّ,
و بين آخر السماء..
أنا أعرف جيداً, يا فتاتيّ الحسناء..
أنّ الحُب نصفه جنون,
و النصف الآخر: عبث
فإما أن تحبينيّ,
أو تحبي أشيائك التافهة
فلا فرق عندي بين:
الحُب, والشعوذة الروحيّة
بين فِعل الحُب,
و الاستبداد!
للموسيقا,
أن تنحت العالم, كما نريد..
و للعالم,
أن ينحتنا, كما يريد..
للتناقضُ,
أن يراقص المنطق..
و لخرافاتنا الصغيرة,
لأن تكون معجزات..
للإنسان,
أن يحيّا.. كما يريد,
في أيّ مكان أراد..
و لأن ينساب..
و للقاهِرة:
أن تًوصف بالمديّنة.
……
خطأ مطبعي في القصيدة..
في الشِتاء..
تتلبسُني الذكريات, الممزقة.. كالهوّس
و أُدهش.. من قابليّة جسدي للبقاء, رُغم ما كان!
“و أين الآن, أنت, منكِ..
سوى شظايا ذاكرة!”
أدافع عن قانون البقاء, بهلاوس.. طبيب نفسيّ!
“في حقيقة الأمر..
أنا أذهب إليه: لأني أستطيع النوم قليلاً..
حيث, نام.. من أوتوا الشجاعة, وانتحروا!”
و بجوار المرآة:
بجانب فرشاة الأسنان, شريطٌ مُنوم..
على الأقل, ليّ الآن, حق اختيار, ولو كان وحيداً!
“أخذتم منيّ حياتي, و لن تأخذوا مني موتي!”
أهلوّس..
على في الهلوسّة.. أجد الله!
” أين كنت من كل ما كان؟”
ثم أصّلي..
لعل الله يغفر, هلوسّتي
و هوسّي بالسؤال.. عن ما كان في الإمكان!
” أنت الآن, لست إلا شظايا ذاكرة!
و أيامك الباقيّة: أنفاسُ الموت.. تلفحك!
لكن, لست حزيناً..
فليس هناك, ما يدّعي الحزن..
و ليس هناك, ما يدّعي غير الحزن..
… لكن الحزن أقوى حضوراً!
… هه
…. الحياة لابّد أن تستمر!”
يبحث عن ابتسامته, في صندوق قِمامة!
يلتقطُها, بأوساخها..
و يعطيها, مدعياً, البله.. لكل المارة!
لوّحات إعلانات تجاريّة..
تحمل, نفس الابتسامة البلهاء..
لكن هذه المرة ليست متسخة..
أسنانهم بيضاء.. كأنهم في الجنّة!
” هؤلاء, ليسوا بشراً..
هم بقايا..
بقايا, تحاول جاهدةً..
أن تكون لوحةً تجاريةً, ولو مرة !”
“آه, أبي..
لو كنت غجرياً..
آه كنت, مجرد بدائيّاَ..
لكنت في الغابةِ, ملكاً..
فوق الشجر..
أحمل أصابع الموّز..
و أطعم القرود – أجدادنا !”
مازال.. يزال, ليزول.. يمشي سيراً على الشظايا, بين البقايا!
“كل القرود فلاسفُةً!”
مازال..
يزال..
ليزول..
يمشي سيراً على البقايّا.. شظايّا!
“كل القرود فلاسفُةٌ!”
مازال..
عارياً!
يزال..
في سيّارة الإسعاف..
” كُل القرود فلاسفُةُ!
و أنا مُجرد.. خطأ مطبعيُ, في قصيدة
خّلصِني.. منك!”
يزول ..
بجرعة مهديء, زائدة!
……
أنتِ وشظايا الذاكرة..
“خلِصّني منكَ..
كي لا أنسّاك!
و لا تُشعِل النارَ بالنايّ..
خلِصّني..
منكِ, ومنه..
ومن حُلم لُقيّاك!”
هكذا, قالت عيناها.. ليّ
لمّا هطل المطر!
لم يُكن, في المكان.. سوايّ
و كنت, كعادتيّ, لمّا يغتالني, الحنيُنُ..
أمر بأرضِ الذكرى!
شظايّا, شظايّا.. من الوردِ, شظايّا..
جاءت ذكراك!
“عصفورُ, أنّا صغيرٌ..
سقطَ, صريعُ السُكرِ..
في عيناك”
قُلتُ..
و لمّا, داعبتُ, الشمسُ..
شبحكِ في سقف الغُرفة..
انتزعتُ بقايايّ, من بِحر الألمِ..
” لم, أعد.. أنا!”
حفرتُ, بطيف النورِ الأولِ..
اسمكِ, على الجفنين..
و رغمٌ الشمس, أغلقتُ عينايّ!
لن أنساكِ!
لأننيّ, كليّ.. بقايا ذكراك!
…….
من احتفاليات القمر..
رائِعةُ كانت الأرضُ حينئذ.
غائصةُ في السِر كالفجر.
و كانت الخطى على الجِسر هينة.
ينكسرُ من تحتِها الهواء: شظىً موسيقيّة.
برقُ أخضر.
من نافذتِه جاء المطرُ الورديّ.
عصفُ أغاني المطرُ واللوّن أحال الخطى جناحيّن.
” يا نجمٌ, ما صرتُ عال.
خبرني الآن ما السِر؟
أحقاً, أنا التجلي الحرُّ لك؟”
….
محاولة رقم مائة لأظل حيا..
تتساقط الوجوه..
كالشمع
و عينيه: الشمس
كم كره الألم المزيّف..
و كم أحزنه أنهم..
دنسوا قدسيّة الحزّن
ألف وجه, ووجه..
سائرون..
من حوله..
و العيون, نصب.. أشياء, لا يُدركها
ربمّا, رُماديّة الأسفلت!
أو, أمل مٌنتظر!
لا يدري!
فقط ..
وقف هناك, في عرض الطريق..
و رمّى عنه.. عُيونَهم!
و انتظر أن يرى..
و لأول مرةِ, رأي!
مشهد, سينمائي بطيء..
فيّه كان عليّه تعلُم الصمت.. موتاً!
و لم يتكلم..
و لم يحرك ساكناً..
فقط..
أخفى عيون البراءة.. كي لا يلتقطها الغراب
و صمت!
وجد الله.. وسجد!
ثم ملّ الفراغ..
اغتال صمتِّه, فقال:
الحريَة..
أن نلبس الحقيقةَ, رماديّة الحزن!
و أن نصنع من عبثيّة الحزن: معنىً!
و للبدايّات, دهشةُ النهايّات..
فلمَ الخوفُ..
تنفسّوا تمرداً..
و اخرجوا قليلاً عن النصِّ!
قالوا:
من أين أتيت؟!
لقد خرجت عن النص!
اندثر, بُحلمك.. ولا تخدش النصّ!
أنا لا أريدُ أن أعيش وحيداً!
و حُلمي.. أبداً, ما كان ليّ!
و رغُم هذا..
و رغماً عن النصّ..
سأظلُ مبتسماً!
هناك, أمل ما, ما يزال
يُحاول: أن يكون.. فيّ
لذا..
سأظل حياً, ولو قليلاً.