18 ديسمبر، 2024 10:50 م

الانحراف السياسي والاحتضار الديمقراطي

الانحراف السياسي والاحتضار الديمقراطي

 الانحراف هو الخروج عن الخطّ والميلان عنه . فإذا خرج السائق عن خطّ السير نقول إنّه انحرف عن الطريق . وإذا سار النهرُ باتجاه آخر غير مجراه الرئيس ، نقول إنّ النهر انحرف عن مجراه وإذا خرجت المركبة الفضائية عن مدارها ، قلنا إنّ المركبة انحرفت عن المدار .وللانحراف أهمية محورية بالنسبة إلى اهتمامات النظرية الاجتماعية . فبالنسبة إلى دوركهايم كانت الجريمة أمراً طبيعياًووظيفياً بالنسبة إلى النظام الاجتماعي، حيث تعمل على تعميق المشاعر الجمعية والتضامن وتوضيح وتعزيز قيم ومبادئ المجموعة. وكانت فكرته الأصلية عن اللامعيارية أو حالة اللاطبيعية كمصدر للسلوك المنحرف قد جرى استعارتها والبناء عليها وتنقيحها من قبل باحثين آخرين. فالانحراف السياسي لم يأتي من فراغ وليس بعيدة عن الانحرافات الأخرى التي تقع في المجتمع ؛ أن كانت أخلاقية أو فكرية أو سلوكية أو عقائدية , وقد جاءت الكثير من الأحاديث التي تحكي صوراً أخرى من هذه الانحرافات رابطة بين علل النهوض والسقوط وعوامل الثبات والتحلل وسنن التغيير والتحول . وإن الدراسات النظرية الأصلية التي قام بها توماس هوبز و “سجموند فرويد حول السلوك المنحرف تؤكد على أن السلوك المنحرف ما هو إلا صراع بين رغبات وطموحات ودوافع الفرد من جهة ووسائل الضبط الاجتماعي والسلوكي التي يعتمدها المجتمع أو الجماعة من جهة أخرى .

تلعب ضعف الثقافة السياسية من جهل في المعرفة السياسية أو الفهم الخاطئ , وفساد التنشئة السياسية  من غياب وضعف مناهج التعليم السياسية , وغياب القدوة السياسية الصالحة ذات الصفات الحميدة التي يتشبهون بها وبمنهجها وتغليب السيئ عليها , وهناك أيضاً سوء السياسة , كل هذه تؤدي إلى الانحراف السياسي ونشأة الانحراف فيه استيلاء الأفكار الرديئة من انحرافات فكرية وسلوك ذو توجه شاذ . وعندما يتم تأسيس الحزب السياسي على وفق أيديولوجية سياسية فأنها تقوم بالعمل على تقديم كافة نشاطاتها على وفق هذه الأيديولوجية والقيم التي تحملها من أجل تحقيق الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها وممكن هذه الأهداف تجعل الأحزاب وقادتها التخلي عن بعض المبادئ من اجل تحقيقها وأحياناً الابتعاد عن تحقيق الديمقراطية لأنها تقف في طريقها وبهذا فأن الانحراف قد تحقق على وفق هذه الرؤية وهي المصلحة ,وبهذا فأن من الصعوبة تخمين المسار الديمقراطي لدى هذه الأحزاب والأساس القوي التي تعمل على كسب الجماهير لها . وعندما تفقد الأحزاب المبادئ الاخلاقيةفي تحقيق مصالحها فان المجتمع هنا سيفقد الثقة بها مما يؤدي بالتالي الى خلق فجوة بين المجتمع والاحزاب السياسية . وكل ما تقدم عن الاحزاب فأنه يسري كذلك على جميع المنظمات او المؤسسات أو الجمعيات السياسية  وهي ظاهرة عامة في السياسات العامة .

أن الهدف الأساسي لأحزابنا السياسية هو القوة والموقف والامتيازات ، التي هي على استعداد للقيامبكل شيء وكل شيء. هذا بالضبط هو الاتجاه نفسه الذي فشل في ديمقراطيتنا في الماضي وأدى إلىظهور ديكتاتورية تتطلب من الناس خوض صراعات مراراً وتكراراً من أجل حقوقهم الديمقراطيةوحريتهم .الديمقراطية غالبا ما تصبح المبادئ والقيم التي تحملها مجرد أحاديث يتغنون بها لكسب الجماهير والتوجه بها نحو السلطة ولكن ما ان تكون او تعترض السبيل لتحقيق المكاسب فأن التخلي عنها أمر هين بالنسبة لها وبهذا سيشكل الانحراف عن المسارات الديمقراطية امراً طبيعياً وهذا ما يؤدي الى تعطيل تحقيق الديمقراطية في بلداننا عامة والعراق منها .

فقد كتب استاذ القانون وعلم الاجتماع “انطوان نصري مسرة” بحثاً عن (حياة وموت الديمقراطية) في بلداننا العربية , فيقول:  ان مسارات الديمقراطية  في عالم اليوم مهددة بأشكال مختلفة في الديمقراطيات الراسخة كما في حالات التحول الديمقراطي . فالديمقراطيات الراسخة مهددة إذا افتقرت إلى الالتزام النضالي وتحول الجيل الجديد الذي لم يشارك في النضالات الديمقراطية الكبرى الى مجرد مستهلك لحقوق الإنسان , وفي المجتمعات قيد التحول الديمقراطي تُستغل غالباً الآليات الديمقراطية كستار لممارسات لا ديمقراطية وتتحول أحزاب وجمعيات وتعددية وسائل إعلام الى أبواق للسلطة , أو تصدر قوانين متوافقة في نصوصها مع التشريعات الدولية ولكنها لا تطبق ولا أحد يتابع فعاليتها وتتحول ملكيات عربية سابقة الى جمهوريات ملكية وراثية تحت ستار صناديق اقتراع ومقترعين وليس ناخبين . يدين الكاتب في مقاربته للكاتب الامريكي الكبير”والت وايتمان” الذي يقول ” أن تاريخ الديمقراطية لا يكتب لأنها بناء مستمر . ويوضح “جون كين” : (أثبت الزمن هذا القول ونحن اليوم على عتبة القرن الحادي والعشرين ونرى إمكانية إحياء أو هدم نموذج جديد من الديمقراطية ولا نعرف ماذا سيفرز رصد الديمقراطية ومصيرها الذي لم يحدد بعد ) .  

ويستخلص الكاتب من حرب اسرائيل على لبنان دلائل حول مستقبل الديمقراطية تتخطى الشرق الأوسط فيقول : ( نتكلم على السلام الديمقراطي لنكسب عملياً الأصدقاء) . قال بيل كلينتون : (خلال الحرب الباردة حاربنا لأحتواء تهديد المؤسسات الحرة والان نعمل لتوسيع حلقة الدول التي تعيش في ظل هذه المؤسسات الحرة لتحقيق حلمنا , وهو أنه سيأتي يوم حيث كل أنسان في العالم سيعطي حق التعبير الكامل في ديمقراطيات مزدهرة تتعاون الواحدة مع الاخرى وتعيش بسلام ) . هذا الحلم حوله الاكاديميون الى قانون مفترض ((قانون السلام الديمقراطي))وتفسيره الصحيح : ( الديمقراطيات مسالمة ولا تذهب قط لمحاربة الديمقراطيات الاخرى ) . هذا تفسير مضلل لأن الدول الديمقراطية تصبح أحياناً معادية لجيرانها الديمقراطيين . وهذا مادلت عليه حرب اسرائيل على لبنان في 12تموز 2006 على ان الديمقراطيات تعيش بخوف مع جيرانها عندما تهدم بناها التحتية والنظام الاقتصادي وتقتل المواطنين . الدول الديمقراطية ليست جوهرياً وطبيعياً دولاً مسالمة كل شيء يتعلق بحكوماتها . يدل القرن الحادي والعشرين على ان الديمقراطيات تترك وراءها اكثر من ضحية يشنون رؤساء الدول حروباً لأسباب ملفقة يتجرعها الناخب ولو لوقت فقط .