قصيدة فبأي آلاء الشعوب تكذبان وضعها احمد مطر في ثمانية مقاطع حرص فيها جميعا على أن تنتهي بعبارة (( فبأي آلاء الولاة تكذبان )) تيمنا بما ورد في إحدى وثلاثين أية من الآيات الثمان والسبعون الواردة في سورة الرحمن المباركة .
تأتي سورة الرحمن المباركة على وتيرة واحدة مكونة من مقطعين : المقطع الأول تعداد لما لا ينبغي له الحصر العد من نعم الباري التي ابتدأت برحمة وسعت كل شيء حتى غدت عنوانا لقدرته (( جل وعلا )) وأسلوبا لملكوته فمنها اشتق اسميه الرحمن الرحيم وبها عمر الأرض وسن الشرائع وتلطف على الخلق والصيرورة بل لا جدوى من الخلق كله إن لم يستحكمه علم القرآن وينفرد بانقياد روحه حب المعبود الذي لا يختاله حبا آخر ولا ينال منه رضا غيره ثم توالت النعم ونضجت صورها وتعددت أشكالها مناسبة تنعش الروح وتذكي العاطفة ما بين بيان سطر فكان كالسحر يحجب عنك ما تراه ويريك ما يحجب عنك وشمس انتصبت وقمر حولها كلا بقدر معلوم ، ونجم في أقصى السماء وشجر في أقصى الأرض تناغما بالسجود وتماثلا بالطاعة وأرضا مهدت فأخرجت زينتها وبحارا مرجت فعصمت كنها ويوما لا يشبهه يوم آخر أدرجت ملامحه وذكرت خصائله تنشق له السماء وترفع فيه المسائلة ويبتدأ الحساب منكشفا بالمحيا والرسوم ما بين حميم آن أو مقام في جنتان .
وإذا كانت هذه هي ملامح المقطع الأول من وتيرة السورة المباركة فأن ملامح المقطع الثاني تكاد تنحصر في إيقاع قرآني مكين يتجلى بغلبة الطاغوت على الإنسان وجحده لهذه النعم بل ونكرانها من ذاتها حتى يكاد هذا المقطع يتكرر بعد نكران كل نعمة تأكيدا لتلك النعمة وتأكيدا أيضا لنكران البشر لها رغم دنوها منه واستئناسه بفيئها .
يسرد مطر قصيدته ” فبأي آلاء الشعوب تكذبان ” وهي الحقيقة التي أكدتها السورة المباركة في المقطع الثاني ليؤكد في المقطع الأول حقيقة أسمى وأجل :
ـ الكل فان .
ـ لم يبق إلا وجه ربك ذي الجلالة واللجان .
غير أنه اختتم مقطعه بإجراء تعديل على العنوان ليضحى ” فبأي آلاء الولاة تكذبان ” .
إن استبدال لفظة الشعوب كما وردت في العنوان بلفظة الولاة كما وردت في نهايات المقاطع يدل على أن مطر سيعمد إلى التعامل بحرفنة مثالية مع النص القرآني (( فبأي آلاء ربكما تكذبان )) ترمي إلى المحافظة على الوتيرة الثنائية التقطيع من جهة والنزوع نحو استجلاء معاناة إنسانية متجددة ومعاصرة لا تنحرف ولا تميل بل وتؤكد السيرة المنهجية للشاعر في عده القصيدة نتاج لملحة ما بينه وبين السلطة وهو ما يبدو واضحا ومكرسا في المقطع الثاني :
وله القبان . .
وله الإذاعة . .
وفي المقطع الثالث
عقد الرهان . .
ودعا إلى نصر الحوافر . .
بعدما قتل الحصان . .
وفي المقطع الخامس
من مات مات . .
ومن نجا . .
سيموت في البلد الجديد . .
من الهوان . .
وفي المقطع السادس
في الفخ تلهث فأرتان . .
تتطلعان إلى الخلاص . .
على يد القطط السمان . .
خلق المواطن مجرما حتى يدان . .
فالنعم التي جاد بها الوالي على شعبه بحاجة ماسة إلى التعداد والاستنكار من جوار حسان تتكسر على أمواج خصورهن الثورات وتنقش على ربى صدورهن الشعارات . . إلى مذياع يهلل في الإبكار والعشي مجددا سلطانه واقفا أو جاثيا خائفا أو منتشيا فالخوف والاستغاثة في حضرة السلطان مسالمة ودعة حرصا منه على دم الجواري فأعتق الحصان واستبدال الصهيل بالربابة والكمان وابتاع ما يشاء من الغلمان . . وليس للرعية التي تملك مثل هذا المذياع إلا أن تنصت له . . له وحده وليس لها أن تتساءل أو تتحرى أو تشترك بغير ما تمجد السلطان فالأصل في الرعية أنهم متأمرون وأن الأدلة إذا ما شاءت الصدف قد تثبت العكس ولكن الصدف دائما لم تشأ وأن الهوان هو الذي سيأتي على الجديد من الحياة بعدما أتى الموت على القديم منها .
وإذا كانت السورة المباركة قد انتهت إلى نتيجتين متكافئتين مستقر في صقر أو مقام في جنان فإن قصيدة مطر قد انتهت إلى نتيجتين أيضا .
في كل شبر من دم . .
سيذاب كرسي . .
ويسقط بهلوان . .
فبأي آلاء الشعوب تكذبان . .
عرش منهدم وملك زائل أنقضه الظلم الذي أقيم عليه أم صحوة متفتحة وعنفوان أبدي ابتنته الحرية التي تسترخص الدماء .
حاول مطر الإفادة القصوى من ثنائية التقطيع التي سلكتها السورة المباركة ولما وظفها مستعينا بأدواته ومستدركا هدفه المنشود عاد ليؤكد ما انتهت إليه السورة المباركة من ثنائية الخلاص . . ولكن الحقيقة الجديرة بالتنويه هنا والتي تحتسب لمطر أنه وفي خضم هذا التوظيف لم يكن له أن ينسى أو يتناسى حقيقة الكون الأزلية أو الله عز وجل مصدر النعم وسبيلها فله وحده تعقد وبشكره تدوم وبأمره تزول وأن الكون سينتهى حتما إليه ليقر فيه ما استقرأته كتبه وما قرأه أنبيائه ورسله وهي حقيقة كرسها مطر بوضوح في المقطع الأول قبل أن يأتي على سورة مستشفا من نورها الإلهي .