خاص: حاورته- سماح عادل
“رياض المولى” كاتب عراقي، لديه عملين روائيين..هما (منعطف الرشيد) رواية صدرت عام ٢٠١٦ و (الدكتور عوني) رواية صدرت بنهاية عام ٢٠١٨.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- لم تستهويني الكتابة بقدر شغفي بالقراءة، وأنا في عمر مبكر جدا بدأت اكتشف عالم الكتب لاسيما قصص الأطفال التي تتناول المغامرة والخيال العلمي، حتى شعرت أن هناك رغبة بدأت تنمو بداخلي لتجريب الكتابة في مجال الخيال العلمي، فابتكرت شخصيات أسطورية وأقحمتها في أحداث خيالية، وتلك المحاولة اعتبرها كبذرة أولى غرستها في عقلي الباطن، ولم أتوقف عن التجريب حتى كتبت القصة القصيرة وجمعت عددا منها في دفتر وكان ذلك في العشرينات من عمري، وجربت أيضا كتابة القصة الطويلة وكتبت قصتين.
لكن ميدان الرواية الرحب بدأ يجذبني حتى وجدت نفسي فيه، فما امتلكه من خزين معرفي وثقافي كناتج طبيعي عن قراءات كثيرة، فضلا عن تجارب حياة طويلة، خلقت عندي خميرة لا بأس بها وظفتها في كتابة أول رواية لي وأنا أدخل في عقدي الرابع.
(كتابات) في رواية (دكتور عوني) تناولت عالم الجن.. لما وهل في رأيك هو موجود خارج حدود العالم الواقعي؟
- عالم الجن موجود في تراثنا الشعبي وما يعزز من وجوده حقيقة هو تعرض القران الكريم له في بعض آياته، لكن تفصيلاته كعالم غير مادي يحوي مخلوقات شفافة أو نارية مازال لغزا عجز العلم والعلماء عن اكتشاف كنهه، وهذا ما جعل “الدكتور عوني” عالِم النفس يفشل في فهمه علميا، حتى استخدم أساليب أخرى في سبيل الولوج إليه أو استحضار مخلوقات غير مادية بغية اكتشاف المزيد من أسرار ذلك العالم الغامض.
(كتابات) في رواية (الدكتور عوني) تناولت الاقتتال الطائفي وهجرة الخبرات بعد غزو أمريكا.. حدثنا عن ذلك؟
- بعد الغزو الأمريكي على العراق في عام 2003 انهار الوضع برمته، فتهدمت أركان النظام وذابت فلوله وتسربت قياداته السياسية والعسكرية والأمنية حتى أصبح الوضع العام سائبا، مما شجع على بروز عصابات مسلحة تلونت بصبغات متعددة، إجرامية، طائفية، بعثية مخابراتية.. فضلا عن دخول مجاميع غريبة عبر الحدود وهي تحمل أجندات معينة، فبدأت تقتحم المشهد العراقي بقوة بالرغم من وجود القوات الأمريكية كقوة مساندة للقوات العراقية المتشكلة حديثا أبان فترة مجلس الحكم الذي أفرز عددا من الوزارات الأمنية والعسكرية والخدمية، لكن ظل أداء كل تلك القوات ضعيفا متذبذبا أمام شراسة الهجمات المسلحة.
فضلا عن الصراع الطائفي والمناطقي الذي أخذ ينمو بشكل مخيف حتى أصبح مثل الوباء، فبدأت التصفيات الجسدية والقتل على الهوية أمرا شائعا وكان للكفاءات العلمية والطبية حصة كبيرة جراء ذلك العنف حتى شهدت تلك الفترة، والفترات التي تبعتها هجرة كثير من العقول العراقية اللامعة إلى دول الجوار فضلا عن الدول الأوربية وهي تبحث عن استقرار عائلي ووظيفي.
(كتابات) لما اتجهت لكتابة الرواية وهل تسعى للتأريخ للمجتمع العراقي وأحداثه؟
- التاريخ العراقي مهم بالنسبة لي ككاتب، ولكونه يعتبر مادة دسمة لما يحمل من أحداث جسام وعلى مدى عقود طويلة، حتى أصبح فضاء الرواية الرحب هو الأولى والأجدر في استيعاب مجرياته وتوظيفها روائيا من أجل صناعة تاريخ جديد بنكهة أدبية محببة ومفهومة ومستساغة، حتى أن هناك بعض الظواهر الاجتماعية قد تم توظيفها وجعلها كثيمات أساسية في الرواية، وأدب الحرب والسجون أيضا أخذ حصص كبيرة من السرد الروائي.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟
- الثقافة في العراق مرت بتحولات كبيرة على مدى عقود طويلة، لكنها لم تسر بخط بياني مستقيم أو تصاعدي بل كان متذبذبا يعكس، سلبا أو إيجابا، العهود السياسية التي مرت بتاريخ العراق، متأثرةً بشكل واضح بما تفرزه تلك العهود وما تحمله من إيديولوجيات معينة، خصوصا أنها في كثير من الأحيان وقعت تحت هيمنة السلطات الشمولية في محاولة لقولبتها فيما ينسجم ومزاج تلك السلطة أو هذا الحزب.
لكنها رغم ذلك ظلت متمتعة ببصيص من ضوء الحرية، حرية الأفكار والرؤى، لكنها حرية مشوبة بالحذر والاحتراز. ولا يمكن التأسيس لنهضة ثقافية شاملة إذا لم تتخلص الثقافة من قيود الارتباط بمؤسسات الدولة وهيمنتها وإفلاتها من سطوة الرقابة التي تقتل الإبداع وتحجم من دور المثقف في الحياة والمجتمع.
(كتابات) ما السر وراء الفاعليات الثقافية في العراق في الوقت الحالي؟
- ثقافة ما بعد التغيير، أي تغيير النظام بعد 2003، أخذت لونا وطابعا آخر يختلف عما كان قبل التغيير، وكان للحرية دورا كبير في الارتقاء بمستوى الثقافة في العراق بعدما كانت محجمة بسبب قيود النظام الشمولي، حيث أصبحت أدوات المعرفة متاحة بشكل ميسر، فضلا عن انتشار الكتاب دون مراقبة أو قيود مع الانتعاش الاقتصادي الذي يعد هو الآخر عاملا فاعلا في دعم الثقافة من خلال زيادة المطبوعات، حتى أصبح سوق الكتب رائجا جدا والإقبال على الكتاب بات مُلحا مع ظهور طاقات إبداعية واعدة ساهمت برفد السوق بنتاجات أدبية وثقافية رصينة، وعموما الانفتاح الثقافي الذي شهده الشارع العراقي بعد تغيير النظام كان واضحا وهو ينحو منحىً تصاعديا .
(كتابات) هل ساعدتك وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول للقراء؟
- بلا شك إن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بشكل كبير في إيصال ما أكتب إلى القراء لاسيما من خلال مجموعات وصفحات الثقافة والقراءة والتي تعنى بالروايات والأدب بشكل عام، وهذا اعتبره نافذة مهمة في ترويج النتاج الأدبي وطرح المقتبسات والمراجعات والأفكار والرؤى من أجل إحداث تفاعل معرفي وثقافي.
(كتابات) ما رأيك في النشر في العراق والعالم العربي وهل واجهت مشاكل في النشر؟
- مشكلة النشر بالعراق من أعقد المشاكل التي يواجهها الكاتب العراقي، وبرأي لا توجد دار نشر ترتقي إلى مستوى الجودة من ناحية الاهتمام بالمطبوع والكاتب، وأغلب الدور للأسف تهتم بالجانب المادي على حساب جودة الأعمال الإبداعية، وهناك ضعف واضح من ناحية الترويج والتوزيع، وكثير من الأحيان يتم بخس حق الكاتب وضياع جهده من قبل بعض الدور عن قصد أو دون قصد مما يصيبه بالإحباط وربما يهجر الكتابة الإبداعية إلى الأبد.
(كتابات) ما رأيك في حركة النقد وهل تواكب غزارة الإنتاج الأدبي في العراق والعالم العربي؟
- النقد عملية مهمة جدا في التقويم الإبداعي والمعرفي والثقافي، وأدب بلا نقد أشبه ما يكون بالفوضى، فكل شيء يحكمه ضابط وضابط الأدب هو النقد، بل هو المشذب لعملية الإنتاج الأدبي، ومن خلاله يرتقي الوعي وتنهض الثقافة ويعلو سقف الإبداع على مستوى الرواية والقصة والشعر وغيرها من فنون الأدب، لكن للأسف لم نعد نرى نقدا حقيقيا على أرض واقع الثقافة إلا ما ندر، وهو لا يتناسب مطلقا مع تضخم الإنتاج الأدبي بغثه وسمينه، بل أصبح يميل نحو المحاباة والهرولة خلف الأسماء اللامعة ذات الصيت الذائع، أو العلاقات الشخصية أو من يدفع أكثر، لكن رغم كل ذلك يوجد بعض النقاد ممن يمارسون تلك العملية بموضوعية وحرفية عالية وهم قلة للأسف، لكنني شخصيا أرى فيهم بصيص أمل أو اعتبرهم أحجار زاوية تسند هيكل الأدب وتمنعه من السقوط كليا.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب وما هو جديدك؟
- الصعوبات التي ممكن أن تواجهني ككاتب روائي هو ضيق الوقت، فكما يعرف من له باع بهذا المجال أن العمل الروائي صعب وشاق ويحتاج إلى تركيز عالِ كونه يعتمد على السرد الطويل وتنوع الشخصيات واللعب على أكثر من ثيمة مع المحافظة على الإيقاع التصاعدي للرواية وإنهاء مصائر الشخوص بطرق منطقية وفقا لماهية أو طبيعة الأحداث، وهذا الموضوع يستهلك وقتا طويلا من التفكير والترتيب وإعادة الصياغة، ومع كل ذلك فالكتابة ربما تتزاحم مع مسؤوليات أخرى من قبيل الالتزامات العائلية وأعباء الوظيفة وهموم الدراسة، فيصبح الوقت ضيقا إذا لم يكن منعدما في ممارسة الكتابة الروائية.
أما جديدي فقد أنهيت قبل فترة رواية طويلة اسمها (جذور القصب)، رواية اجتماعية واقعية تحكي قصة ثلاثة أجيال، تبدأ من فترة العشرينات إبان الاحتلال الإنكليزي وتنتهي بالحفيد الذي يواكب أحداث المرحلة الراهنة حيث الاحتلال الأمريكي، وما بين الجد والحفيد تكمن ثيمة الرواية التي أساسها الفقر والعوز والظلم والحرمان.
جزء من رواية ( الدكتور عوني)..
لم تنطق الفتاة بل نهضت ممتعضة وهي تتجه نحو كبيرتهن لتنحني أمامها وتسرّ بأذنها بعض الكلمات،أما المرأة الكبيرة فكانت تنظر إلى الدكتور عوني بعيون متفرسة وهي تسمع كلمات مطلبه على لسان الفتاة، فتبادلت معها بعض الكلمات ونظراتها ما زالت شاخصة نحو الرجل الذي كان يجلس بهدوء وهو يراقب الوضع متقمصا دور الزبون الذي جاء لينفّس عن كبته الجنسي، دقائق معدودة وخرجت فتاة من غرفتها، جميلة نوعا ما لكنها كانت تمتلك جاذبية أخّاذة، تتميز بوجه بيضوي ذي بشرة حنطية اللون، وعيناها صغيرتان يحيط بهما الكحل بشكل مفرط ليعطيهما حجما أكبر، جسدها كان مكتنزا وجذابا هو الآخر حيث برزت مفاتنه بشكل لافت للنظر،نظرت نحو الزبون الجديد وامتعضت قليلا، رجل بالخمسينات من عمره، غريب المنظر والهيأة يطلبها، فتبادلت بعض الكلمات مع المرأة الكبيرة وبدا عليها الانفعال، لكنها هدأت أخيرا وتوجهت نحو الدكتور عوني الذي كان هادئا ومسترخيا ومراقبا ما كان يحدث.
– هل طلبتني..؟ قالت الفتاة بصوت عذب جميل وهي تقف أمام الرجل.
– نعم.. ردّ باقتضاب وهو ينظر إلى عينيها بود محاولا استمالة جانبها إليه.
– ولماذا أنا بالذات؟!
– هل تمانعين بإكمال الحديث في الغرفة.. أجاب وهو يدسّ بيدها حفنة من المال.
تغير تعبير وجهها حيث انبسطت قليلا وهزّت رأسها موافقة على طلبه، سار الاثنان نحو الغرفة وسط نظرات الآخرين لاسيما المرأة الكبيرة التي كانت تجلس على كرسي عند زاوية الباحة الوسطية لذلك البيت، ممسكة سيجارتها بإصبعين ضخمين اصطبغتا بالحناء.
جلس على كرسي وُضع جانبا بينما تمددت الفتاة على السرير وهي تتمطى بتغنج واضح وقد أبرزت مفاتن جسدها في محاولة لإثارة زبونها الذي جاء في مهمة أخرى بعيدة عن الجنس والمضاجعة، لم يكترث لحركات الفتاة المثيرة بل بقي جالسا في مكانه كتمثال شمعي مجرد من الحواس فنطق قائلا وبلهجة جادة:
– سأعطيك مزيدا من المال إذا قضينا هذه الساعة بالكلام.
توقفت الفتاة عن التغنج وغطت ساقيها ثم أسندت ظهرها على رأس السرير وردت قائلة باستغراب:
– أي كلام؟! ماذا تعني؟
– سأكون صريحا معك أنا هنا في مهمة أخرى.
– أي مهمة؟! من أنت بالضبط..؟ رّدت بنبرة متوترة.
– هل تعرفين هادي..؟
– أي هادي؟ .. لا أعرف أحدا بهذا الاسم.
– هادي البصري، الشاب الأسمر.
– البصري… ردّدت الاسم بلهجة ممطوطة مصحوبة بابتسامة عدم اكتراث.
– نعم البصري يقول إن هناك علاقة حب تجمعكما.
– علاقة من طرف واحد، هذا الشخص مخبول يريد أن يضاجعني دون مقابل أي هراء هذا.
فتبين له أن المسألة هي مسألة مال وليس عواطف أو مشاعر حسبما قال له حينها، وتلك العاهرة نطقتها صراحة دون مواربة أو تردد،ومعها حق بذلك كونها تمتهن حرفتها كأيّ حرفة أخرى، وتطلب مالا مقابل خدماتها، لكن هادي يبدو أنه تمادى كثيرا وتفاعل معها حتى شغفته حبا دون إرادة منها، لكنه يبدو أنه مرهف الإحساس ويحاول التمسك بأيّ شخص يفيض عليه من حنانه وعاطفته، وهذا ما لمسه من سناء عندما أغدقت عليه بقليل من عطفها مصحوبا بالممارسة الجنسية، ردّها كان حاسما ونهائيا واختصر الطريق أمام الدكتور عوني الذي فتح معها قناة أخرى، قناة حوارية أراد من خلالها معرفة إرهاصات ماضيها الذي دفعها للولوج إلى عالم العهر وبيع الأجساد، اضطربت وتمنعت وعدته أمرا شخصيا لا يحق لأحد التدخل فيه.. فرد متسائلا :
– وجسدك الذي تهبينه للآخرين ألا يُعد أمرا شخصيا وخاصا بك؟
– أنا أهبه مقابل مال وليس مجانا.. أجابت متحدية.
– لكن أنا أيضا أعطيتك مالا فلماذا لا تعطيني من وقتكِ؟
– كان اتفاقنا أن نتكلم عن موضوع البصري وليس موضوعي.
– انتهى موضوع البصري وبقي لدينا متسع من الوقت.. رّد مبتسما وهو ينظر إليها.
– وماذا ستفعل بهذا الوقت..؟ تساءلت متذاكية.
– نتكلم.. أجاب ببرود.
– وبماذا تريد أن تتكلم؟
– أريد أن اعرف السبب الذي قذف بك إلى هنا؟ والدافع الذي جعلك تبيعين جسدك؟
تأملت سؤاله طويلا وهي تنظر إليه، ثم تناولت سيجارة من علبة كانت موضوعة على الطاولة القريبة من رأس السرير،أشعلتها بعود ثقاب وراحت تنفث دخانها بتوتر واضح وكأنها تستذكر شيئا مؤلما..ثم قالت:
– أنا ضحية أمي.
وصمتت لتسحب نفسا قويا من عقب سيجارتها وهي تحاول استذكار المزيد من أسباب معاناتها ونهاية مصيرها كعاهرة في بيوت البغاء.. ثم أردفت قائلة:
– أنا أكبر أخوتي الثلاثة، كنت صغيرة عندما جاؤوا بوالدي شهيدا وهو ملفوف بالعلم ووضعوه وسط الدار، كنت في حالة صدمة نفسية جعلتني أقف مذهولة أمام منظر التابوت المسجى أمامنا، حتى شعرت بانقطاع الصرخات المدوية الصادرة من أمي التي مزقت ملابسها حتى بان ثدياها وهما يتدليان على خشبة التابوت مع أصوات أخرى مرعبة، لكني لم أعد أسمع أيّ صوت بعدها وكأني أصبت بالصمم، بقيت هكذا أياما طويلة وأنا لا أسمع سوى ذاتي التي تحولت إلى كائن خرافي مخيف،فهجرت الناس واعتكفت بإحدى غرف البيت وكأني هاربة.
– ماذا تفسرين شعورك بالهرب..؟ سألها وهو يصغي باهتمام لمقدمة قصتها الحزينة.
– لا أعرف، هربت وحسب وكأني أنا الذي تسببت باستشهاد والدي.
– شعور غريب! هل كان والدك قاسيا معك..؟
– نعم، لست أنا وحسب بل جميعنا،ففي كل مرة يجلدنا بحزامه العسكري العريض قبل التحاقه إلى الجبهة، كان يصبّ جامّ غضبه على أمي، ثم يتحول نحونا ويجلدنا بذلك الحزام، وكانت أمي تدعو عليه بأن يرجع ملفوفا بعلم، وكنت أنا أدعو معها لكن بقلبي خوف من بطشه، وفعلا جاؤوا به ملفوفا بالعلم، فقد تحققت دعوة أمي ودعوتي الخفية أيضا.
– ولماذا كان يتعامل معكم بهذه الطريقة القاسية..؟
– كان ناقما على الوضع برمته، فالعسكرية أخذته من حياته المدنية التي كان يعيشها مستقرا إلى أن اندلعت نار الحرب، فسيق هو مع الآلاف من الرجال إلى محرقة الجبهة، كان يخشى الموت بشكل مرعب، وكان ينفِّس عن خوفه بضربنا.
– كيف أصبح حالكم بعد موته؟ هل شعرتم بنوع من الحرية..؟
– تبعثرنا.. قالت كلمتها وهي تضغط بعقب السيجارة في قعر المنفضة.
– كيف؟.. تساءل مهتما.
– ذهبت حقوق الشهيد منا ونحن أولى بها من أيّ أحد، فقد نهبها أخوة أبي عنوة بعد أن هددوا أمي بالطرد وأخذ الأطفال منها، واكتفينا براتبه التقاعدي الذي لا يسد رمق أربعة أطفال وامرأة.
– ما هذه القسوة..؟قال متأثرا.
– والأقسى إن أمي كانت شابة في الثلاثينات من عمرها، وأصبحت فجأة دون زوج ولا معيل، فحاولت الاتكاء على أيّ أحد حتى يشاركها في حملها الثقيل لم يكن هناك من كان مستعدا للارتباط بامرأة أرملة وبرقبتها أربعة أطفال سوى حسنين المصري.
وتناولت سيجارة أخرى من علبتها وأشعلتها بيد مرتجفة، وبدأت تسحب منها أنفاسها وتنفثها بقوة وكأنها تطلق آهات وآلاما وصرخات.. ثم عقّبت قائلة:
– كان حسنين المصري يعمل فرّانا في الفرن القريب من بيتنا، نمت علاقته بوالدتي بعد أن حاول التحرش بها كلما ذهبت لشراء الصمون، فكانت تصدّه بعنف، حتى إنها في بعض المرات كانت تضربه بمداسها الإسفنجي على رأسه، كفّ قليلا لكنه كان يلاحقها بعينيه المتعطشتين.
– وكيف نمت العلاقة بعد تلك الصدّة العنيفة؟
– بعد استشهاد والدي وبعد أن يئست من التشبث بأذيال الرجال الذين حاولت استمالتهم للارتباط بها حتى يكونوا عونا لها، رمت أحمالها على حسنين المصري وطلبت منه أن يتزوجها، فقبل على مضض بعد أن كان يخطط لشيء آخر.
– ماذا تقصدين لشيء آخر..؟
– أراد أن يرتبط بها بصورة غير شرعية ويضاجعها سفاحا لكنها رفضت وعرضت عليه الزواج فإن وافق فبيتها مفتوح له، وإن أبى فكل واحد يذهب بطريقه.
– وماذا كان ردّه؟
– قلت لك وافق على مضض بعد أن عرضت عليه بيتها الذي سيتخذه مسكنا له بعد أن كان يبيت بالفرن مع بقية أصدقائه.
– أكيد شعرتم بامتعاض وأنتم ترون غريبا يجتاح بيتكم وينام مع أمكم حتى لو كان زوجا لها..؟
– ليس هذا وحسب،بل تحول حسنين المصري إلى كابوس مرعب، حيث تغيرت علاقته تجاهنا وأصبح يعاملنا بعنف بعدما كان طيبا معنا، لكن الأسوأ من ذلك إنه بات ينظر نحوي بنظرات متفرسة نهمة لاسيما بعد أن بلغتُ قليلا واستدار خصري وبرزت أثدائي.
– هل تحرش بك..؟ سأل مستغربا.
– بعد بلوغي بدأ يتحرش بي عندما يخلو البيت من أمي، لكن خوفي من تبعات ذلك الأمر جعلني لا أتجرأ بإخبارها بما كان يفعل نحوي.
– ماذا كان يفعل معك بالضبط؟
– كان يعبث بأعضائي الجنسية، ويضمني إلى جسده النتن الرائحة، فكنت أشعر بقضيبه المنتصب من خلف سرواله وهو ينغرس بجسدي الغضّ، كان شعورا غريبا يجتاحني وأنا أتعرض لمثل هذا الانتهاك الصارخ من قبل غريب اجتاح بيتنا تلبية لرغبة أمي في تخفيف الحمل عنها، وكذلك ليروي عطشها الجنسي بعد أن أصبحت بلا زوج.
كان الدكتور عوني يصغي باهتمام لكلمات المرأة التي كانت تزفر بقوة كلما تذكرت ماضيها المؤلم، وكيف كان يحوم حولها كشبح مخيف يطبق على ذاكرتها المعبّأة بمأساة فظيعة، بدءا من نعومة أظفارها، وانتهاء بوجودها في ماخور فلا ماضي مشرف ممكن أن يخفف وقع صدمة الحاضر عنها، ولا حاضر يؤمّن لها عيشا كريما كباقي البشر، ولا مستقبل يمكن أن يحتضنها ويبعد عنها متاهات المجهول المظلمة، رصيدها جسدها العنيف وهيأته الجاذبة لكنه رصيد مؤقت سرعان ما يتلاشى ويضمحل بمرور الوقت والزمن فالأجساد تبلى وتتجعد وتفقد حيويتها ونظارتها فتصبح عرضة للرمي إلى مزبلة الإهمال والركون وهذا ما تخشاه سناء التي تفكر بذلك الموضوع كثيرا فمستقبلها على المحك ومرهون بديمومة عنفوان جسدها الذي تحافظ عليه قدر ما تستطيع من أجل إطالة فترة شبابه ونظارته.. أكملت قائلة بوجه عبوس:
– فتطوّر الأمر حتى أصبح دون قيود.. ونظرت إلى الدكتور عوني وكأنها تريد أن تستفزه بعبارتها هذه.. فتساءل هو الآخر عن تلك القيود مستغربا.. فردّت قائلة وهي تتنهد بحرقة:
– حاول هتك عذريتي أكثر من مرة بالرغم من صغر سني.
– ولماذا لم تصديه أو تفضحيه أمام الآخرين..؟ ردّ منفعلا.
– كنت أخشى من تبعات الموقف ثم إنني كنت أتلذذ بما كان يفعله بي برغم كرهي له واشمئزازي بما يفعله معي.
– وهل استمر هذا الحال طويلا..؟
– استمر الحال حتى تكاملت أعضائي التناسلية فأصبحت العملية الجنسية كاملة.
– ماذا؟ ردّ مندهشا.
– نعم لقد أصبحت كخليلته، يضاجعني أينما يريد وكيف ما يريد، لقد ربّاني على يديه مثل ما يقولون حتى أصبحت ملكه.
– ووالدتك ماذا كان موقفها..؟
– أمي لا تعلم شيئا، لكنها أصبحت متوترة وسريعة الغضب لأنه ابتعد عنها مكتفيا بي.
– ألم تشكّ بتصرفاته تجاهك ولو لوهلة؟
– اعترتها شكوك كثيرة، لكنها لم تمسك شيئا ضدنا فحسنين كان شديد الحرص والسرية والتكتم.
– وبالنسبة لإخوتك ما بالهم..؟
– أخوتي كانوا منشغلين بدراستهم، ولم يكترثوا لما يحصل فبالرغم من تعثرهم بالدراسة إلا أنهم وجدوا شيئا ما ينشغلون به عن هموم حياتهم التي تتمحور حول المصري حسنين وفظاظته المقيتة وأمي المتصابية العصبية المزاج.
– وأنتِ؟
– أنا..؟! ردّت مترددة.. ثم أردفت قائلة:
– أنا كنت أمهم الثانية، فبعد أن تركت دراستي وأنا لم أتخطَّ بعد عتبة الابتدائية أصبحت مسئولة عنهم وعن كل ما يتعلق بهم.
– ولماذا تركتِ دراستك..؟
– بعد استشهاد والدي مررت بأزمة نفسية خانقة جعلتني أبدو كمجنونة في عيون الآخرين فلازمت غرفتي لوقت طويل وأنا أشعر بوحدة قاتلة، فكرهت كل شيء حتى الدراسة فتركتها.
– هل مانعت والدتك قرارك هذا؟
– بل شجعتني عليه حتى أخفّف عنها حمل أعمال البيت وتنصرف هي لنفسها.
– أكمليأريد أن أسمع نهايتك مع المصري.
– كما أخبرتك فقد أصبحت خليلته لوقت طويل،إلى أن دخلنا الكويت عام 1990 وجرى ما جرى من ويلات بعد ذلك، لم نشعر إلا وحسنين قد ترك البيت هاربا.
– هاربا…؟ تساءل وهو يردد الكلمة.
– نعم فقد هرب دون أن يعلمنا برحيله، رجع إلى بلده مع الراجعين من بقية الجنسيات خوفا من لظى الحرب التي باتت على الأبواب، وطبولها أصبحت تُسمَع بقوة.
– لم يطلّق أمك وتركها هكذا معلقة..؟
– نعم لقد وصل به الحال من الخسة والنذالة أنه تركنا هكذا،أمي بدون طلاق وأنا حامل..؟
– تركة ثقيلة.. قال الدكتور عوني معقبا وبملامح متأثرة.
– أصيبت أمي بصدمة نفسية سببت لها ارتفاعا مفاجئا في ضغط دمها حتى أصيبت بجلطة دماغية نتج عنها شلل بجزئها الأيسر، فأصبحت مقعدة لا تفارق كرسيها المدولب.
– وأنتِ..؟
– أنا اكتشفت حملي بعد انقطاع الطمث عني لشهور عدة ففحصت حتى وجدت نفسي حاملا بشهري الرابع.
– وكيف تصرفتِ..؟
– أسقطته عند قابلة مأذونة مقابل مبلغ من المال لكني وصلت حينها إلى حافة الموت فقد نزفت كثيرا وكادت روحي تزهق فتم نقلي إلى المستشفى وأجروا لي اللازم.
– مغامرة خطرة، وهل عرف البقية بقضيتك؟
– نعمفقد أخبرتهم بأني كنت ضحية حسنين المصري وأنا على فراش الموت في المستشفى، اعترفت بعد أن تيقنت من موتي لا محالة، لكن الله نجاني بقدرته.
– وماذا فعلوا..؟
– لم يفعلوا شيئا،أختي الصغرى انخرطت بنوبة بكاء طويل، وبقية أخواني فقد عصرا قبضتيهما وهما يتوعدان المصري لكنها كانت غضبة متأخرة، فقد سافر ورحل دون رجعة.
– وأين أخوتك الآن..؟
فردت متنهدة:
– واحد انتهى مقتولا، والآخر قابع بالسجن، وأختي الصغرى تزوجت من رجل كبير بالسن وسافر بها إلى الأردن.
– ووالدتك؟
– والدتي قابعة في بيتها عاجزة لم يتبقَ لها أحد سواي.
– تقصدين أنك تمكثين معها بالبيت نفسه..؟
– نعم.. فبعد أن أنتهي من عملي هنا أذهب إليهاأعتني بها وأعطيها دواءها.
– وهل تعلم أنك تعملين بماخور..؟
– لا،أخبرها بأني أعمل كممرضة في مستشفى،فلا أريد أن أزيد من معاناتها، ولا أبتغي أن أحمّلها ذنبا فوق ذنبها تجاه نفسها وتجاهنا.
– ولماذا اخترت هذا الطريق؟
– لأنه أسهل طريق، فليس عندي مؤهل علمي أو دراسي حتى أتوظف بهولأنني…..
فتوقفت عن الكلام وهي تشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى من الغرفة.. ففهم الدكتور عوني ما أرادت أن تقوله.. فأكمل هو قائلا:
– بحاجة إلى المال والجنس.
– ليس هذا وحسب بل شعوري المتواصل بأنني عاهرة قد لازمني منذ أمد بعيد.
– منذ أن وضع حسنين المصري يده عليك… أكمل مقاطعا.
– بالضبط منذ تلك اللحظة شعرت بأنني عاهرة، وتصرفت على هذا الأساس حتى أصبح واقعا ملموسا.
لم يعقّب الدكتور عوني، بل اكتفى بالنظر إليها مشفقا وهو يفكر بحجم معاناتها بعد أن ساقتها ظروفها الصعبة إلى هنا، وليس لها ذنب بما آلت إليه تلك الظروف بل كانت ضحية لنزوة منحرفة من حيوان بشري خلا من الرحمة والمروءة والرجولة حتى هتك عرضها وتركها تعاني الفضيحة في مجتمع لا يرحم، فعرضت نفسها للهلاك حتى تتستر على خطيئة لم يكن لها يد في اقترافها، أعاد شريط الأحداث بالمقلوب حتى وجد أن السبب الرئيس لما حصل لتلك المرأة ولغيرها من آلاف الحالات المشابهة هي تلك الحرب العبثية التي لولاها لما اضطر والدها للالتحاق إلى جبهة الحرب ليقتل على أرضها، ولبقي كخيمة على رؤوس عياله، ولما اضطرت زوجته الأرملة إلى البحث عن زوج ليخفف عنها وقع الحياة الصاخبة الثقيلة، لتعثر بالنهاية على شخص غريب لا تعرف شيئا عن ماضيه لتتخذه زوجا حتى يبدأ بالعبث بابنتها ليتركها حاملا بالشهر الرابع وينتهي مطافها في ماخور.