في ذلك المبنى القذر بكل ما فيه جرت أحداث كثيرة في دقائق قليلة لا يمكن لي مغادرتها سريعا فكل واحد منها يصلح أن يكون نافذة كبيرة تشرف على تلك الحقبة ولا يحتاج أحد الى تأمل وفلسفة ليستبين الذي جرى. فقط عليه أن ينظر من هذه النوافذ المشرعة وسيفهم بسهولة ما جرى بل وما يجري الآن فالأمر لم يتغير كثيرا بعد.
وجوه شاحبة يكتظ بها المكان متوزعة على مقاعد خشبية تحمل تنوعا بشكل غريب في كل الملامح والاعمار وقطعا في الأفكار والانتماءات لم يكن يوحدها شيء سوى الظلم الواقع عليها. عيونها شاخصة الى اللاشيء حائرة تنتظر مستقبلا مجهولا بل ولا تدري لماذا هي هنا بالأصل، وهذا ما لفت انتباهي بشدة في ذاك اليوم الرمضاني القائظ فلم اكن اتوقع ان جمعا بهذا الحجم ممن لا دخل له بأي شأن سياسي سوف يكون حاضرا بهذا الكم في هذه المحكمة المختصة بمحاربة أصحاب الرأي. نعم كنت اعرف ان الظلم فاحش ولكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه خيالي وسوف يكون واحدا من معاناة الأيام القادمة بل السنين القادمة بكلمة أدق. ورغم الأحاديث القصيرة التي اجريتها أو سمعتها في فناء تلك القاعة المنخفضة عن مستوى ارض المعسكر الذي كانت فيه إلا أني أدركت اننا سوف نقف أمام قاضي لا يفرق بين اعمى وبصير وليس له من الأمر شيء سوى النطق بجمل كتبها غيره وتبرع هو للتلفظ بها سعيا للوقوع يوما تحت واحدة منها وقد حصل ذلك فعلا.
مع أن رائحة الظلم كانت في كل زاوية وتخنق فضاء القاعة الجرداء من الأثاث إلا من مروحتين معلقتين عاليا الا أن الأنانية وعدم الإحساس كان يمكن أن تراه ماثلا في كثير من حركات وايقاعات الحمقى، فبينما كانت الأحكام تصدر تباعا وترسل جماعات الى الموت واخرى الى السجن بلا ذنب مقترف كانت هناك مجموعة من السجناء تقفز مهللة بمجد القائد وهي تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي تصرخ يحيا العدل. اي عدل هذا الذي رأيتموه وأنتم ترون اخوة معكم يساقون للموت أو السجن؟ هل ينتصب ميزان العدل مستويا فقط لأنكم ظللتم أحياء ولو غرق الكون كله في بحر الظلام. لم يخف أحد رفاقي استنكاره وانزعاجه المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلق بصوت عال مستهجنا هذا الذل المقرف. كان أمرا مريعا فعلا ان تسمع هذه الصيحة من شخص صعد للتو حافي القدمين مجردا من كل حق مدني وانساني بل ومن كل شيء يملكه حتى ملابسه الداخلية ويرجع اليك يتحدث عن العدل. إن هذا المنادي ليس بأحمق وحسب بل انه وامثاله هم من مكن العتاة المجرمين لانهم كانوا جيوش الذل التي يحاربون بها الأحرار.
اذكر ان الحاكم العسكري كان يحاول أن يضفي على جلسته الصورية شكليات قانونية ليظهرها وفق المقاييس فسألنا وبالتأكيد سأل كل المتهمين الذين مروا عليه قبلنا وبعدنا نفس هذا السؤال:
– هل عندك محامي؟
و الإجابة المعتادة تكون بالنفي فمن أين يتأتى لمتهم محروم حتى من رؤية الشمس ان يوكل محاميا ولكن عندما سأل الحاكم أحدنا رد عليه بغير المعتاد وبجواب ساخر
– سيدي، هو اني نعال ما عندي من اين اتي بمحام؟
وطبعا امتلأت بعدها اذني صاحبنا كما آذاننا بحفنة ألفاظ كلها زجر وسباب.
الملابس الرثة والإعياء والشحوب واثار التعذيب البادية على كل احد لم تكن تحتاج الى نباهة للتعرف عليها بل حتى اغفل مغفلي الدنيا كان له أن يعرفها من اول لمحة ولا يحتاج حتى ولا الى نظرة واحدة ليعرف اي قسوة بالغة تعرض لها السجناء ومع ذلك كان الحاكم العسكري يبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التهم الموجهة لهم ويزدري إنكارهم الاعترافات المدونة لأنها انتزعت تحت التعذيب، وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر احدهم الافادة الموجودة أمام الحاكم فقال له صاحبي
– هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نجبر على مخاطبة الضباط والمسؤولين الكبار) لو انك انت بنفسك تعرضت للتعذيب الذي تعرضت اليه انا، لاعترفت انت باي تهمة توجه اليك حتى لو كانت الانتماء الى البوليساريو.
ملاحظة: (البوليساريو منظمة تدعو الى استقلال الصحراء عن المغرب وكان النظام ضدها لأسباب تتعلق بحلفائه ومواقفهم من حربه العبثية) ولا من داع لأحدثكم عن رد فعل الحاكم فانه اصبح امرا ممجوجا مملا.
لم اجد وصفا لتلك المحكمة يليق بها سوى أنها لعبة قمار أكرهت فيها قسرا على المراهنة بحياتك وبكل ما تملك على خيار واحد من بين عدد لا متناهي من الاحتمالات التي يمكن ان تقف عليها الة القمار هذه وعندما تخسر يقول لك صاحب الالة ان المنافسة جرت بعدالة وفق القانون وكان يكون الحظ من نصيبك لو انك اجدت اللعب.
بدأ الحاكم يلقي الاحكام علينا وتبدأ كالعادة او هكذا حصل امامي من اقل الاحكام وهو يذكر هذه العقوبات مشفوعة بمواد قانونية وبدلالة مواد اخرى لا نعرفها ولم نسمع بها وحتى لم نصغ إليه وهو يتلوها ولا حاولنا ذلك لأننا كنا ندرك انها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد لا علاقة لها بأي قانون سوى شريعة الوحوش وأصدقكم القول أني لم أتعرف على هذه المواد إلا بعد سنوات طويلة حين بدأ الفرز الأمني بحسبها في ظرف خاص سوف نتحدث عنه لاحقا، وهذا لم يكن حالي منفردا بل كان اغلب السجناء هكذا والمضحك في هذه القوانين أن المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي حكم بها آخرون بعقوبة الإعدام قبل سنتين فقط. القانون لم يكن سوى جرة قلم ومطاط جدا والأمر على الأرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد ان لم يصبح للقانون سطوة على القائمين به.
عندما بدأ بتلاوة الحكم الأخف لثلاثة رفاق كانوا معنا انتقل بعدها الى الحكم بالمؤبد الى شخص اخر. ولم يتبق إذن بعد المؤبد سوى الإعدام فتسمرنا بذهول ننتظر حكم الموت ولكن كانت المفاجأة أن حصتي واثنين اخريين هو السجن المؤبد أيضا وتنفسنا الصعداء وتبادلنا التهاني جميعا لان المقصلة اخطأت اعناقنا، وللحق فإن أحدهم كنا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين الأمنيين وعندما سمعنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك ايضا لكني نهرته بقسوة و بانفعال مصطنع فلم اكن منزعجا من الحكم بالسجن المؤبد ابدا بل كنت أتوقعه وربما اتمناه كأحسن الحلول المتاحة ولم يحدث أي ردة سلبية عندي. وإنما فعلت ذلك لأني كنت فقط اريد ان اوبخه على ضعفه ومع ذلك اعتذرت له لاحقا لهذه القسوة بعد سنوات مع اني حتى اليوم لا زلت ارى أفعاله مزيجا من جبن وتهور ومع ذلك غفرت له وسامحته تماما لأني أدركت بمرور الأيام أنه ضعيف التكوين نفسيا وحشر نفسه في موضع حرج جدا لا يناسبه بالمرة.
العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها أي كان ولا هو نزوة او طيش مغامرين بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة. سبب فشل كثير من الأعمال التي تبدو أنها في الظاهر ثورية أنها لم تكن كذلك في حقيقتها بل كانت مجرد ردود أفعال وطيش ومغامرة. الثورة فعل إنساني وليس رد فعل على ممارسة خاطئة لأحد، بل هي منهج لتحرير الإنسان من عوالق الغريزية ولا تتوقف في أي زمن وتستمر ابدا مع رحلة الانسان في هذا الوجود، لذا الثوار يواصلون الثورة والطائشون والمتظاهرون بها ينتهي غضبهم الهائج الذي يشبه الثورة عندما ينالوا ما يتوق إليه ظمأ غرائزهم وليس لأنهم تحرروا منها.