بين فترى واخرى تبتكر لنا العملية السياسية مفاجأة جديدة على طريقة “الإثارة” الكوميدية التي تمتاز بالسخرية والضحك على الذقون، لتتحول الى مادة “دسمة” تكشف المواهب التي يتمتع بها “جهابذة” السياسة، ولعل احدثها زيارة صاحب المناصب الامنية المتعددة الجنرال فالح الفياض الى السعودية التي كانت الى وقت قريب “راعية للإرهاب” والمحور المضاد في ملف تحالف البناء.
صحيح ان السياسة ليس فيها صديق دائم او عدو دائم، وقد تجعل المصالح الممنوع مرغوب والحرام حلال، لكن مايحصل في بلادنا تجاوز جميع تلك الاعراف فزيارة الفياض الى الرياض في هذا التوقيت لم تاتي لمصالح البلاد ولحفظ دماء الابناء أبدا،، فهي الورقة الاخيرة التي يمكن استخدامها للحصول على منصب وزير الداخلية الذي اصبح يشكل ازمة في حكومة عادل عبد المهدي، بسبب “الڤيتو” الذي يضعه زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، وقد يكون الفياض حصل على استشارة من الجارة الشرقية بضرورة “التوسط” لدى السعودية بعد ان عجزت ايران وجنرالها قاسم سليماني عن “اقناع” السيد الصدر بقبول الفياض، فكان الخيار الذهاب للرياض التي يعتقد تحالف البناء بانها تمتلك تاثيرا مباشرا على تحالف الاصلاح وفقا لنظام المحاور الذي يطغى على العملية السياسية من خلال الصراع الواضح بين ايران من جهة واميركا والسعودية من جهة اخرى.
لكن اكثر ما يثير الغرابة، تزامن زيارة “الجنرال” الفياض مع تشكيل المجلس الاعلى لمكافحة الفساد الذي اعلن عنه دولة رئيس الوزراء، واعلان السعودية استعادتها 107 مليار دولار من 381 متهما بالفساد، الامر الذي يطرح العديد من “الاحتمالات” عن اسباب تلك الزيارة “التاريخية”، وهنا علينا ان نكون اكثر تفاؤلا ونبتعد عن “التشاؤم” قليلا، فقد يكون الفياض موفدا من قبل السيد عبد المهدي للاستفادة من تجربة الاشقاء في السعودية بكيفية محاسبة الفاسدين التي اخترعها الامير “منشار” محمد بن سلمان بعد حجزه العشرات من اصحاب الاموال في فندق “ريتز كارلتون” في شهر تشرين الثاني من العام 2017، واعتقد بان الكثير مِن القراء او جميعهم ما زالوا يستذكرون تلك الحادثة، وكيف اصبحت “مساومة” هؤلاء الأمراء بشكل علني مقابل تحويل جزء من أموالهم باسم الامير محمد بن سلمان وليس لصالح خزينة الدولة كما يشاع، فهل سيعمل عبد المهدي على الاستفادة من تلك التجربة التي سينقلها الفياض ويحتجز اصحاب رؤوس الاموال من “الساسة” في فندق الرشيد، لياخذ “الجزية” على الطريقة السعودية، وليس لمكافحة الفساد واعادة الاموالها العامة لمستحقيها.
فقصة المجلس الاعلى لمكافحة الفساد قد تكون حلقة “زائدة” في رحم الدولة التي تعاني من “تخمة” كبيرة في قضايا الفساد والأموال “المنهوبة” التي تقدر بنحو 450 مليار دولار خلال اقل من عشر سنوات، ومواقف جديدة تضاف لتعهدات رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي عن مكافحة الفساد، التي صدع رؤوسنا بها خلال مؤتمرات الثلاثاء حتى كنّا نسمع بين فترة واخرى بان “اليد الحديدية” التي هدد بها العبادي لضرب الفاسدين أكلها “الصدأ” ولَم تتحرك من مكانها لاعتبارات عديدة واسباب يمكن تكرارها مع السيد عبد المهدي وأبرزها النفوذ السياسي الذي يتمتع به بعض “الفاسدين”، ورغم التأييد الذي أعلنته بعض القوى السياسية التلك الخطوة، لكن لجنة النزاهة في مجلس النواب أبلغتنا، بان المجلس الجديد يشكل “حلقة زائدة ستعمل على اثقال كاهل الموازنة وسيعمل على سحب البساط من السلطة التشريعية، لكون السلطة التنفيذية ستكون هي الخصم والحكم في الوقت ذاته”.
في حين بدأت اطراف سياسية بقراءة مستقبل المجلس بشكل مبكّر ليس “حبا” بمصلحة البلاد وإنما لمعرفتها بان عبد المهدي لا يستطيع “الصمود” امام مصالح احزابها السياسية ورعايتها لمنظومات من الفساد تمتد جذورها في جميع مفاصل الدولة، فخرجت علينا النائبة عن ائتلاف دولة القانون عالية نصيف لتشبه مجلس مكافحة الفساد بمجلس “قيادة الثورة” في النظام السابق واكدت ان عبد المهدي يسعى لتنصيب نفسه حاكما اوحد للبلاد وماعليه سوى اعلان البيان رقم واحد”، تلك التصريحات حتى وان كانت كلمة “حق يراد بها باطل” لكنها حقيقة لا يمكن لعبد المهدي تجاوزها ومكافحة الفساد من دون التخلص من هيمنة الاحزاب السياسية.
الخلاصة.. ان القوى السياسية التي تسعى للحصول على المناصب بكافة الطرق والوسائل المتاحة لا يمكنها محاربة الفساد او “تجفيف منابعه” وزيارة الفياض الى الرياض خير دليل على ذلك، وقد نرى في الايام المقبلة السيد الفياض “المتمسك بوزارة الداخلية” في جولة الى تل ابيب بحجة مناقشة التنسيق الامني بمباركة من دولة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، اخيرا.. السؤال الذي لابد منه، هل يصلح مجلس عبد المهدي ما أفسدته العملية السياسية؟..