23 ديسمبر، 2024 8:52 م

مؤسستنا التربوية والتقدم العلمي

مؤسستنا التربوية والتقدم العلمي

من المتعارف عليه بين مؤرخي الفترة الحديثة ان النهضة العلمية في العراق تعود الى اوائل القرن التاسع عشر، وان اجلى مظاهر هذه النهضة تلتمس في الحركة الالوسية البغدادية، وفي التعديلات التي ادخلت على النظام التعليمي في اواسط القرن التاسع عشر تحت تأثير موجة التغريب، وفي تأسيس المدارس التبشيرية الاجنبية.
ان هذه الظواهر تشير الى ان النهضة العلمية الحديثة عريقة في العراق، على الاقل من حيث تاريخها. كما ان سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 1921، قد رعت النشاط العلمي واولته اقداراً من الاهتمام. فجلها، دون استثناء، اقرت باهمية هذا الجانب من الانماء وخصته بنسب من موازنات الدولة.
غير ان ثمة واقعاً آخر اقل اشراقاً، هو ان النتاج العلمي ما يزال في عراقنا ضحلاً. فالانتاج الادبي فيه اغزر من الانتاج العلمي، واثر العوامل العاطفية يطغى على حياتنا الفكرية وطريقة معالجتنا لمشكلاتنا العامة، ان في السياسة او الاقتصاد او الاجتماع، والمصالح الفردية او القبلية او الاقليمية تسيطر على الخطط الانمائية، رغم الاعتراف بان التفكير العقلاني الرصين يقضي بضرورة تخطي هذه المصالح لتحقيق التقدم المنشود. وان التفكير العلمي الداعي الى تخطي المصالح الضيقة واعتماد العقل المخطط والالتزام الصارم بقواعد الملاحظة ثم التحليل والاستنتاج ما يزال اضعف اثراً في حياتنا الخاصة والعامة من التفكير العاطفي البعيد عن هذه القواعد.
ثم ان الاسهام العراقي في مجال الابتكار العلمي يكاد يكون مفقوداً. وان ظهر علماء عراقيون افذاذ، فان ثمرة جهودهم قد ظهرت غالباً خارج العراق، في مؤسسات علمية اجنبية، فاقترنت اسماء هؤلاء بها، وكانوا مصدر اعتزازها بهم واعتزازهم بها.
السؤال المطروح، اذا، هو لماذا لم تثمر حتى اليوم هذه النهضة العلمية في مؤسساتنا التربوية والاكاديمية- جامعات، مراكز ابحاث… الثمرة المرجوة، رغم مرور القرنين على هذه النهضة؟ هل السبب موقف متأصل في العقل العراقي ضد العلم والتفكير العلمي، ام هو نظامنا التربوي، ام هو الضياع والقلق الذي يشل الابداع؟ ام هو هذه الاسباب مجتمعة؟
لعلنا اذا تبينا المسببات ان نتوصل الى معالجة موضوعية لواقع نتوق الى الخروج منه، فنمكن من تثمير للطاقات العلمية العراقية تثميراً افضل مما هو حاصل الآن ذلك ان تثمير الطاقات العلمية هو في آخر المطاف المقياس الاساسي لكل تقدم.
الواقع ان المجتمع العراقي الآن مازال ينظر الى العلم نظرة تقدير واجلال، غير ان هذه النظرة ما تزال فردية لا جماعية. فالافراد يبذلون بسخاء في سبيل تعليم اولادهم، غير انهم لا ينفقون بالسخاء نفسه لمساعدة المؤسسات العلمية او المشاريع البحثية، مما يدل على ان الوعي العلمي مازال سطحياً لا يتعدى المصلحة الفردية او العائلية المباشرة الى مصلحة وطنية او اجتماعية عامة. بل ان الاتجاه السائد في المجتمع العراقي الآن هو ان انشاء المؤسسات العلمية والتربوية شأن من شؤون الدولة، فهي التي ترعاها وتوجه سياستها.
من المعلوم، ان المؤسسات التربوية هي التجسيد العملي للنظرية العلمية وللفلسفة التربوية التي نعتمدها. فما النظرية العلمية التي اعتمدها المجتمع العراقي؟ ما فلسفتنا التربوية؟ ما غايتنا واهدافنا التربوية؟
يتبين الدارس لتاريخنا الحديث، ان نظرياتنا العلمية وفلسفتنا التربوية وغاياتنا واهدافنا، مأخوذة دونما تحوير او تبديل يذكر من المجتمع الغربي. فلا اعلم ان المجتمع العراقي الحديث والمعاصر قد انتج فكراً علمياً او تربوياً اصيلاً او فلسفة للعلم او للتربية. بل اننا عموماً اتباع المدرسة البريطانية – الامريكية في هذا المجال. ولقد هجم علينا هذا الفكر وهذه الفلسفة هجمة سريعة خاطفة رافقتها قوة الغرب العسكرية والاقتصادية. فاذا نحن مبهورين بهذا الغرب المتحدي لحضارتنا الاصيلة، في وقت كنا نعاني فيه من جمود فكري وضعف مادي. وتحت تأثير هذا الانبهار تنكرنا لتراثنا ومؤسساته ورحنا نقلد الغرب ونلهث وراءه للحاق به، ونتعلم منه.
ولقد فجعنا يوم ادركنا ان الغرب الذي يدعو الى الحرية والعلم والتقدم لا يريد لنا الحرية ولا العلم ولا التقدم الا بمقدار، بحيث لا نتمكن من الوقوف دون استغلاله لنا والتحكم بمصيرنا. وجاءت الاحداث السياسية تؤيد خيبة املنا بالغرب.
ان سرعة الهجمة الغربية لم تمكنا من تقويم الحضارة الغربية واستيعاد مفاهيمها وهضم هذه المفاهيم هضماً يمكنها من الامتزاج بحضارتنا الاصيلة وتقاليدنا العلمية والفكرية العريقة. لذلك بقيت الحضارة الغربية طلاء سطحياً يكمن وراءه تياران لم نتمكن من التوفيق بينهما: حرص على التراث من جهة، واعجاب بمنجزات الغرب وقوته من جهة اخرى. وسيبقى القلق على المصير سائداً مادمنا غير قادرين على التوفيق بين هذين التيارين. والقلق آفة التفكير العلمي الرصين والانتاج المبدع.
ومما لا شك فيه، ان الاستعمار السياسي والاقتصادي قد اثرا تأثيراً سلبياً على امكانية الاستفادة من العلم الغربي ومشاركتنا فيه. فنحن في العراق معجبون بالغرب ومستاؤون منه، بل ناقمون عليه في آن معاً.
ولكل من هذين الموقفين مسوغات وجيهة. ولو ان العلماء العراقيون استطاعوا ان يفصلوا فصلاً تاماً بين العلم والسياسة، لامكنهم ان يزيلوا سبباً مهماً من اسباب ضعف استفادتهم من النهج العلمي في التفكير الغربي.
اما على الصعيد العلمي والتربوي فقد اخترنا خطاءً او صواباً، القضاء على مؤسساتنا التربوية القديمة- الكتّاب والجامع والمدارس التقليدية- لا ان نطورها. وكذلك كان لا بد ان ننتظر سنوات حتى تترسخ التقاليد الاكاديمية الجديدة قبل ان تؤتي ثمارها. ولعلنا مازلنا في مرحلة ترسيخ هذه التقاليد حتى اليوم، غير ان ذلك يعني التخلي تدريجياً عن تقاليد علمية وتراثية اصيلة. فما هي هذه التقاليد الغربية وما تقاليدنا الاصيلة في المجال العلمي؟
ان المؤسسات التربوية الغربية هي في طبيعتها متطورة ومتجددة، فلا يكاد يمضي عقد من الزمن الا وتشهر كل دولة غربية ثورة تربوية تتناول مناهج الدراسة واساليبها بل واهدافها وفلسفتها. لكن هذه المؤسسات عندما انتقلت الينا جمدت وعجزت عن مسايرة التطور الحاصل لمثيلاتها في الغرب. حتى انها اصبحت في نظر الغرب نفسه تقليدية.
ان نظرة سريعة على المناهج التربوية والاساليب الادارية المتبعة في مؤسساتنا التربوية تظهر لنا اننا نعتمد على الحفظ وحشو ذهن الطالب بالمعلومات، ولا تقيم وزناً يذكر للنشاطات الاجتماعية والفنية والرياضية… ولا نعتمد الاساليب الحديثة في التقويم واختبار المعلومات، وكل ذلك مرفوض في المؤسسات التربوية الحديثة في الغرب.
اما الادارة التربوية عندنا، فيتجلى فيها الجمود بشكل واضح ايضاً. ففكرة المشاركة الطلابية والتعاون الوثيق بين الطالب والاستاذ داخل الصف وخارجه، وتشجيع المبادرة في اختيار اساليب جديدة في التربية.. الخ امور تعارضها غالباً الادارة التربوية عندنا وتعتبرها مخلة بالنظام. اما من حيث التجهيزات المدرسية كالالعاب التثقيفية والمختبرات والمعامل… فمؤسساتنا المعنية اجمالاً مفتقرة اليها بشكل واضح.
ان مقاومة التجديد والتطوير في مؤسستنا التربوية هي التي خيبت امل بعض المربيين بالمؤسسات التربوية الحديثة. ولعل من اهم اسباب الدعوة التي نشهدها اليوم الى احياء المؤسسات والاعراف التربوية التراثية ناتجة عن خيبة الامل هذه.
غير ان ثمة شرطاً آخر من شروط الانتاج العلمي لا يجوز ان يغيب عن اذهاننا. ذلك ان الانتاج العلمي الحديث ليس كما يظن البعض نتيجة جهد فردي يقوم به عالم في مختبره او باحث في مكتبه، بل هو في اغلب الاحيان جهد تعاوني مشترك بين مجموعة من العلماء ينسقون جهودهم وتتكامل ابحاثهم. فما لم يتحقق هذا التعاون والتكامل يتعذر تقدم البحث او الكشف العلمي الجديد. فمؤسسات البحث العلمي هي المكان الجغرافي الذي يتم فيه هذا التعاون والتنسيق والتفاعل بين جهود العلماء.
غير ان هذا لا يعني ان مؤسساتنا يجب ان تكون كبيرة متشعبة الفروع والاختصاص، بل اننا من القائلين بانشاء مؤسسات صغيرة ذات تخصصات محددة تحديداً ضيقاً. ذلك ان المؤسسات الكبرى تحتاج الى كفاءات ادارية عالية يندر وجودها في العراق. فلنخفف ما امكن من اعباء الادارية عن مؤسساتنا العلمية.
فالجامعات الكبيرة المعدة لاستقبال عشرات الالوف من الطلبة ومئات الاساتذة لا تصلح لعراقنا. وان فيها هدراً هائلاً للطاقة البشرية والفكرية والمادية بفعل سوء الادارة، فضلاً عن ان العلاقات الانسانية تتردى في هذه المجمعات الكبرى ويضيع هذا التفاعل الفكري بين الاستاذ والطالب وهو تفاعل ضروري لتنشئة العلماء. فالعلم لا يتقدم الا اذا توفر له المناخ والبيئة العلمية، وهذا لا يتوفر كما يجب في المؤسسات العلمية الكبرى التي هي اشبه بمراكز الصناعة الثقيلة.
ان تحقيق الكشوفات العلمية لا يتم الا اذا تفرغ لها اصحاب الكفاءات من العلماء. فمن الاقوال المأثورة ان العلم لا يعطيك بعضه الا اذا اعطيتك كلك. والعالم لا يستطيع ان ينصرف الى العلم الا اذا وجدت المؤسسة التي ترعاه وتكفيه مؤونة التفكير بتأمين عيشه. وقد قال الامام الشافعي: لو كلفت بصلة ما حللت مسألة. والواقع في العراق اليوم، ان مؤسسات البحث قليلة، وان توفرت فامكاناتها ضئيلة فكيف تنتظر انتاجاً علمياً غزيراً والمؤسسات العلمية على ما هي عليه عندنا من قلة العدد وتخصيص والامكانات؟!

* مرتجيات…
1- ان عراقنا مقصر في انشاء المؤسسات التي ترعى البحث العلمي الاصيل وتتبع منجزات العلم في المجتمعات التي سبقتنا في هذا الميدان.
2- لا بد للمؤسسة العلمية العراقية حيثما وجدت من ان تتمتع باستقلالية مالية وادارية كاملة، وان على الدولة والافراد ان يساعدوا المؤسسة العلمية بتقديم الدعم لها لتبقى حرة طليقة في رسم سياستها العلمية بعيدة عن سلطة الدولة وتوجيهها.
3- ان المؤسسة العلمية جزء من المجتمع، عليها ان تتحسس مشكلاته وتستجيب لحاجاته، كما ان عليها ان توجهه بوعي عميق لرسالته الاصيلة وطموحاته المستقبلية.
4- ان مهمة المؤسسة العلمية رعاية التفكير المبدع. فالابداع لا التقليد ولا الاتباع هو الشرط الاساسي للخروج من التخلف الى التقدم. ان المشكلات المستجدة والحاجات المتجددة تحتاج الى تجديد في الفكر وفي اساليب العمل. والخوف من التجديد هو دليل الضعف وعدم الثقة بالنفس والمجتمع الذي يخاف التجديد لا يستطيع ان يواكب الثقة بالنفس ولا ان يكون له الدور رائدٌ في المجتمع الانساني.
5- ان ما ينطبق على موقفنا من التجديد في الفكر العلمي ينطبق ايضاً على تجديد المؤسسات، فلا بد ان ننشئ مؤسسات علمية جديدة لا تكون بالضرورة غربية او شرقية، وانما تكون ثمرة فكرنا المبدع لتستجيب لحاجاتنا وتراعي الاصيل والراسخ من تقاليدنا العلمية ولتكن مؤسساتنا صغيرة في هذه المرحلة تخفيفاً للعبئ الاداري وحرصاً على التفاعل والتواصل بين العالم والمتعلم.
ان التقدم العلمي ليس لغزاً ولا احجية، بل انه حصيلة معطيات ان توفرت تم وان فقدت تعثر. ونحن في العراق لسنا اقل من غيرنا قدرة على تحقيق هذا التقدم. غير ان لذلك شروط.. هو الا يتأخر هذا التقدم الى حد يتعذر عنده اللحاق بالركب العلمي المتحرك بسرعة فائقة، فنكون قد حكمنا على انفسنا بالتبعية الدائمة في هذا الميدان.
[email protected]