في الثامن من حزيران عام 2001 فجعت الأوساط الثقافية برحيل الشاعر ” عزيز السماوي ” الذي يعد واحدا من أهم الشعراء المجددين في بنية القصيدة الشعبية العراقية ، ومناضلا شجاعا وصلبا ، وقف مناصرا لقضايا الفقراء والمحرومين وآثر الموت بعيدا عن أرضه وأهله على ان يساوم الجلادين وأعداء الحرية والانسان ، وظل العناد عنوانا لمسيرته النضالية المفعمة بالتضحية والايثار :
لاتعرك همتي ولاتتعب
وتظل امواكف للمطلب
لو يتعب مجذافي ابظلمه
بجفوفي أنحر شاطي الظلمة
شاعر آمن بقيم التحرر، وانخرط مبكرا في صفوف الحركة الوطنية التي مهدت له الطريق للتعرف على هموم الفقراء ، معلنا ايمانه بصواب مبادئه ( اعلن للوادم .. للوادم آنه الماتنذل افكاره ) ، وبقى ثابتاعلى العهد الذي كتبه بدمه للأرض والقضية :
وابدمي أكتب كل عهودي نيشان ايظل فوك اترابج
وأحضن كل همومي ابكلبي
وماملن لو يمتد دربي …
ولاملن من شيل الراية ..
الا ّ أوصل صوبي ومحبوبي
عن هذه الشجاعة النادرة كتب رفيق مسيرته الابداعية والنضاليه الشاعر ” علي الشباني” يقول :
( ان شاعرا مثل عزيز السماوي ليس بامكانه أزاء المهادنات وانسحاق الشرف الانساني وكرامة الدم تحت اقدام المؤسسات المعادية وكتائب العسف وضياع الانسان سوى الرفض والمجاهدة ، بعد الانجاز الدافق لراية الفقراء وتنقية الرؤيا .. والفكر واختيار الروح والمعاينة التي تضيء القلب والأصابع ) .
عاش السماوي محبا للعراق ومؤمنا بشموخه ( ماينذل عراق الروح هيبة اعله التلال اصكور ) وقدم لأجل هذا الحب التضحيات الكثيرة ومنها غربته الموجعة وحنينه الجارف الى العراق :
أطيحن كلي بجفوفك جثث وادموع
لو شفت هذا الوطن ذل بالمرض والجوع
وهو شاعر مثقف قرأ الأدب العربي الكلاسيكي ودرس نتاجات الكثير من الشعراء خاصة رواد الشعر الحر امثال السياب ونازك وبلند والبياتي ، كما قرأ للكتاب العرب ، نجيب محفوظ وادوار الخراط ، وكان انعكاس قراءاته لماركس واليوت وسارويان واضحا وبالغ الاهمية على بلورة افكاره ورؤاه .
عاش طفولته محاطا بالشعر يقول ( عمري كان حوالي عشر سنوات ، وكنت اسكن مدينة الديوانية وهي متآخمة للريف ، وكنت اسمع النعي الشعري من أمي وهذا أول التأثيرات ، وأتذكر كنت أميل كثيرا الى البكاء وأنا صغير ) وعندما شب وجد نفسه وسط رجال النضال والفكر امثال المناضل الأمي ” عبدالله حلواص ” الذي تعلم السماوي منه الكثير وحفظ له ( ضع جبهتك لصق السماء ، فلا شيء أكثر منك قيمة لأنك الانسان ) وكذلك نهل من افكار المناضل ” كيطان ساجت” (ابو عمش ) حكمته الخالدة ( ثمة من يسقط او يتعثر ومن يتخلف .. لامشكلة ولكن لاتكن غبيا وتقف كالمتفرج فتصبح غريبا عن الوطن ) ، هذه هي مدرسة الفقراء التي تعلم منها السماوي قيم الرجولة والتحرر والانحياز لقضايا المحرومين والتي صقلت تجربته الانسانية والابداعية ووصلت الى مصاف العالمية حيث تذكر الكاتبة البربطانية ” اليكس بيلم ” في معرض دراستها لتجربة الشاعر عزيز السماوي في ديوانه ( النهر الأعمى ) تقول (من المؤسف حقا ان نتاجات شعراء مثل السماوي غير مترجمة الى اللغة الانكليزية ) .
كان “عزيز السماوي ” عاطفيا حد البكاء حينما يواجه مواقف انسانية صعبة ، يصفه صديقه القاضي زهير كاظم عبود بأنه (نقيا حد التصوف وحساسّا حد العشق ) ولهذا عاش بصدق معاناة شعبه والآمه في ظل الأنظمة القمعية ، وهذه العاطفة جعلته عرضة لأمراض شتى ، كان أبرزها العمى الذي اطاح بحلمه في العودة الى العراق حيث مرابع طفولته وفراته وفضاء عشقه الأول ، قضى ايامه يتوسل الطريق الى كل ذلك البهاء الذي فقده بسبب غربته :
نزيف عيوني ياخذني …. العراق امنين
لميني نزف ماآشوف
دليني العراق امنين
كان العراق يمثل له الطفولة والقيم والملاذ والشعور بالاطمئنان والاستقرار وبدون هذه العوالم يجد نفسه :
أنا بلياك سيف ايعارج بروحه
لقداكتوى بلوعة المنافي ، واخذت الغربة تنخر بداخله دون ان يظهر ذلك للآخرين ، فهو كالشجرة التي تقاوم السقوط بالوقوف شامخة بعد ذبولها :
مخنوك مابيّه أسولف للخلك
وأيامي شجرة ضيم مابيها ورك
ولكن ماعاناه وتحمله من ألم لم يفقده ايمانه بقضيته ولم يفت من عزمه في مواجهة قوى العسف والظلم ، بل ظل مزهوا بعناده وكبرياءه :
عيب أرتد …
موش انته اتعرف روحي بجي واعناد حدّ ابحد
ويغيب الشاعرعزيز السماوي بعد معاناة مريرة مع المرض ويدفن هناك في صقيع المدن الباردة غريبا ، تحت سماء لم يألفها ، دون ان تتكحل عيونه بشمس العراق ودون ان يحتضن جسده دفء ارضه التي قدم حياته قربانا لطهارتها .