مغامرة سردية من فضاءات جسد المسرح الى متاهات الر واية !
يخوض المسرحي والروائي العراقي المغترب حازم كمال الدين في مغامرة الكتابة الروائية ، هي الرابعة له، على إيقاعات التمارين المسرحية التجريدية في إطار طقوس تخيّلية ، ولج بهما معاً في متاهات الرواية ، رواية ” مروج جهنم ” بأدواتها الغرائبية وهي تستكشف واقعاً تخيّلياً في أجواء الرعب الناتجة عن الحروب والإرهاب والعنف.
تستمدُّ رواية “مروج جهنّم” أدواتها من الوقائعيّ وتنزع إلى بناء مسار تخييليّ يقول كمال االدين عن روايته لـ “كتابات ” : عملية نشوء وارتقاء البنية السردية لهذه الرواية اعتمدت المغامرة.
قبل عامين قرّرتُ نقل التمارين المسرحيّة اليوميّة من فضاء الصالة إلى فضاء الكتابة، وهي تمارين جسديّة تجريديّة طقوسيّة تخيّليّة.
وعن دوافعه لهذا الخيار يقول : دافعي لمثل هذا الخيار هو أني أحمل الجنسين، جنس المسرح وجنس السرد، وأشعر بحاجة لتنظيم لقاء كيمياوي يضع الرواية في مختبر المسرح وبالعكس.
سألت نفسي هل يمكن تحويل تمارين جسديّة إلى تمارين كتابيّة؟ هل أستطيع استبدال أدوات حركيّة روحانيّة أكروباتيكيّة رياضيّة راقصة بحروف تُشكّل كلمات، وكلمات تشكّل جملا، وجمل تشكلّ فقرات، وفقرات تشكّل فصولا؟
ويجيب حائراً في خياراته طارحاً حزمة أخرى من الأسئلة الشوكية : إذا اعتمدت هذه المقاربة الجسدية فأيّ روابط داخليّة وخارجيّة يمكن أن تنشأ بين الكلمات؟ بين الجمل؟ الفقرات؟
هل حقا إنّ المحتوى هو الروابط؟
هل المحتوى لوحده هو الروابط؟
هل الروابط هي موسيقيّة الكلمة هي الروابط؟ شكلها الخارجي؟ وماذا إذا كانت كلمة موسيقيّة معينة تطرب لها الأسماع وكان محتواها مروّعا؟ هل أسمع تلك الكلمة فأطرب إلى جرسها ثمّ أراها تتجسّد على أرض الواقع فأقرف من محتواها؟
ما هي علاقات التوتّر بين الكلمات وما الذي يدفع كلمة ما للوقوف إلى جانب أخرى عدا المعنى؟
هذه الأسئلة كانت مفاتيح تطبيق التمارين المسرحيّة التجريديّة على الكتابة لأنّ تماريني المسرحيّة تعتمد هذه الأسس.
وعن تجربة كتابته للرواية يقول كمال الدين : كلّ يوم صباحًا، أستيقظ، أصحو قليلا، أشرب القهوة ثم (أرمي بنفسي) في لجّة الكتابة. أيّ شيء يطرأ في ذهني أكتبه. أرتجل وأرتجل وأصغي إلى الكلمات وعلاقاتها المتناقضة وعلاقتها المتناغمة. موسيقيّتها ونشازها. سرعتها وبطئها. ثقلها وخفّتها. تأتأتها وانسيابها، أخضِعُ ارتجالاتي للتنويع ولا أمنع نفسي من أيّ شيء سوى أن تسلك سبيل التكرار المؤدّي إلى الرتابة. كان الهدف أقصاه كتابة صفحة في اليوم يليها التوقّف عن العمل.
كثيرا ما حملتني أفكار أو صور أو ثيمات أو أحداث وفتحتْ لي آفاقًا تغويني بالتعمّق فيها أو الاستطراد، فأمنع نفسي وأغادر الورقة متعهِّدا لنفسي أن لا أعود إلى العمل غدا بما علق في رأسي ووجداني من استطرادات وآفاق وغوايات
هدفي كلّ يوم كان التمرين التجريديّ لا الإنتاج
هي أربع ساعات إلى خمس ساعات تبدأ صباحا ثم أتوقّف..
لأجل الحفاظ على طزاجة وعفويّة وتقنيّة التمارين السرديّة أقنعت نفسي بأنّ الكتابة بحاجة أيضا إلى تمارين ارتجاليّة يوميّة لا تضع في بالها نشر ما يَنتجُ عنها.
ساعدني في هذا، إلى جانب عملي المسرحيّ القائم أساسا على هذا التصوّر، معايشة أصدقائي الفنّانين التشكيليّين والموسيقيّين. التشكيليّ يتمرّن يوميّا على التخطيط والتلوين ويدفع نقودًا لاستضافة موديل تقف أمامه في الأتيليه لكي يضبط تقنياته ويربطها بأحاسيسه المؤدّية إلى تثقيف العفويّة والزاوج بها. الموسيقِي يعزفُ ارتجالات يوميّة لساعات دون أن يفكّر بتحويل الارتجال إلى ألحان. لكن إذا تحوّلت تلك الارتجالات إلى لحن فذاك أمر مفرح.
إنّ الدوافع الأهمّ هي المتعة والحفاظ على ليونة الأدوات وتجديدها وتحديثها وما بعد تحديثها
هكذا اشتغلتُ ستّة أسابيع..
أدخلُ غرفة العمل، بعد خمسين دقيقة استراحة عشرة دقائق، عودة إلى العمل 50 دقيقة فاستراحة وهكذا..
عند انتهاء الأسابيع الستّة وجدتُ أن (التخطيطات السرديّة) على الورق تحتوي شخصيّات تُعاود الظهورَ بمختلف الطرق والأسماء وأنّ الثيمات تعود بلحمها ودمها إلى جسدٍ تعرّض للتشظّي. وجدتُ أنّي أشتغل حينا على تقنية الريبورتاج وحينا على آليّات القصّة القصيرة وأحيانا أخرى على أسلوب المونولوج المسرحيّ أو على منوال الراوي وقد أقتفي أثار أمور السحر غير الواضحة لدى أحمد بن علي البونيّ في (شمس المعارف الكبرى)
وضعتُ الصفحات التي تعود بتقنياتها إلى المونولوج على جهة وتلك التي تنتمي إلى الريبورتاج في جهة ثانية وتلك التي تنتمي للقصة جهة ثالثة والروحانيّات في جهة رابعة..
وعن كل تلك التمازجات والتداخلات التي قادته الى متاهات ” مروج جهنم ” يقول : تلك كانت طريقة في التشكّل عدتُ من خلالها إلى تقنيات التصوير الزيتيّ للهولنديّ يان فان آيك. ثمّ صرتُ أربط الصفحات مع بعضها بعضا. فتارة أستدعي الموسيقيّة والإيقاع، وتارة أعتمد اللون والأجواء، وتارة الثيمة والمحتوى، وتارة أخرى ترابط الشخصيّات أو سياق الأحداث
خيّاطا لمختلف أنواع الأقمشة الكتابيّة صرتُ..
عندما اكتمل الرداء الريبورتاجيّ ضبطتُ تقنياته الصحافيّة وحين أنجزتُ المونولوج اعتمدتُ الدراماتورغيا، وكذا الأمرُ مع بقيّة العناصر..
أنت ترى بالطبع أنني لا أتحدث عن المحتوى.
يقدم لنا المسرحي والروائي العراقي المغترب حازم كمال الدين رابع أعماله المنشغلة بالحروب ومخرجاتها بجرأة إستخدام جسد المرأة والعلاقات الشاذة إيروتيكياً خارجاً من تابوات الدين والسلطة والجنس ..
في روايته الجديدة “مروج جهنم” يتصدى كمال الدين لموضوعة الحرب على الرغم من أنه يعيش في بلجيكا منذ 31 سنة ، فضلا عن سنوات اغتراب وغربة في بيروت ودمشق عايش خلالها مرحلة حصار بيروت من قبل القوات الاسرائيلية 1982 ومن ثم فضيحة النظام العربي برمته سقوط أول عاصمة عربية على يد شارون البلدوزر .
رأينا في العقد الماضي وهذا العقد بأم أعيننا كيف ترزح أوطاننا تحت نير حروبٍ (لها مؤلف ومخرج وممثلون) تقود إلى تغييرات جذرية في المجتمع على صعيد الاقتصاد والأعراف والإيمانات والمرجعيات التاريخية والدينية والآيديولوجية
يقول الناشر عن الرواية : ” مروج جهنّم” تنظر لهذا من خلال فتاة لم تصل السابعة عشرة من عمرها بعد. داليا رشدي تُختطف فتجد نفسها جارية تقدم خدمات معطّرة بشعارات آيديولوجية.
في مشاهد فنتازيا ربما يكون الواقع أشد غرائبية منها كما يقول ماركيز عن سحرية أدب أميركا اللاتينية .
من منظار فتاة الرقص في ردهات مستشفى مختصة بانتج جيل بلا آباء ، نتعرف على الظاهرة الجديدة: إستخدام جسد المرأة باعتبارها وسيلة نضال أو جهاد !
للرواية شخصيتان مركزيتان: داليا رشدي الفتاة التي تقضي جُلّ حياتها في تقديم تلك الخدمات، وعقيدٌ يعمل بالإضافة إلى وظيفته كقائد حربي، طبيبا في مستشفى يقع على خط النار.
لايتعامل حازم كمال الدين مع الحرب بطريقة ميلودرامية أو تراجيدية. إنه يقترب من الحرب بطريقة تضع القارئ على حافة الرغبة في الانفجار بالضحك وعدم الجرأة على القيام بذلك أمام فداحة ما يحصل داخل طيات الكتاب.
تكتب منى الجوادي الباحثة التونسية في السرديات عن الرواية “يعود الكاتب والمسرحي حازم كمال الدين إلى الواجهة برواية جديدة عصيّة على التلخيص أو التأطير في حكاية”.
وتواصل ” تقرأ “مروج جهنّم” للروائيّ حازم كمال الدين فتضعك منذ سطورها الأولى على الخطوط الأماميّة لإحدى المعارك المجهولة غير المعلنة وغير مأمونة العواقب، يرد هذا التعاقد القرائيّ الضمنيّ على لسان الشخصيّة الأنثويّة التي تضطلع بفعل السرد على امتداد النصّ الروائيّ منذ بدايته”.
فتقدم نفسها في النص الافتتاحي للرواية “اسمي داليا رشدي أُرسلت للعمل في مستشفى يقع على الخطوط الأماميّة. سبب إرسالي إلى هناك هو عقيد قوّات بريّة شهير اسمه “أبو سفيان الموسوي”. فأيّة حرب تلك التي يخوضها القارئ والرواية على حدّ سواء؟
تستلهم “مروج جهنّم” ظاهرة “جهاد النكاح” وما يحفّ هذه الظاهرة من وقائع وأقاويل وتصوّرات إطارًا مرجعيّاً يعلن عن خيار فنّيّ جريء تسلكه الرواية لعلّه أقرب إلى ما يسمّى بـ”السرديّات الإيروتيكيّة”، فيحضر الجسد الأنثويّ في هذا العمل الروائيّ بكلّ تمثّلاته الإيروتيكيّة والسياسيّة والدينيّة والثقافيّة حضورًا يغادر فيه الجسد معانيه المادّيّة القريبة ليستحيل علامة فنّـيّة منتجة وثيمة كبرى تستقطب الدلالة وتتنوّع معها أشكالُ التصوير السرديّ لتبلغ حدّ التخييل الفانطاستيكيّ العجائبيّ، فيمتدّ الجسد الأنثويّ فضاء سورياليّا عجيبا يحطّ فيه التخييل الروائيّ رحاله ويبني عوالمه.
إنّ رواية “مروج جهنّم” إذ تختار لنفسها هذا المسلك الوعر الممنوع، تثور ولاشكّ على إكراهات الكتابة، فترسم لنفسها دربا أصيلا يميّزها لعلّ حازم كمال الدين يعلن عنه في التصدير الذي تخيّره لروايته بقوله “الصراط المستقيم إلى الحريّة”.
يذكر أن “مروج جهنّم” الصادرة عن دار فضاءات الاردنية ،هي الرواية الرابعة للكاتب بعد “مياه متصحّرة” (القائمة الطويلة لجائزة البوكر) التي ترجمت للغة الهولندية، ورواية كباريهت، و “أورال” الصادرة باللغة الهولندية. فضلا عن ثمانية كتب في المسرح، ومجموعتين قصصيتين.