خاص: حاورته- سماح عادل
“عبد النبي فرج” كاتب مصري، صدر له: (جسد في ظل- طفولة ضائعة- الحروب الأخيرة للعبيد- ريح فبراير- مزرعة الجنرالات- سجن مفتوح).
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- الكتابة تكونت داخلي من الوجع والمحنة، وبعد ذلك تحولت إلي شغف، بدأت التفكير في الكتابة عندما شعرت بالظلم وانعدام العدالة، والقمع المجحف، لذلك فكرت في الانتقام، وكتابة رواية عن ناظر مدرسة وردان الثانوية، ثم كنوع من الشفقة تجاه صديق حيث تعرض أيضاً لظلم بين من والده، وكتبت فعلاَ مقطع طويل من رواية وأسميتها (الأب القاسي) ثم مزقتها، وكتبت شعر، ثم أعدت كتابة الرواية مرة ثانية، وفي يوم كان في بيتنا ابن عمتي وقلت متفاخراً إنني أكتب قصة وشعر فطلب مني أن يراها، وفعلا أحضرتها وأنا في غاية الخجل ولكنه قال: أنت بتكتب كويس قصة لكن شعر لا خليك في الرواية ومن يومها وأنا اقرأ وأكتب، وأسمع وأشاهد شغفا لهذا الفن العظيم.
(كتابات) في رواية (سجن مفتوح) تناولت فساد الوسط الثقافي وكيف يقف كسد أمام الكتاب من خارجه حدثنا عن ذلك؟
- الكل يعلم يقيناً أن هناك مافيا ثقافية وأن من يطفوا علي السطح في الغالب الأعم هم الجثث، ورغم ذلك هناك حالة تواطؤ لا مثيل لها لتصدير الكتابات الرديئة حتى أصبحت القاهرة عنوان للكتابات المتواضعة، وقد عبر عشرات من العرب عن هذا الرأي لأن ما يقرءوه فعلاً مثير للرثاء، هناك تحالف قوي بين المجلات الثقافية، ومحرري الصفحات الأدبية في الصحف، ودور النشر الكبيرة لصناعة نجوم داخل هذا البيت بالتحالف مع المؤسسات الثقافية في مصر، الكارثة أن هؤلاء المجرمون هم عنوان لكل شيء للمعارضة، لليسار، للكتابة الحداثية وهم أبعد عن كل ذلك، هل هي صدفة أن كل من يفوز بالجوائز العربية في العشر سنوات الأخيرة من يعملون بالحقل الصحافي. ولماذا لأنهم أهل تزيف وعي وسياج صلب لصالح السلطة المستبدة.
(كتابات) في رواية (مزرعة الجنرالات) كانت الشخصيات أقرب إلى الرموز وأنماط من الشخصيات في المجتمع لما؟
- هذه الرواية تمثل لي أهمية خاصة لذلك سعادتي كبيرة بإعادة طباعتها، من خلال دار طموح وهي “دار الدراويش” وقد تعامل معي المحرر العام الشاعر “بدر السويطي” بطريقة غاية في الرقي، رواية “مزرعة الجنرالات”، بداية نضجي ككاتب روائي والمؤكد بالنسبة أنني لم أكتب الرواية تمثيل لنماذج مباشرة من الواقع، يعني مثلا، تحول الجنرال لرجل دين كان مفاجأة لي تماما، وفصل الخيالي كان وليد التخييل، أكتب وفي ذهني فكرة عن البناء الروائي وفكرة عامة ولكن شخوصي من لحم ودم لأنني ابن حياة ويشغلني حيوات الناس وتحولاتهم.
المزرعة خرجت من بوتقة الألم والخيبة واليأس بعد حرب الخليج واحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، وكان شاغلي الأكبر كيف تكتب رواية عن هذا الواقع الكارثي دون أن تتورط في المباشرة، قراءة عميقة للواقع السوداوي، دون أن تتحول شخوص الرواية للتعبير عن فلان في الواقع أو علان وأرجو أن أكون وفقت في ذلك.
(كتابات) في رواية (مزرعة الجنرالات) كان الدين والحرب والسلطة مفردات هامة ولها دلالاتها.. حدثنا عن ذلك؟
- نحن نعيش في حروب مستمرة وصراع دامي، سواء داخل الأسرة الصغيرة والرغبات المرعبة في الاستحواذ والهيمنة علي القرار، إلي العائلة والشارع والقرية والمدينة والسلطة بمعناها الواسع، حيث السلطة السياسية وسياسة القمع والاستئثار بالسلطة وغياب أي نوع من العدالة، كيف يمكن أن تكون كاتباً وتنفصل عن الواقع وهموم الأمة، كيف يمكن أن تتجاهل دور رجل الدين أو الجنرال في جرنا بشكل مزري لنخوض في الوحل، ويتراجع دورنا كأمة كبيرة صاحبة حضارة تاريخية عظيمة لنتحول لشعب متسول، جاهل، يتخبط في الظلام والعنف والفقر والمرض.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في مصر في الوقت الحالي وهل اختلف بعد ثورة يناير؟
- كانت لنا آمال كبري لننتصر ونسحق الاستبداد ونتحرر، وتجد الكفاءات والموهوبين فرصتهم في وطن عظيم مثل مصر، ولكن رغم كون المصريين دفعوا ثمناً باهظا في سنوات الثورة وما بعدها، ولكن النظام الذي تحول لمافيا الدعم اللامحدود من الغرب أصبح صخرة صلبة تكسرت عليها آمالنا مرحلياً، لذلك حال الثقافة كما هو بل أصبح في غاية البؤس، ولكن أؤكد لكِ أن المصريين الأحرار سينتصرون في النهاية، فالنظام يتفسخ من الداخل بسبب غياب الحرية والعدالة وانعدام الكفاءات سواء الثقافية أو السياسية في إدارة ماكينة النظام.
(كتابات) هاجمت في حوار لك الجوائز الثقافية لما.. وهل هناك جوائز حالية تتمتع بمصداقية في رأيك؟
- كما قلت من يطفو علي السطح هم الجثث، والجثث من تقوم بالتحكيم في الجوائز، لذلك تتم السيطرة عليهم، وإن لم يكن داخل جيتو ما فيخضع لابتزاز الصحافيين، ولذلك لا أحد يحصل عليها خارج دوائر الصحافيين، أو داخل مؤسسة قوية قادرة علي منح عطايا، أو كوته للمرأة أو لأسباب سياسية بحته، من فضلكِ راجعي قائمة الفائزين بالجوائز الأدبية، وكثير من الجوائز يتم معرفة الأسماء قبل الإعلان بفترة كبيرة، بل أعرف بشكل شخصي أن محكم أخذ رواية مطبوعة لصديقة وجعلها تفوز مع أن شرط الجائزة أن لا تكون قد نشرت قبل ذلك.
هذه جوائز شبهه تشين من يحصل عليها، خاصة من رجال أعمال متورطين في الفساد بشكل كامل، وأنا بشكل شخصي لم أتقدم لجائزة ولكن كنت متفائل بجائزة الملتقي للقصة القصيرة وقدمت لها، ولكن مهما حسنت النوايا فستظل جوائز يحكمها أي شيء غير الإبداع.
(كتابات) هل عانيت من تهميش أو اضطهاد ما ككاتب.. ولما؟
- عانيت التهميش والإقصاء لكوني كاتباً حراً، لا أنافق أحدا، أو أكتب عن أحد لا يستحق، أكتب بدون حسابات، بدون الانطواء تحت خيمة سوداء من الأفاقين ولاعبي الثلاث ورقات، أكتب بحرية سواء كتاباتي الإبداعية، أو السياسية، أهاجم رموز الفساد دون أقنعة، لا اكتب تحت اسم مستعار، أنا واضح وأكتب لصالح بلدي وتحررها، ولا يهم الخسارات في النهاية أنت واختياراتك وضميرك.
(كتابات) هل تعيش الرواية في المنطقة عصر ازدهارها وما هي الأسباب في رأيك؟
- لست ناقدا ولا أعرف أن كانت الرواية مزدهرة، أم لا لأن المشهد غائم ومعقد، ولا يوجد نقاد تواكب ما ينشر تستطيع أن تقدم قراءة دقيقة وأمينة عن المشهد، ولكن تحول النقاد لخرتية وسماسرة وخدم لصالح فئة يرضي عنها النظام والمؤسسة الثقافية الفاسدة، ورغم ذلك هناك كتاب ومبدعون يتابعون المشهد، ولكن في النهاية تظل حالات فردية، ولا يمكن التعويل عليهم، ورهاننا في النهاية علي المستقبل مع تحرر هذه البلد ساعتها سينبت نقادا تنويريين ذوي ضمير حي يقظ يفرز الغث من السمين.
(كتابات) هل تعد وسائل التواصل الاجتماعي منفذ للكتاب أو بديل للصحافة الثقافية في رأيك؟
- وسائل التواصل لها دور غاية في الأهمية وفعلا منفذ غاية في الأهمية لتحرر الكاتب الحقيقي من هيمنة أفراد معدومي الضمير، يقومون علي تحرير المجلات الثقافية والصفحات الثقافية في الصحف والمؤسسات الثقافية الرسمية ودور النشر، ولكن سيظل دور صغير، ماذا تفعل “السوشيال ميديا” مع الرواية والمقال النقدي المحكم، ماذا تفعل تجاه شريحة ضخمة لا تستطيع أن تقرأ علي الانترنت، علينا إذا كنا نريد أن تقدم اقتراحات ثورية تساهم في تنمية الوعي في كل قري مصر.
(كتابات) ما هي الصعوبات التي واجهتك ككاتب وما هو جديدك ؟
- أن لا أجد صعوبة حاليا إلا في نشر أعمالي الروائي والقصصية من خلال منفذ مقروء، هذه المعاناة حاولت بكل جدية حلها من خلال عمل دار نشر محدودة ولكن لم استطع الاستمرار بسبب ضعف المال، والنشر يحتاج لدعم مادي كبير لا طاقة لدي عليه، إضافة لعدم وجود دعاية كافية من محرري المواقع الثقافية بسبب مواقفي تجاههم لإضافة لأمراض الهامش الذي لا تقل خطورة عن أمراض الجانب السلطوي، فقد كان الكاتب يدعم كتابه بمبلغ هزيل، مع الاهتمام بكل نواحي عملية النشر، مع احترام مبالغ فيه تجاه نصوص المبدعون، ورغم ذلك لم أجد منهم إلا الخسة، لدرجة أن شاعر نشرت له من باب التعاطف لا أكثر وجمعت ديوانه قصيدة بقصيدة من خلال الأنبوكس وتم تصحيحها، وحصل علي حقوقه كاملة وشكرني علي ذلك وكان لي 800 جنية ثمنا نسخ اشتراها وعندما طالبته به اتهمني بالسرقة كانت صدمه حقيقية، لذلك قررت أن أترك النشر للشرفاء!.
وقد عملت قبل ذلك موقعا الكترونياً وهو موقع “ألف ليلة وليلة” وقدم آلاف الموضوعات لمعظم المثقفين والمبدعين العرب لوجه الثقافة، ولكن في النهاية ليس لدي طاقة ولا معين لذلك أيضا أغلفت الموقع، وأرسلت أعمالي من خلال البريد الالكتروني لدور النشر الكبيرة، وقد تم تجاهل حتي الرد أما من رد مثل الدار المصرية اللبنانية أرسلت مشكورة رسالة لي تقول الرواية جيدة، ولكن لدينا تكدس في الأعمال المنشورة في المخازن مع أن هذه الدار تنشر كم من الكتب الغثة التي لا تستحق الورق التي طبعت عليه.
أما جديدي فلدي مجموعة قصص بعنوان (الفصول الأربعة) ومجموعة (بئر يوسف) ورواية (زواحف سامة) وقاربت علي الانتهاء من رواية (حدائق كافكا المعلقة).
قصة خِزْي لعبد النبي فرج..
كان يعلمُ أنّ قضاءَ اللهِ قد نفذَ، ولنْ يمرَّ الليلُ إلاَّ وقد سمِعَ طلقًا ناريًّا يشرخُ الفضاءَ، وتخرجُ رصاصة صفراء لتنغرسَ في صدرهِ، أو تُفجِّر رأسَ ابنه وينتهي أمره، وأنَّه لا قوَّة في الأرضِ تستطيعُ أن تمنعَ ذلكَ؛ لذلكَ أخذَ يبكي وحدَه في الغرفةِ بعدَ أنْ نامتْ زوجتُهُ؛ التي لا تعلم شيئًا عمَّا حدثَ، أو سيحدُثُ، ثم برق في رأسِه سؤالٌ: والجثَّة؟. أريدُ الجثَّةَ، أريدُ أن يُغَسَّلَ على شرْعِ اللهِ، ويُصلَّى عليه، وأعرفُ له قبرًا، أزورُهُ معَ أولادِهِ وزوجتِهِ وأُمِّه المَسْكينةِ. ظلَّ يُحاولُ القيامَ وجسدُهُ يُعاندُهُ، خامِلاً، غيرَ قادرٍ على الحركةِ، عافَرَ وهو يستندُ على الكنبةِ، وفردَ طولَه، ثمَّ التقطَ الجلابيةَ الكشمير من على المِسْمار وارتداها، وخرجَ من البيت.
أغلقَ وراءَه البابَ بهدوء؛ حتى لا تقوم زوجتُه وتسألُه أسئلةً لنْ يستطيعَ الإجابةَ عنها، لا أحدَ في الشَّارع، صَمْتٌ، كأنَّ البلد تحوَّلتْ إلى مقبرةٍ، أضواءٌ صفراءُ تبخُّ منْ اللمباتِ المزروعَةِ في عواميد الإنارةِ، شَعَرَ بالبردِ منْ هذا الصَّقيعِ المتوحِّشِ؛ منْ موجاتِ الهَوَاءِ الباردِ الَّتي تنفذُ إلى عظامِهِ. ارتعشَ، فأخرجَ سيجارةً، جاهدَ حتَّى أشعلَها، سخونة تجتاحُ جسدَه، لينبتَ عرقٌ باردٌ على جبهتِهِ، سقطتْ السِّيجارةُ دونَ أن يدري، تجاوزَ الموقفَ ودخلَ في طريق خاصّ بهم، كان الطَّريقُ متربًا ومظلِمًا تمامًا، وإضاءة القصر، تأتي من بعيد كثيفةً، اقترب، أنصتَ لصوت الكلابِ، ابتسم، جاءت الكلابُ السَّوداء الضَّخمة تجري نحوَه في شراسَةٍ، وهو يسير دون أن يبالي، حتَّى التفتَ حوله، أخذت تتشمَّمه، وتهزُّ ذيلَها، ركعَ على ركبتيه وأخذ يتحسَّس ظهورَ الكلابِ السَّوداء النَّاعمة، يُداعبُها ويضعُ يدَه في فمِها، ثمَّ قامَ وتوجَّه نحو القصرِ مُباشرة.
“لن يحدثَ شيءٌ، أنا مجرَّد رجل عجوز مسكين، ولا يمكن أبدًا أنْ يُفكِّرَ أحدٌ في إيذائي، للسِّن حُكمٌ، وأنا وصلتُ إلى سنٍّ لو تمَّ قتلي فيه فسيكونُ عارًا عليهم إلى الأبد، ثمَّ هم ليسوا بهذا السُّوءِ، هم في النِّهايةِ، رجالٌ أثرياءٌ شُرفاء، أولادُ أصولٍ، دائمًا يعطفونَ على الرِّجالِ المساكينَ أمثالي، وأنا طول عُمري أعمل خدي مَدَاسًا لهم، ولن ينسوا هذا، وكون ابني أخطأَ فسوفَ يُعاقَب، لستُ ضدَّ أنْ يُعاقَبَ، ليتركوا لي قط جثَّة ابني؛ ليعتبروها مكافأةَ نهايةِ خدمتِي، لن يخذلونِي، أثقُ في هذا.
دفعَ البابَ الحديديَّ؛ فخرجَ الحرَّاسُ من وراءِ البابِ، وكانَ السِّلاحُ مُوجَّهًا إلى صدرِهِ.
– أريدُ أن أتكلَّمَ، خمسَ دقائق فقط، رجاءً، نظَرَ إليْه حارسٌ ضخمٌ وقال:
– انتظرْ.
اختَفَى داخلَ القصرِ، وعادَ بعدَ فترةٍ؛ ليفتح البوَّابةَ، ويدعه يدخلُ، يعرفُ القصرَ جيِّدًا؛ لذلكَ ذهبَ مباشرةً حيثُ يجلسونَ، قال: – السَّلامُ عليكم، لم يرد أحدٌ، كانوا يجلسونَ على الكراسيِّ المذهَّبةِ في الصَّالون في الدورِ الأرضِيِّ، لم يدعه أحدٌ إلى الجلوسِ، أو الكلامِ، الكلُّ كانَ حاضرًا، كائناتٌ عفيَّةٌ، تجلسُ بثقةٍ ومقدرَةٍ.
أخذَ يتكلَّمُ عنْ حُرْمَةِ الجَسَدِ وأنَّ التَّنكيلَ بالجُثثِ ليسَ منْ شِيمِ الأشرَافِ، أخذَ يُثرثرُ عن الشَّبابِ المُنفلتِ، وعنْ الحياةِ التي ضاعتْ في أروقةِ القصر، وأهلِ السَّماحِ، الكِرَامِ، وأنَّه يُريدُ فقطْ أنْ يُواريَ جَسَد… فانطلقتْ رصاصةٌ في صدرِهِ أردتْهُ قتيلاً.