تمر هذه الايام , ونحن في عام 2018 , الذكرى الستون لتأسيس كلية اللغات في جامعة بغداد ( انظر مقالتينا بعنوان – ستون عاما على تأسيس كلية اللغات في جامعة بغداد , و , عود على الذكرى الستين لكلية اللغات ) , واود هنا ان اتوقف عند بعض الاسماء الكبيرة في عالم اللغات , والتي رحلت , ولكنها أبقت أثرها في تاريخنا العلمي وتاريخ جامعة بغداد ايضا , هذا التاريخ الذي لم يلتفت له – مع الاسف الشديد – مؤرخونا وباحثونا كما يجب , وهؤلاء – حسب حروف الهجاء – هم كل من حياة شرارة ( من قسم اللغة الروسية ) وفؤاد ابراهيم ( من قسم اللغة الالمانية ) , واقدم عن كل واحد منهما شيئا مما يخزنه قلبي.
حياة شرارة
=======
حياة ابنة اللبناني محمد شرارة , الذي انتقل من لبنان الى العراق واستقر في النجف وتزوج من عراقية , واصبح كاتبا وصحافيا في العراق يشار اليه بالبنان كما يقول التعبير الكلاسيكي العربي الجميل , والذي لا يزال بحاجة لدراسته باعتباره ظاهرة ثقافية فذّة ومتميزه في تاريخ ثقافة العراق ولبنان معا وفي دنيا النقد الادبي العربي بشكل عام. حاولت حياة ان تجمع تراثه , وقد اخبرتني مرة ان المواد التي جمعتها تكفي لاصدار ستة كتب , وكانت متألمة وهي تقول لي , ان والدها لم يستطع في حياته ان يصدر اي كتاب , وقد اصدرت حياة فعلا الكتاب الاول له ويضم مقالاته في التراث العربي فقط , وكان بعنوان جميل وفريد اختارته حياة من شعر المتنبي الخالد وهو – ( الخيل والليل والبيداء تعرفني) , واتذكر كم كانت سعيدة وفخورة وهي تعرض عليّ ذلك الكتاب, ولكنها لم تستطع الاستمرار بمشروعها الثقافي الرائع هذا . كانت حياة حسّاسة جدا , وحالمة جدا , وعنيدة جدا , وتعيش في اطار عالمها الفكري البحت دون مراعاة عالمها الواقعي المحيط بها , ولهذا ارادت ان تجمع كل ما كتبه والدها محمد شرارة من مقالات مبعثرة في عشرات المجلات والجرائد العراقية منذ اواسط القرن العشرين, وان تعيد تصنيفها وطبعها ونشرها في كتب , وهو مشروع عملاق يجب ان تقوم به مجموعة من الباحثين المتخصصين او مؤسسة ثقافية باكملها , الا انها حاولت القيام بهذه المهمة بمفردها , و هو عمل نبيل بحد ذاته طبعا وبطولي ايضا , ولكنها لم تستطع تحقيقه , مثلما ارادت – وبمفردها ايضا – ان تقوم بترجمة المؤلفات الكاملة لتورغينيف عن الروسية , رغم علمها ان معظم هذه المؤلفات مترجمة الى العربية , وكم حاولت ان اثنيها عن القيام بذلك , وكنت اقول لها مرارا ان كبار المترجمين العرب قاموا بذلك قبلها مثل غائب طعمه فرمان وخيري الضامن واكرم فاضل , ولكنها أصرّت على تحقيق فكرتها , وقالت لي ضاحكة , انها سوف تطلع على تلك الترجمات بعد انهاء ترجمتها كي لا يؤثر اسلوب تلك الترجمات على عملها , واستطاعت فعلا ان تقدم ثلاثة كتب , الا انها لم تستطع اكمال خططها مع الاسف . لقد عرقلت عملية انتحارها التراجيدية كل هذه المشاريع الثقافية الكبيرة التي بدأت بها . من الذي سيقوم الان بجمع تراث محمد شرارة وطبعه وتقديمه الى الاجيال الجديدة مثلما ارادت حياة ؟ ومن الذي سيقوم باكمال احلام ابنته حياة محمد شرارة الادبية وخططها العلمية هذه ؟ لقد اقترحت على قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد كتابة اطروحة ماجستير حول أ.د. حياة شرارة , اول تدريسي يحصل على درجة ( بروفيسور ) في تاريخ هذا القسم , واعلنت عن استعدادي للمساهمة بذلك العمل العلمي والتعاون مع المشرف والباحث , ولكن …
فؤاد ابراهيم
===========
فؤاد ابراهيم محمد البياتي , احد الاعلام البارزة في قسم اللغة الالمانية , وهو الوحيد بيننا , الذي حصل على لقب – ( الشهيد !) , وما أغلى ثمن هذا اللقب الذي حصلت عليه يا أبا علي الحبيب وما أقساه !!! لقد كنت انا آنذاك مع وفد جامعة بغداد في ايطاليا , وكنا نتهيأ لاجتماع مع مجموعة كبيرة من الشباب الايطالي المتعاطف مع العراق , والذين قرروا ان يقدموا لقسم اللغة الايطالية في كلية اللغات كتبا باللغة الايطالية من مكتباتهم الشخصية , وتحول هذا الاجتماع الى جلسة عفوية لشجب اغتيال رئيس قسم اللغة الالمانية في كليتنا . وعدت الى بغداد بعد ايام , وعقدنا جلسة لمجلس الكلية واتخذنا ثلاث توصيات هي – اقامة تمثال نصفي لفؤاد نضعه على المنصة الفارغة في الحديقة الامامية للكلية حيث كان هناك تمثال نصفي لصدام , واطلاق اسمه على القاعة المركزية للكلية , وعلى مكتبة قسم اللغة الالمانية , ولكن مجلس الجامعة اعترض على مسألة التمثال , واعطانا حق اختيار توصية واحدة من التوصيتين , وهكذا استقر اطلاق اسمه على القاعة المركزية , والتي لازالت تحمل اسمه لحد الان . لقد خلّد الدكتور فؤاد اسمه في كليتنا بعملين قام بهما آنذاك – العمل الاول هو اصداره لكتاب قواعد اللغة الالمانية باربعة اجزاء , والذي قسّمه بين طلبة الدراسات العليا لنيل دبلوم الترجمة , ثم جمعه واصدرته الكلية , وقد أصرّ الدكتور فؤاد ان يثبت اسماء طلبة دبلوم الترجمة على كل جزء من اجزاء الكتاب , اما العمل الثاني له , فهو الذي قام بالاتصال بالسفارة الالمانية واقنع السفير ان تتبرع المانيا ببناء مكتبة قسم اللغة الالمانية , وتزويدها بالكتب الخاصة باللغة الالمانية وآدابها , وهي المكتبة الموجودة حاليا , والتي تزهو بها كلية اللغات لحد الان , والتي تعد مفخرة من مفاخر جامعة بغداد , ولا زلت اتذكر فرحه وهو يشارك بافتتاح المكتبة بحضور رئيس جامعة بغداد عندئذ أ.د. موسى الموسوي والسفير الالماني في العراق . ولم يتفاخر فؤاد يوما بعمله العملاق هذا ابدا , بل ولم يتكلم عنه اطلاقا, لأن تواضع العلماء كان يجري في دمه وتصرفاته وأخلاقه .